حسن فحص يكتب:
إيران والمدخل شراكتها في القرار الفلسطيني
قد لا يكون مصادفة أن تتزامن العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة الأخيرة ضد "حركة الجهاد الإسلامي" مع الزيارة التي قام بها الأمين العام لهذه الحركة إلى العاصمة الإيرانية طهران، واللقاءات التي عقدها مع كبار قادة النظام من المرشد الأعلى ووصولاً إلى قائد قوات حرس الثورة الجنرال حسين سلامي، فالإسرائيلي كان واضحاً في أهداف العملية الأمنية والعسكرية بالعمل على تفكيك "لغم" هذه الحركة وقطع الطريق على انتقالها من العمل في الظل، ظل "حركة حماس"، إلى مقدمة المشهد الفلسطيني، خصوصاً أنها بدأت باعتقال أحد قياديي الصف الأول في الحركة في الضفة الغربية قبل أن تغتال قيادات عسكرية وميدانية متقدمة.
الحكومة الإسرائيلية تدرك حجم العلاقة العضوية التي تربط بين طهران و"حركة الجهاد"، وأنها تمثل الذراع الإيرانية على ساحة العمل الفلسطيني، وتتقدم على "حركة حماس" لاعتبارات تاريخية وسياسية وخلفيات أيديولوجية، باعتبار أن "الجهاد" لم تخرج من رحم جماعة الإخوان مثل "حماس"، الأمر الذي يعطيها هامشاً أكبر من "حماس" سياسياً وعقائدياً، ويسمح بأن تكون أقرب إلى طهران ومشروعها.
وفي مقاربة العلاقة بين إيران من جهة و"حماس" و"الجهاد" من جهة أخرى، يمكن القول إن طهران تدرك جيداً أن العلاقة مع قيادة "حماس" وجناحها العسكري تمر من خلال عواصم إقليمية عربية وغير عربية تحكمها المصلحة المباشرة، كما هي الحال في العلاقة مع مصر على الرغم من العداء المستحكم بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان، فضلاً عن العلاقة مع دولة قطر وما تملكه من تأثير في هذه القيادات وقراراتها وخياراتها، إضافة إلى العلاقة العضوية التي تربط بين هذه الحركة والدولة التركية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان الذي سعى ويسعى إلى أن يكون مرجعية التنظيم الدولي للإخوان، وأن هذه العواصم ترتبط بعلاقات مميزة مع الحكومة الإسرائيلية، مثل معاهدة "كامب ديفيد" مع مصر والانفتاح القطري القديم وقرار العودة للعلاقات الطبيعية الذي اتخذه أردوغان أخيراً مع تل أبيب، بما يعيد العلاقة بينهما إلى سابق عهدها في مرحلة ما قبل الإخوانية والأردوغانية يوم كان العسكر ممسكين بالدولة والسلطات والقرار السياسي.
أما في حال "الجهاد" فإن الأمر يختلف، فالعلاقة مع طهران منذ ما بعد العام 2011 لا تمر بأي من العواصم الإقليمية، وقيادتها لم تعد مجبرة أو ملزمة على تنسيق خطواتها بالتفاهم مع دمشق، مما يعني أن المرجعية السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية لهذه الحركة باتت مرجعية إيرانية خالصة من دون أية شراكة من أي طرف عربي أو تركي.
ومن هنا فإن الرهان الإيراني في المرحلة المقبلة سيدور ويتركز على تفعيل دور وموقع "حركة الجهاد" في المعادلات السياسية والعسكرية والأمنية على الساحة الفلسطينية، لا سيما مع ما كشفته معركة غزة الأخيرة، والتريث أو الإحجام الذي مارسته "حماس" في الانخراط فيها إلى جانب الجهاد، مما وضع بالنسبة إلى "الجهاد" دور غرفة العمليات المشتركة في دائرة التشكيك والسؤال عن جدوى الاستمرار فيها، ومدى فعاليتها بعد أن تركت وحيدة تواجه العملية الإسرائيلية التي كبدتها خسائر مؤلمة في صفوف قيادات الصف الأول، فضلاً عن رفع مستوى الاستهداف الإسرائيلي لأمينها العام نخاله، والحديث عن ضرورة التخلص منه جدياً في أية دولة كان ووجد فيها.
التباين أو التقاطع في المواقف بين حركتي "حماس" و"الجهاد" على الساحة الفلسطينية على خلفية المرجعية الإقليمية والعربية لكلا الطرفين قد يدفع الراعي الإيراني للمحور الذي يقوده في المنطقة، إلى إدخال تعديل على أولوياته في العلاقة مع الفصائل الفلسطينية والانتقال إلى حسم خياره بالوقوف الصريح والعلني خلف "حركة الجهاد" بما أنها حليف موثوق أكثر من غيرها على هذه الساحة وما تشكله، أو باعتبارها المساحة أو المنصة التي تسمح لإيران الاحتفاظ بمناطق اشتباك مباشر مع إسرائيل يخدم استراتيجية تثبيت المواقع والتحاصص على الساحة الإقليمية في أية تسوية قد تحصل بالتوافق مع عواصم القرار الدولي وتحديداً واشنطن.
كلام قائد حرس الثورة الجنرال حسين سلامي خلال استقباله في طهران الأمين العام لـ "حركة الجهاد" زياد نخاله حول تفعيل جهود تسليح الفصائل في الضفة الغربية، يكشف عن توجه لدى القيادة الإيرانية لإعادة تفعيل المواجهة بينها وبين القيادة الإسرائيلية ونقلها إلى الضفة الغربية وعدم حصرها في قطاع غزة، مستفيدة من تجربة المعركة الأخيرة التي أطلق عليها المحور الإيراني عملية "سيف القدس".
توجه طهران لمشروع تسليح الضفة وعسكرة المواجهات فيها مع الإسرائيليين الذي يستهدف الفصائل المتحالفة معها، يعني إعادة تفعيل المشروع الذي بدأت فيه ما بعد العام 2005، وسيطرة "حماس" على نتائج الانتخابات وتولي رئاسة الوزراء، وبشكل جدي بعد العام 2006 وتجربة حرب يوليو (تموز) في لبنان الذي تركز وتمحور حينها على تعزيز موقع "حركة حماس" في مواجهة السلطة الفلسطينية و"منظمة التحرير" وحتى "حركة فتح"، بما يساعد "حماس" في الاستحواذ ومصادرة القرار الرسمي الفلسطيني.
وتمكنت الجهود الإيرانية التي قادها في تلك المرحلة قائد قوة القدس في الحرس قاسم سليماني من تدريب وبناء القوتين البشرية والصاروخية لـ "حماس" ونسبياً لـ "الجهاد"، ما ساعدهما في تكريس موقعهما على ساحة القرار الفلسطيني.
ويبدو أن العودة لمشروع التسليح يحمل رسائل إيرانية باتجاهات عدة، لعل أبرزها ما يتعلق بـ"حماس" ومستقبل العلاقة معها، خصوصاً بعد شعور حليف إيران الأول، "الجهاد"، بتخليها عنها في المعركة الأخيرة بما يؤكد قبول "حماس" بالموقف الإسرائيلي الذي قام على تحييدها وترك "الجهاد" وحيدة في المواجهة، مما يعني أن الرهانات الإيرانية على إمكان تشكيل جبهة فلسطينية من الحركتين تنسجم مع طموحاتها بات أمراً مشكوكاً فيه، وبالتالي أصبحت بحاجة إلى كشف كل أوراقها وتحديد خياراتها خلال المرحلة المقبلة، باعتماد "الجهاد" ممثلاً لها ولدورها على الساحة الفلسطينية، وأن المخطط الإسرائيلي بتحييد "حماس" وإخراجها من دائرة الاتهام بالولاء لإيران لن ينجح مع وجود الحليف الأساس وليس البديل، والقادر على حفظ واستمرار معادلة النفوذ.
لا شك في أن هذا المسعى الإيراني لن يصب في مصلحة السلطة الفلسطينية، بل على حسابها، خصوصاً بعد تصدي هذه السلطة لمشروع مصادرة القرار الفلسطيني والدفاع عن استقلالية خيارات "منظمة التحرير".
وفي حال ذهاب المنطقة إلى تسويات سياسية كما توحي مواقف الدول الإقليمية المعنية وعواصم القرار الدولي، فإن المخاوف قد تزداد من إمكان تحويل الساحة الفلسطينية إلى ساحة صراع مفتوح بين ثلاثة محاور، "السلطة" و"حماس" و"الجهاد"، لامتلاك القرار الفلسطيني والجلوس إلى طاولة التسوية خلال المرحلة المقبلة.