علي العميم يكتب:
هل حاول الإخوان المسلمون اغتيال العقاد؟
ربما لا يكون مفهوماً للقارئ والقارئة أن يتهم عبد اللطيف عبد الحليم، «الإخوان المسلمين»، في مقال كتبه في صحيفة سيارة، وأعاد نشره في كتاب، بأنهم أشاعوا أن العقاد كان يعقد ندوته وقت صلاة الجمعة، وفي مقابلة أحجم عن اتهامه هذا، ورمى التهمة على بعض أساتذته في كلية «دار العلوم»!
وكنت المتسبب في هذا الغموض، لأني لم أذكر اسم القناة. ولم أذكر اسمها، لأن التسجيل التلفزيوني الذي نقلت منه نص شهادته، كانت الصورة فيه غير نقية، فلم أتعرف على شعار القناة المكتوب بخط صغير.
ومع أني رأيت في هيئة المستضيف وسمعت من لغته ما يعلن عن سيما الصحوي، إلا أن هذا الأمر ليس كافياً للاستدلال على اسم القناة. فهناك أكثر من قناة صحوية.
وقبل أن أخط هذه السطور بحثت عن تسجيل تلفزيوني آخر للمقابلة معه تكون الصورة فيه نقية، ثم عثرت على بغيتي من البحث.
القناة اسمها قناة «دليل». وقناة «دليل» هي قناة إخوانية سرورية. وهذا ما جعل عبد اللطيف عبد الحليم يغير - بسلاسة وملاسة - جهة الاتهام أو الجهة المتهمة من «الإخوان المسلمين» إلى بعض أساتذته في كلية «دار العلوم». ولسان حاله كان يقول في أثنائها: لكل مقام مقال!
عبد اللطيف عبد الحليم، شاعر وناقد وأكاديمي. يمتاز أسلوبه في الكتابة بقوة السبك، ومتانة الصياغة وجمال تلوين العبارة وعذوبة الرنة البلاغية، لكن بعض آرائه الثقافية وأحكامه النقدية، تعوزها الرصانة والرزانة وكبح الهوى والحد من التحيز المسرف.
في مقال كتبه تلميذه محمد متولي في ذكراه السادسة، أورد في صدر المقال أمثلة لما قلته في وصفه. أتذكر (الموقع المنشور فيه المقال مغلق. لأنه قيد الإصلاح) منها ثلاثة أمثلة:
قوله: صلاح عبد الصبور شاعر لا يساوي بصلة!
وقوله: نزار قباني شاعر خفيف، يسعك أن تقرأ ديوانه مسترخياً في القطار، ثم تلقي به من النافذة في نهاية الرحلة!
وقوله: محمد مندور أكذوبة من الأكاذيب الكبرى في حياتنا النقدية!
لنر ما قاله عن «الإخوان المسلمين» في مقام آخر، مقام مقالات كتابه «كتابات في النقد».
قال في مقال «وحي الأربعين» – و«وحي الأربعين» ديوان شعر للعقاد:
«وحارب الجمود باسم الدين، وأصلى (الإخوان المسلمين) ناراً من مارجه وحممه، وأطلقوا عليه الرصاص في داره – رأينا أثر الرصاصة في نافذة البيت – وكان مبلغ قوله: الرأي بالرأي والجريمة بالعقاب».
وقال في مقال «العقاد بعد خمس وثلاثين سنة»: «وحارب الديكتاتورية باسم الدين، فأصلى (الإخوان المسلمين) ناراً حامية، وقال فيما قال: إن الله عز وجل لم يدع هذا الحق الذي تدعيه الجماعة، وذلك أنه لا يعاقب أحداً دون حساب، وأن الفكرة بالفكرة، والجريمة بالعقاب، وأن الحرية بخير ما دامت الجريمة بالعقاب، وأن الحرية بخير ما دامت الجريمة مقيدة».
وقال في مقال «عقاديات»، الذي تضمن رداً على مقال كتبه رجاء النقاش عن كتاب عبد الرحمن بدوي «سيرة حياتي» تحت عنوان «علقة للعقاد»: «ولعله لم ينس - أي رجاء - هجوم (الإخوان) على العقاد بإطلاق الرصاص في مسكنه، وظلت فجوة الرصاصة في النافذة شاهدة على فراغ هذه الأدمغة الممسوخة. ولم يتخل العقاد عن هجومه، بل تابعه بإصرار وعنف شديدين».
وقال في الجزء الثاني من مقاله «عقدة العقاد»: «وكان هجومه على (الإخوان المسلمين) من أنقى صفحات فكره المجدد دون أن يكون محسوباً على فئة غير فئة العقاد وأبى – اتساقاً مع كرامة قلمه – أن يكتب مقدمة لكتاب يهاجم (الإخوان) بعد زوال شوكتهم، وأنه كالفارس لا ينازل إلا فارساً شاكي السلاح، وكتب طه حسين مقدمة هذا الكتاب، دون أن نتهم طه حسين بشيء، وإنما لكلٍ وجهة هو موليها».
ينبغي علي أن أذكر بأن حادثة إطلاق «الإخوان المسلمين» رصاصة على العقاد، وهو في شقته من النافذة، كان سن عبد اللطيف عبد الحليم فيها يربو على الثلاث سنوات بأشهر قليلة. أي أنه في تلك السنة لم يكن يعي الحادثة، وأنه فيما قاله كان يروي عن العقاد.
وما قاله نقلاً عن العقاد أورده تارة على أن العقاد قاله حين أطلقت عليه الرصاصة التي أخطأته، وتارة قاله في مقال من مقالاته التي أصلى فيها «الإخوان المسلمين» ناراً حامية.
في حادثة إطلاق الرصاصة عليه، قال العقاد: الرأي بالرأي والجريمة بالعقاب. وفي مقال من مقالاته عن «الإخوان المسلمين»، قال إن «الفكرة بالفكرة والجريمة بالعقاب»!
يبقى قوله إن العقاد قال: «إن الله عز وجل لم يدع هذا الحق الذي تدعيه الجماعة». العقاد عالج هذه الفكرة في أكثر من فقرة في مقاله «فتنة إسرائيلية» المنشور في جريدة «الأساس» في 2 يناير (كانون الثاني) عام 1949 لكن بألفاظ مختلفة.
نشرت جريدة «الجمهورية» بتاريخ 19 مارس (آذار) 1964، أي بعد وفاة العقاد بثمانية أيام مقالاً لرجاء النقاش عن العقاد عنوانه «محامي العباقرة»، قال فيه رجاء: «ولكن أحب أن أقول هنا كلمة أؤمن بها للحقيقة والتاريخ، فالعقاد لم يكن في فكرة من أفكاره مأجوراً. ومواقفه الفكرية التي لا يوافقه عليها الاشتراكيون لم تكن لحساب أحد، كما قال البعض كثيراً، وأعترف - صادقاً مستريح الضمير - أنني واحد من الذين أخطأوا في حق العقاد، واتهموه بأنه كان مأجوراً في بعض كتبه ودراساته».
فرجاء النقاش الذي ينتمي إلى معسكر أدبي وسياسي وفكري مناوئ لتوجه العقاد وتوجيهاته في هذه المجالات، راجع موقفه الأخلاقي الثوري من العقاد، قبيل ذاك العام الذي نشر فيه هذا المقال.
ومع أن العقاد حارب القصيدة الحديثة، وعادى اليسار والشيوعية عداءً مطلقاً، ورجاء النقاش من النقاد المحتفين بالقصيدة الحديثة، وهو عروبي اشتراكي بميل يساري، ومع ذلك أخرج عام 1974 كتاباً ممتازاً عن العقاد يتسم بالموضوعية والإنصاف. هذا الكتاب هو «العقاد بين اليمين واليسار». وسأستند إلى فصل منه، وهو فصل «العقاد والإخوان المسلمون» في التعليق على أقوال عبد اللطيف عبد الحليم السالفة.
العقاد بدأ هجومه على «الإخوان المسلمين» بعد إصدار محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء ورئيس الحزب السعدي، قراراً بحل جماعة «الإخوان المسلمين» في 9 ديسمبر (كانون الأول) 1948.
وأول مقال من مقالاته الهجومية في جريدة «الأساس» - كان من كتابها وكانت جريدة الحزب السعدي - نشر في 13 ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام.
بعد أن يورد رجاء النقاش مقتطفاً من مقال العقاد هذا (الحكومات وسماسرة الفوضى) يعلق، قائلاً: «هذا أول تعليق للعقاد على قرار حل الإخوان. فهو ينكر على الجماعة استخدامها للعنف، وينكر عليها أنها من جماعات العمل المباشر مثل النازيين والفاشيين. ولكن السؤال هو: لماذا لم ينتبه العقاد لظاهرة العنف والعمل المباشر في جماعة (الإخوان المسلمين) إلا بعد أن اصطدمت الجماعة بالحزب السعدي سنة 1948؟ لماذا لم يعترض على فرق الجوالة التي كونها (الإخوان)، والتي كانت تقوم على التدريب العسكري مثلها تماماً مثل فرق العاصفة النازية... لماذا لم يعترض على استخدام العنف، عندما كان هذا العنف موجهاً إلى حزب الوفد، كما وقع في أحداث بورسعيد سنة 1946؟
الإجابة عن كل هذه الأسئلة هي أن موقف العقاد من جماعة (الإخوان المسلمين)، لم يكن موقفاً فكرياً سليماً بل كان موقفاً حزبياً، ينظر إلى مصلحة الحزب الذي ينتمي إليه وهو الحزب السعدي. فإن كانت المصلحة هي مساندة (الإخوان) والتغاضي عن أخطائهم، وقف صامتاً عن هذه الأخطاء، لا يشير إليها ولا يعترض عليها، أما إذا تناقضت مصلحة السعديين مع (الإخوان)، فإن واجبه في هذه الحالة هو كشف أخطاء (الإخوان) والتعريض بهم».
وكان رجاء النقاش قبل هذا التعليق قد أوضح أن العقاد لما كان في حزب الوفد كانت جماعة «الإخوان المسلمين» من عام 1928 إلى عام 1936 يدور نشاطها في حدود الدعوة الدينية، ولما انغمسوا في النشاط السياسي من عام 1936 إلى عام 1948، كان العقاد قد ترك حزب الوفد وكان منظماً إلى الحزب الجديد، حزب السعديين، الذي كان في هذه الفترة ومعه السراي أو القصر، يساندان «الإخوان المسلمين» ويحميانهم.
عرض رجاء النقاش مقالات العقاد الخمسة عن «الإخوان المسلمين» التي نشر آخر مقال منها في 4 فبراير (شباط) عام 1949 (صوت حكيم من شباب كريم) قبيل اغتيال حسن بثمانية أيام، ومن خلال عرضه لها تبرز فيها ملحوظات نقدية نافذة في مناقشة فكر «الإخوان المسلمين»، وهي ملحوظات ما زالت تقال إلى اليوم في المواجهة النقدية لفكر «الإخوان المسلمين»، ولفكر كل الحركات الإسلامية.
ولعجز «الإخوان المسلمين» عن الرد على أول مقال له، أرسلوا له رسائل تهديد وترويع نشرها العقاد في مقاله الثاني «مثل من إفساد العقول»، وشنع على أخطائها اللغوية والنحوية والإملائية. يقول رجاء النقاش، «وقبل أن نقرأ تعليق العقاد، ينبغي أن نلتفت إلى حقيقة هامة، وهي أن هذا الإخواني الجاهل قد قال في رسالته ما معناه أن جماعة (الإخوان) سوف تعبر عن رأيها في حل الجماعة خلال هذا الشهر. وقد نشر هذه الرسالة في 22 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1948، ولم يكد يمر أسبوع واحد حتى قام أحد شباب (الإخوان المسلمين) باغتيال محمود فهمي النقراشي، وبذلك تكشف لنا هذه الرسالة عن قوة التنظيم التي كانت تملكها جماعة (الإخوان المسلمين)، وعن قدرة الجماعة على السيطرة على نفوس أعضائها من الشباب بوجه خاص، وعن سيادة فكرة الإيمان بالجماعة ومرشدها العام لدى الأعضاء، حيث كانت هذه الفكرة - كأي نوع من أنواع التعصب - لا تقبل المناقشة ولا تحتاج إلى تبرير أو تفسير لدى الأعضاء».
ولا شك أن العقاد كان شجاعاً حينما سلخهم في نقده في خمسة مقالات، ولا يغض من هذه الشجاعة أنه سلط عليهم نقده لدافع حزبي وليس لدافع فكري، فهم كانوا في ذروة قوتهم وأوج جبروتهم وأعتى إرهابهم.
يستوقف في هذا الفصل الذي أستند إليه، أن رجاء النقاش لم يتعرض إلى محاولة «الإخوان المسلمين» اغتيال العقاد، لم يتعرض لها لا بالإثبات ولا بالنفي، مع أنها حادثة تحدث عنها تلميذ من ألصق تلاميذه به في كتاب صدر قبل صدور كتابه بمدة قريبة.
هذا التلميذ اللصيق والصديق المقرب هو محمد طاهر الجبلاوي في كتابه «مع العقاد في ظل العقيدة الوطنية» الصادر عام 1971، فلقد قال: «ووضع (الإخوان المسلمون) المتفجرات عند بيت العقاد، وطلبه أحدهم في الليل في التلفون، وتلفون العقاد يقع إلى جوار نافذة زجاجية مواجهة للخلاء، فلما انتقل العقاد إلى حجرة التلفون، وأمسك بالسماعة، أطلقت عليه رصاصة اخترقت زجاجة النافذة، ولكنها لم تصبه ولم يبلغ العقاد عن هذه الأحداث، ورأى من الخير كتمانها وعدم الاكتراث بها. ولكن وزارة الداخلية نمت إليها هذه الأخبار عن طريق غير مباشر، وضبطت قوائم بها أسماء بعض رجالات مصر، ومنها اسم العقاد للقضاء على حياتهم. فأرسلت إليه حرساً لازمه عدة أشهر، ولم يتردد العقاد في قبول الحراسة بعد أن تبين حقيقة ما يدبر له».
هذه الحكاية رواها بعض تلامذة العقاد مضمخة بالخرافة التي يعزون لها سبب إنقاذه من موت محقق.
يوهن هذه الحكاية - كما رواها الجبلاوي - ادعاؤه أن العقاد كتم الحادثة للخيرية. وهذه الخيرية لا نعرف ما كنهها: هل هي لخير الصالح العام أم لصالح «الإخوان المسلمين»، أم يعني بها أنه إنسان خير خيرية لا متناهية، يؤثر العفو والصفح والستر حتى على من يريد قتله؟!
ولماذا لم يكترث بمحاولة اغتياله، هل سببه احتقار لشأن صاحب المحاولة، أم احتقار لأمر اغتياله أم أنه لا مبال بحياته، سيان عنده إن كان من الأحياء أم من الأموات؟!
إن الموثق كتابة أن العقاد لم «يكتم» على القراء الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية في رسالة كتبها إخواني له، و«اكترث» بها جداً وفضحه وشهر به بنشر نصها في مقاله الثاني.
ونص الرسالة، كما أوردها هي:
«حضرة الكاتب الأجير
نصيحتي إليك أيها الشخص ألا تتمادى في أباطيلك، وأحزر (كذا) الإخوان المسلمين، واعلم بأن لكل دوسيه خاص بكتب فيه الحسنات والسيئات.
اصبر أيها المسكين وسوف لا يطيل (كذا) الإخوان المسلمين، ولا تلعب بالنار، ودع النقراشي يظلم وقريباً جداً وفي خلال هذا الشهر سترى أنت وأمثالك كيف قابل الإخوان حل الجمعية بهذا الصمت، وماذا وراء الصمت... فحاول أن تصمت أو تكتب في موضوع آخر، ولا تتعرض لهم وقد قذف (كذا) الوقت... والله أكبر ولله الحمد».
ولم يكتف العقاد بنشر نصها، بل علق عليها مقرعاً كاتبها. ومما قاله: «فأول ما يتبين من هذه الرسالة أن كاتبها جاهل لم يتلق نصيباً من التعليم الذي يتلقاه طالب صغير، فهو يكتب (أحذر) بالزاي، ولا يعرف قاعدة من قواعد اللغة التي لا تتعدى المرفوعات والمنصوبات، وهو أكثر من ذلك لا يقرأ القرآن ولا يفقه حرفه ولا معناه، بل لا يفقه آياته التي يكثر تداولها على ألسنة الناس من غير حفاظ الكتاب الكريم. فمن الآيات التي يذكرها الخاصة والعامة: (أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة). ومنها (أنذرتهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين).
ولكن هذا الجاهل الذي كتب رسالته بكل تلك الثقة وكل ذلك اليقين يكتب (أزف الوقت) فيقول (قذف الوقت)، ولا يدري ما هو الفرق بين الآزف والقاذف في اللفظ ولا في الهجاء ولا في المدلول».
لماذا لم يكتم هذه الأخطاء في اللغة واكترث بها، وكتم خبر محاولة اغتياله عن البوليس ولم يكترث بها: هل هو - حاشاه - من النوكى والحمقى؟!
إن خبراً كهذا يفيده ويفيد الحكومة السعدية في التشنيع على «الإخوان المسلمين» أمام الرأي العام، بخاصة أنه كاتب ومؤلف له جمهور عريض في مصر وفي البلدان العربية.
ويوهن رواية الجبلاوي أيضاً وضع متفجرات عند بيته، فهل العقاد بناية أو منشأة لا يكفي لإلحاق الضرر بها إطلاق النيران عليها من مسدس؟! ولماذا لم تستعمل هذه المتفجرات في تفجير شقة العقاد؟ وماذا حل بها بعد فشل المسدس في مهمته؟!
يبدو أن هذه الحكاية من اختراع العقاد ورواها بعض العقاديين عنه. لهذا أهمل رجاء النقاش ذكرها في ذلك الفصل.