خير الله خير الله يكتب:

في ذكرى "ثورة 26 سبتمبر"

مرت قبل أيّام الذكرى الـ60 لـ”ثورة 26 سبتمبر” في اليمن، وهي في الواقع حركة نفذتها مجموعة من الضباط قلبت النظام الإمامي الذي كان قائما وأنشأت “الجمهورية العربيّة اليمنية”. عاشت هذه الجمهورية حتّى العام 1990 حين قامت الوحدة اليمنيّة التي حولت اليمن بشماله وجنوبه إلى كيان سياسي واحد سمّي “الجمهوريّة اليمنيّة”.

ارتبطت الوحدة بشخص علي عبدالله صالح، من دون تجاهل الدور الذي لعبه السياسي الجنوبي علي سالم البيض. كان البيض، الذي أصرّ في حينه على الوحدة الفوريّة والكاملة، الأمين العام للحزب الحاكم في ما كان يسمّى “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبيّة”.

سلّم علي عبدالله صالح السلطة في السابع والعشرين من شباط – فبراير 2012… بعد 34 عاما في السلطة. لم تنته الوحدة يومذاك فحسب، بل صار اليمن أيضا في بحث دائم، منذ ذلك اليوم، عن صيغة جديدة لا علاقة لها لا بالكيانين السياسيين اللذين كانا قائمين قبل الثاني والعشرين من أيّار – مايو 1990 ولا باليمن الموحّد نفسه.

في 26 أيلول – سبتمبر 1962، طرأ تحول كبير على الوضع في شبه الجزيرة العربيّة في ضوء التغيير الذي شهدته صنعاء حيث قام نظام جمهوري في شبه الجزيرة العربيّة. حدث ذلك في ظلّ صعود التيّار الناصري (نسبة إلى جمال عبدالناصر). كان الصعود الكاسح، البعيد عن أي وعي سياسي حقيقي، للتيّار الناصري في المنطقة كلّها وليس في اليمن وحده الذي شهد في وقت لاحق تدخلا عسكريا مصريا.

استهدف ذلك التدخل المحافظة على الجمهوريّة العربيّة اليمنية التي عاشت في ظلّ حروب داخليّة أنهتها، إلى حدّ ما، صيف العام 1965 المصالحة التاريخيّة في جدّة بين الملك فيصل بن عبدالعزيز وجمال عبدالناصر الذي لم يدرك في أي وقت معنى الغرق في الوحول والتعقيدات اليمنيّة.

مهّدت تلك المصالحة لمصالحات داخليّة يمنيّة كان أبرزها مؤتمر خمر الذي انعقد قبل ذهاب جمال عبدالناصر إلى جدّة. لعب مؤتمر خمر، الذي شارك فيه عدد كبير من كبار مشائخ اليمن مثل عبدالله بن حسين الأحمر وسنان أبولحوم دورا في وقف القتال الداخلي والتأسيس لمرحلة جديدة دخلها اليمن الشمالي على مراحل…

من المفيد العودة بالذاكرة إلى خلف قليلا وتذكّر أن ما سمّي “ثورة 26 سبتمبر” إنما عاش نصف قرن فقط. انتهى اليمن الذي عرفناه في العام 2012 في ظلّ حال الفوضى التي سيطرت على البلد من شماله إلى جنوبه مرورا بالوسط الشافعي الذي ترمز عاصمته تعز التي يطوقها الحوثيون (جماعة أنصارالله) إلى المأساة اليمنيّة بكل أبعادها. يشمل ذلك البعد المذهبي. هذا البعد هو الوتر الذي لعبت عليه “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران التي وضعت يدها على صنعاء في 21 أيلول – سبتمبر من العام 2014، عن طريق الحوثيين. ما أظهره العرض العسكري الضخم، الذي نظّمه الحوثيون في ميدان السبعين في ذكرى مرور ثماني سنوات على سيطرتهم على العاصمة اليمنية ثم قتلهم علي عبدالله صالح بدم بارد، يطرح أسئلة. إنّها أسئلة تتعلّق بمستقبل اليمن وليس بماضيه الذي يشمل “ثورة 26 سبتمبر” من العام 1962.

كان العرض العسكري الضخم الذي يقول مراقبون محايدون إن نحو خمسين ألف جندي وضابط شاركوا فيه، بمثابة عرض عضلات. ظهرت في العرض مدرعات وصواريخ وطائرات مسيّرة. بغض النظر عمّا إذا كانت كلّ الصواريخ والمدرعات حقيقيّة أم لا، هناك يمن جديد لا مفرّ بعد الآن من التعاطي معه. إنّه يمن تسيطر إيران على جزء منه. هذا هو الواقع اليمني اليوم في ظلّ شرعيّة عاجزة عن تغيير الوضع على الأرض.

كان لافتا اختيار الحوثيين في العام 2022 ميدان السبعين في صنعاء لعرضهم العسكري. فميدان السبعين هو رمز من رموز صمود “ثورة 26 سبتمبر” في آخر المعارك التي خاضتها في مواجهة الملكيين، أي أنصار عودة النظام الإمامي. حاصر الملكيون صنعاء سبعين يوما، بعد انسحاب القوات المصريّة من اليمن إثر هزيمة 1967، لكنّ المدينة لم تسقط وقتذاك. سقطت صنعاء في 21 أيلول – سبتمبر 2014. جاء الحوثيون، هذه المرّة، إلى ميدان السبعين ليقولوا إنّ نظاما جديدا قام في اليمن على أنقاض النظام الجمهوري.

كان العرض العسكري الأخير للحوثيين أكثر من مجرّد استعراض قوة. عكس العرض قبل أي شيء آخر دليلا على الرغبة في الانتقام لدى مجموعة يمنيّة ما زالت تعتقد أنّ في استطاعتها استعادة النظام الإمامي بقيادة عبدالملك الحوثي. هل من مكان لهذا النظام في شبه الجزيرة العربيّة التي تحكم دولها أنظمة متجانسة في ما بينها؟

كان مضحكا أن بعض القياديين الحوثيين أشاد بـ”ثورة 26 سبتمبر”. إنّه خبث ليس بعده خبث، خصوصا أنّ عبدالملك الحوثي نفسه أعلن بعد أيّام من احتلال صنعاء حلول “ثورة 21 سبتمبر” مكان النظام الجمهوري… الذي قام العام 1962. استكمل الحوثيون حملتهم على الجمهوريّة عندما تخلّصوا من علي عبدالله صالح في الرابع من كانون الأوّل – ديسمبر 2017. رفضوا بقاء أي أثر للنظام الجمهوري في صنعاء.

بعيدا عن الحنين إلى “ثورة 26 سبتمبر”، يبقى السؤال: ما الذي سيفعله الحوثيون بكلّ تلك الأسلحة التي باتوا يمتلكونها؟ ثمة حاجة إلى هذه الأسلحة من أجل ترهيب أي طرف يمني شمالي يمكن أن يفكّر في التصدي لهم أو التمرّد عليهم. صحيح أن الحوثيين استطاعوا قمع القبائل اليمنيّة، لكن الصحيح أيضا أنّ القضاء كلّيا على التركيبة القبلية لم يتحقّق بعد ولن يتحقّق في يوم من الأيّام. يبقى قائما الخوف من أن الحوثيين يمكن أن يستخدموا أسلحتهم وقواتهم في مغامرات خارجيّة يحلمون بها، مغامرات لا يمكن لإيران أن تكون بعيدة عنها. هذا يجعل منهم خطرا على المنطقة… مثلما أنّهم خطر على اليمن نفسه، خصوصا أنّ ليس لديهم ما يفعلونه غير نشر البؤس والجهل والتخلّف!