عبدالله محمد الدهمشي يكتب:

الهدنة المتعثرة ومعوقات بناء السلام في اليمن.. "غياب الأطر النظرية للخطوات التطبيقية"

عدن

تكشف الهدنة الإنسانية المتعثرة في اليمن عن أبرز معوقات بناء السلام على توافق أطراف الصراع المأساوي على تسويات سياسية لخلافاتها الدامية والمدمرة، وذلك من خلال مؤشرات التعثر المستمر في استكمال بنود الهدنة أو التحول بها نحو مقدمات إنهاء الاقتتال.

أول مظاهر التعثر في تنفيذ كامل بنود الهدنة الإنسانية يأتي من غياب الأطر النظرية للخطوات التطبيقية والتي غابت عن إعلان الهدنة، أو شروط التوافق على تجديدها من قبل أطراف الصراع في الداخل، بينما بقيت التفاهمات الإقليمية والدولية على الهدنة ودورات تجديدها غير معلنة في إطار عام أو خاص، وكأن الهدنة جاءت وفق حسابات خاصة للتجاذبات الخارحية فقط.

وربما كان العجز العسكري هو الدافع لقبول الهدنة داخليًا، ذلك أن الحوثيين تكبدوا خسائر فادحة في العتاد والجند خلال المحاولات الكثيرة لاجتياح مأرب والسيطرة على مصادر الطاقة في المحافظة، عام 2021، ولأن تحالف الشرعية كذلك يواجه تحديات عدم التناسق بين مكوناته الجديدة التي انتقلت إليها سلطة هادي، بالتزامن مع إعلان الهدنة الإنسانية مطلع أبريل 2022م.

وأيًا كانت الدوافع والأهداف التي فرضت إعلان الهدنة وتمديدها لدورات متتالية، فإن ظروف القبول بها محليًا مازالت على ما هي عليه، وبصورة تحول دون قدرة الأطراف المحلية على تجاوزها إلى تصعيد عسكري محدود في الداخل أو متمدد خارج الحدود، وهنا تغيب المؤشرات الدالة على تحولات محتملة في مسار الهدنة تصل بها إلى التطبيق الكامل لكافة بنودها، أو تنتقل بها إلى بوابات الحل السياسي الشامل والكامل.

ويمكن استنتاج عدد من العوامل التي تحول دون التحول بالأزمة اليمنية إلى مسارات التسوية السياسية والحلول السلمية.

أيًا كانت الدوافع والأهداف التي فرضت إعلان الهدنة وتمديدها لدورات متتالية، فإن ظروف القبول بها محليًا مازالت على ما هي عليه، وبصورة تحول دون قدرة الأطراف المحلية على تجاوزها إلى تصعيد عسكري محدود في الداخل أو متمدد خارج الحدود

أول هذه العوامل وأخطرها، التخندق الطائفي للحركة الحوثية، والذي يقابله في تحالف الشرعية تجاذبات دينية يمثلها حزب الإصلاح الإخواني، والتوجهات السلفية للتشكيلات العسكرية في الحراك الجنوبي، وهذا الطابع الديني المتطرف هو المتحكم بالصراع ومساراته السياسية والوطنية، حيث المشاريع المتضاربة بين ولاية الفقيه الحوثية وأوهام الخلافة السنية، تبتعد بقوى الصراع عن المقاربات السياسية، وتذهب بها نحو العنف المشحون بدعوى طائفية وتبريرات عقائدية.

ومن الواضح في مسارات الصراع الدامي باليمن، أن الحوثيين أكثر الأطراف تشددًا في التخندق الطائفي الذي يستهدف البنى المادية والمعنوية للسلطة والمجتمع في مناطق سيطرة الحوثيين، حيث تخضع كل المكونات السياسية والعسكرية والمجتمعية لعملية نشر الوعي الطائفي وما يتجسد به ثقافيًا من مقولات وأفكار وشعارات وخطاب خاص وعام، وبما يشمل الحاضر في دورات التثقيف الأسبوعي والموسمي، ويشمل كذلك المستقبل في تطييف مناهج التعليم ومؤسساته.

والمشكلة هنا أن التخندق الطائفي للحوثيين يجعلهم، وهم القوة العسكرية الأولى في ساحة الاقتتال الأهلي، يرفضون الذهاب إلى سبل التسوية السياسية بغير انكسار عسكري يفرض عليهم التسوية والقبول بالجلوس إلى طاولات التفاوض حول متاحاتها النظرية ومؤسساتها العملية، وخصوصًا حين تكون أطراف الحركة المناوئة للحوثيين منغلقة على ذات الدعوى الدينية في شرعية السلطة السياسية، وبما يجعل الصراع حول أحقية تمثيل الدين لا تشارك السلطة.

تأتي هذه العوامل مع غياب الأطر السياسية للحل السلمي، والذي نتج عن سيطرة التشكيلات العسكرية على المجال السياسي وعلى الجغرافيا السكانية، فبينما يعصف بتحالف الشرعية قبل انتقال السلطة إلى مجلس القيادة الرئاسي وبعده، تصادم المشاريع المتناقضة بين القوى العسكرية المتصارعة على الأرض، يتمسك الحوثيون بالقوة العسكرية وحدها وسيلة للسيطرة ولإدارة صراعهم مع القوى اليمنية الأخرى في الشمال والجنوب.

تتزايد تعقيدات الفراغ السياسي مع استمرار الانهيار الاقتصادي وتأزم الأوضاع المعيشية للسكان المحليين في مناطق سيطرة المليشيات، بما في ذلك الجغرافيا المحسوبة على تحالف الشرعية، وتجلى ذلك في غياب مقومات الوحدة في تداول العملة النقدية محليًا،

وضاعف من تعقيدات غياب الرؤى السياسية، تخلي الأحزاب اليمنية عن دورها، بل عن مواقعها في خرائط المجال السياسي، اجتماعيًا وإعلاميًا، فالأحزاب اليمنية مغيبة عن الجغرافيا والناس، وغائبة عن الدور الوطني بصورة تجلت ليس فقط في غيابها عن المجتمع، بل في غياب النشاط الحزبي الخاص والعام عن أطرها التنظيمية، فمنذ اندلاع الحرب، العام 2014، لم تنعقد أية هيئة تنظيمية لحزب يمني، لا في الداخل ولا في الخارج، الأمر الذي ترك الساحة الوطنية في فراغ سياسي، تتحرك فيه التشكيلات العسكرية وحدها، وتهيمن عليه اتجاهات العنف الطائفي وخيار التمسك بالحل العسكري دون إمكانيات للحسم.

تتزايد تعقيدات الفراغ السياسي مع استمرار الانهيار الاقتصادي وتأزم الأوضاع المعيشية للسكان المحليين في مناطق سيطرة المليشيات، بما في ذلك الجغرافيا المحسوبة على تحالف الشرعية، وتجلى ذلك في غياب مقومات الوحدة في تداول العملة النقدية محليًا، حيث تتفاوت أسعار الريال بين مناطق الحوثيين ومناطق سيطرة الشرعية بصورة تجعل للريال قيمتين محليتين، مع ما صاحب ذلك من توقف صرف الرواتب، وانعدام فرص العمل، وغياب الخدمات ومشاريع التنمية عن عموم مناطق الجمهورية اليمنية.

ثالث هذه العوامل التي تعوق بناء عملية السلام في اليمن، التدخلات الخارجية، ومع انتقال سلطة هادي وإعلان الهدنة، أصبحت الأزمة اليمنية أزمة تجاذبات خارجية؛ إقليمية ودولية، يديرها وكلاء محليون لقوى التمويل والتوجيه، فهي -أي الأزمة اليمنية- الآن أزمة تجاذبات إيران في المنطقة العربية وحول الملف النووي من جهة، ومن جهة أخرى أزمة تجاذبات بين الإمارات العربية المتحدة وجماعة الإخوان.

وإذا كانت الهدنة كشفت عن إملاءات خارجية للقبول بها من قبل الأطراف المحلية، فرضتها تداعيات الحرب في أوكرانيا، وحاجة القوى الدولية إلى تأمين مصادر وممرات الطاقة، فإن القوى الخارجية، بما فيها الأمم المتحدة، عاجزة عن استكمال تنفيذ بنود الهدنة، أو إيجاد السبل الكفيلة بالانتقال بها إلى بوابة إنهاء الحرب والبدء بمسارات سياسية للحل السلمي.

وإجمالًا، فإن ما يتشكل على الأرض وبين الناس في اليمن من مقاطعات خاضعة لسيطرة التشكيلات العسكرية المحكومة بالعجز عن الحسم والفشل في التوافق السياسي حتى على دولة كونفدرالية بين مقاطعات الإدارة الذاتية، يجعلنا نجزم أن الأزمة اليمنية مستمرة لـ10 سنوات قادمة بعد الوصول إلى اتفاقات أمنية بين الحوثيين والسعودية، ودون الوصول بأطراف الصراع المحلي إلى عتبات الحل السلمي.