عقيل عباس يكتب:
حكومة محمد شياع السوداني أخيرا
بعد شد وجذب استمر نحو 3 أشهر منذ ترشيح الإطار التنسيقي للسيد محمد شياع السوداني لتولي رئاسة الوزراء في أواخر يوليو الماضي، نجح الإطار في تمرير هذا الترشيح عبر البرلمان العراقي، ليصبح الرجل سابع رئيس وزراء للعراق منذ الإطاحة الأميركية بنظام صدام حسين في 2003.
أنهت جلسة المصادقة البرلمانية على ترشيح السوداني أيضا أزمة مستعصية بدت بدون حل، استمرت نحو عام منذ نهاية انتخابات أكتوبر المبكرة، العام الماضي، التي فاز فيها التيار الصدري ومنعته المعارضة الشرسة للإطار التنسيقي من تشكيل حكومة أغلبية بقيادته.
وفي سياق المواجهة بين الطرفين، الصدري والإطاري، على امتداد معظم هذا العام، ظهرت سلسلة التطورات السريعة خلال الأسبوعين الماضيين بدءا من الانسحاب الصدري المفاجئ والسريع من المواجهة وقدرة الإطار، بسبب هذه الانسحاب، إمضاء انتخاب رئيس الجمهورية ثم تكليف هذا الأخير للسوداني بتشكيل الحكومة، وصولا لقدرة السوداني، بدعم إطاري رغم الخلافات الداخلية الحادة، إنجاز هذا التشكيل في وقت قياسي غير مسبوق في كل حكومات ما بعد 2003، خلال 14 يوما، ظهرت هذه كلها انتصارات متتابعة للإطار التنسيقي.
لكن في السياسة عادة، الانتصارات ليست إنجازات، فالأولى هي فوز على الخصوم وتجاوز العقبات التي تعترض طريق الانتصار وحصول المنتصر على الجائزة، فيما الثانية هي فوائد ملموسة ومتحققة يشعرها المجتمع.
انتصر الإطار وفاز بالجائزة، عبر تشكيل الحكومة والهيمنة عليها، لكن بقيت أمام الإطار وحكومته المهمة الأصعب والأعقد المتعلقة بتحقيق بعض الإنجازات للمجتمع.
لم يكن المنهاج الوزاري ولا البرنامج الحكومي الذي بُني على أساس المنهاج اللذان عُرضا في يوم جلسة المصادقة على الحكومة وإثنائها يحملان شيئاً جديداً خارجاً عن المعتاد: حزمة أمانٍ واسعة بإنجازات تشمل كل شيء تقريباً من التعليم الى الصحة مروراً بالأمن والسياسة الخارجية وليس انتهاءً بإصلاح الاقتصاد وتقديم الخدمات.
في عراق ما بعد 2003 المسافة بين الأماني والإنجازات شاسعة جداً، لأنه لا تتوسط الاثنين خطط واقعية وقابلة للتطبيق. لا يرتبط الفشل طبعاً بافتقاد الذكاء أو القدرة على صياغة مثل هذه الخطط، وإنما باصطدام هذه الخطط بالحقائق السلبية الأشد رسوخاً في دولة ما بعد 2003: دولة تهيمن على إدارة مؤسساتها ووزاراتها أحزابٌ متصارعة حولت الوزارات والمؤسسات إلى إقطاعيات حزبية تسودها علاقات زبائنية راسخة ومتداخلة على نحو معقد لخدمة مصالح الأحزاب بالضد من مصالح المجتمع.
لن يستطيع السوداني تغيير هذه الحقائق السلبية على طريق إنهائها تالياً، لسبب واضح وبسيط يتلخص بكون الكتلة الداعمة له، الإطار التنسيقي، هي الصانعة الأساسية، على مدى سنوات طويلة، لمثل هذه الحقائق، فضلاً عن كونها المستفيد الأول والدائم منها.
من دون صدام جدي، وليس ترقيعات تمس الشكل وتُبقي على الجوهر، مع بعض أطراف الإطار التنسيقي الأكثر تورطاً في مثل هذه الحقائق والأشد إعاقةً لإصلاح جدي، لن يكون بمقدور السوداني أن ينجز شيئاً مهماً وستكون حكومته تكراراً مألوفاً لفشل متوقع أصبح نقطة التعريف الأساسية للحكومات السابقة. الأسابيع والأشهر المقبلة هي التي ستخبرنا بخصوص رغبة السوداني بمثل هذه المواجهة أو قدرته على خوضها.
ثمة أمران مهمان في منهاج الحكومة الوزاري وفي حقيقة النجاح في تشكيل هذه الحكومة أصلاً.
الأول هو احتواء المنهاج على إجراء انتخابات مبكرة في خلال عام، بعد تعديل قانون الانتخابات في خلال فترة 3 أشهر.
منذ الانسحاب الصدري من المواجهة مع الإطار التنسيقي، سَكتَ ساسة هذا الأخير عن موضوع إجراء انتخابات مبكرة، وسادت بعض أوساط الإطار، حسب تسريبات مختلفة، الرغبة بأن تكمل حكومة السوداني دورتها البرلمانية حتى الموعد الدوري للانتخابات المقبلة في 2525.
يمكن لإجراء هذه الانتخابات المبكرة أن يكون المخرج المناسب لحكومة السوداني في حال اكتشافها أن الأوضاع العامة باقية على درب التدهور نفسه، وأنها بصدد مواجهة تحديات احتجاجية شعبية ومعارضة قوية.
عبر تفعيل خيار الانتخابات المبكرة المقبلة، عند الحاجة، يتخلص الإطار التنسيقي وحكومة السوداني من تحمل عبء مسؤولية المزيد من التدهور والفشل، ويدخل البلد في مرحلة انتقالية أخرى، وصولاً إلى انتخابات جديدة تحسم هذا الانتقال.
مثل هذا الأمر هو تأجيل سهل للأزمة وليس حلاً لهاً. لكن حتى هذا التأجيل قد لا يكون متيسراً بسهولة، على أساس تطور الأحداث شعبياً وتسارعها المحتمل، وهو أمر لا يمكن البت فيه، فهو مرتبط بحس التوقيت الصائب: متى هو الوقت الصائب لتقرير أن الأمور تتدهور بذهابها نحو الأسوأ وأن من الافضل إيقاف هذا التدهور بإعلان موعد انتخابات مبكرة؟ التوقيت السياسي الصائب شعبياً ليس واحداً من مهارات الإطار التنسيقي، كما أظهرت هذا تجاربٌ سابقة كثيرة.
يقود تحدي التوقيت الصائب إلى الأمر الثاني المهم. لأول مرة منذ 2003، ينقسم المجتمع السياسي، على نحو أيديولوجي واضح يصل حد الصرامة بين ما يمكن تسميته بقوى اليمين الشيعي، المتمثلة بالإطار التنسيقي، وقوى أخرى تنتمي للوسط واليسار بالمعنى العراقي لهذه المصطلحات.
ليس صحيحاً اختصار العلاقة بين قوى الإطار التنسيقي على انها مجرد مصالح تجمع أطرافه المختلفة في صراعات السلطة والنفوذ. صحيح أن هذه مهمة في وجود الإطار، ككتلة سياسية وبرلمانية، لكن هناك جانب فكري يربط هذه الأطراف أيضاً.
باستثناء السيد حيدر العبادي، يفهم ساسة الإطار وحركاته السياسية عموماً عراقَ الدولة والمجتمع على أنه نتاج لتمثل إسلامي شيعي "حديث" للهوية يعتبر الطوائف والعلاقة بينها في إطار علوية شيعية سياسية واجتماعية مُقر بها علناً، كما في مفهوم المكون الاجتماعي الأكبر، أساساً لفهم البلد وترتيب أوضاعه السياسية وحل مشاكله.
في سياق هذه الهوية الثابتة، كما يظهر في كثرة إشارات الإطار وكل أنواع البيت الشيعي الى "الثوابت" وضرورة الحفاظ عليها منذ 2003، ترتبط الوطنية العراقية بفهم اجتماعي محافظ للسلوك العام والخاص، رافض ومرتاب بالتنوع والتعددية التي قد تقوض هذا الفهم، جذره مقولات إيمانية واعتقادية وفقهية يتم تخريجها وطنياً باسم الأغلبية السكانية المظلومة تاريخياً التي ينبغي أن تأخذ استحقاقها الصحيح في عراق ما بعد 2003 عبر تمثل قيمها في الحيز العام، السياسي والشعبي.
ضمن هذا الفهم السياسي-الاجتماعي للبلد، تفقد السيادة، كمفهوم قانوني محدد بدقة في سياق القانون الدولي، صلابتها القانونية ووضوحها المؤسساتي المتراكم على مدى الـ 300 عاماً الماضية كتجربة دولية موثقة على نحو دقيق ومُمارسة على نحو واسع عالمياً، لصالح مرونة انتقائية تسمح بتناقضات صادمة، حتى بمعايير الدولة العراقية الواطئة.
تشمل بعض هذه التناقضات انضواء قوى إطارية مهمة، الآن هي جزء رسمي وكبير من الحكومة، تحت قيادة سياسية رسمية أجنبية في سياق "محور المقاومة" ذي الطبيعة العسكرية في جوهره وتقوده إيران لرعاية مصالحها في المنطقة والعالم.
يختفي مفهوم السيادة في الخطاب الإطاري قدر تعلق الأمر بهذا السياق لكنه يظهر بحدة عالية، وغير قانونية في أحيان كثيرة، إزاء دول عربية وأجنبية كتركيا وأميركا.
على الجانب الآخر، تقف قوى الوسط واليسار التي لم تتبلور هوية بعضها السياسية على نحو دقيق وواضح لكنها عموماً تدعو لنسخة منفتحة ومرنة للهوية لا تقوم على اشتراطات عقائدية مسبقة، غير معلنة غالباً، كما هو الحال في الفهم المحافظ.
تدعو هذه النسخة المنفتحة لعراق تقوم هويته الوطنية والسياسية والاجتماعية على أساس تفاعل العراقيين كجماعات وأفراد في صناعة مشتركاتهم، وبضمنها هويتهم، وليس إعلاء هوية مجموعة فيه، أيا يكن حجمها، على هويات المجاميع الأخرى (افتراض أن لكل مجموعة هوية خاصة بها هو جزء أساسي، وإشكالي، من الفهم المحافظ للهوية كما يتبدى في خطاب الإطار التنسيقي وسلوكه).
كما يدعو هذا الفهم الذي ينضوي فيه صدريون وتشرينيون وقطاعات اجتماعية، متعلمة غالباً، إلى الفصل الجاد بين الحيزين الخاص والعام.
يميل الكثير من الخطاب الصدري في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد الانتخابات الأخيرة، إلى هذه النسخة المنفتحة والمرنة للهوية وإن كان التيار بحاجة للمزيد من الاشتغال لإنضاج هذا الفهم وربطه بخطاب وسلوك متنَاسقيَّن لدى أتباع التيار.
خلاصة الأمر هي أن العراق اليوم تحت حكم قوى اليمين الشيعي، التيار المتناسق إيديولوجياً، والمتصارع مصلحياً. يعني هذا أنه لن يكون سهلاً أو مقنعاً أن يحاول الإطار، مرة أخرى، لوم غيره على فشل تجربة حكمه في ظل حكومة السوداني.
الإطار هو الذي أفشَّل تشكيل حكومة أغلبية سياسية تكسر المحاصصة والتوافق وأصَّرَ على هذه الحكومة المحاصصاتية حد القتال من أجلها وشيطنة حتى شركائه الحاليين فيها من السنة والأكراد.
هذا يجعله وحيداً في تحمل المسؤولية عن الفشل المقبل.
عندما حذر وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول رئيسه جورج بوش في 2002 من عواقب اجتياح العراق وإطاحة نظام صدام الشمولي واستبداله بآخر ديمقراطي، قال مستعيراً ما يُعرف بقاعدة جرة الفخار بخصوص تحمل المسؤولية عن الأخطاء "إذا كسرته (العراق) فأنت تتحمل مسؤولية إصلاحه".
أحد أسباب "كسر" العراق بعد 2003 هو تولي قوى الإسلام السياسي الشيعي الحكم فيه، بسبب خليط من أخطاء استراتيجية ارتكبتها إدارة جورج بوش وخيارات انتخابية عراقية.
يواجه الإطار التنسيقي، في ظل حكومة السوداني، هذا السيناريو، فهل ستعوزه، مرةً أخرى، شجاعة الاعتراف بالخطأ والفشل؟