إبراهيم الزبيدي يكتب:
السعودية وإيران، أخيرا
مفاجأة من الوزن الثقيل. المملكة العربية السعودية، بوساطة صينية، تتوصل مع نظام الملالي الإيراني إلى اتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما. وهو أمر عادي في عالم السياسة الذي هو فن الممكن وليس فن الأمنيات والعضلات.
فليس قليلا ما تختزنه الذاكرة السعودية من بغض وحقد وثأر متراكم لدماء أبنائها ومؤسساتها التي كانت على مدى سنين مرمىً لصواريخ الحوثيين والميليشيات العراقية، وحروبٍ استنزاف إيرانية لئيمة وشريرة دامت سنين.
بالمقابل لا ينسى الولي الفقيه ومعاونوه ما ألحقته بهم السعودية في اليمن ولبنان والعراق وسوريا، بل في إيران ذاتها، من خسائر في الدم والمال والأمن الداخلي والخارجي والنفوذ. ولكن الظروف المتحولة، إقليميا ودوليا، جعلت هذا النوع من الصلح الإجباري هو الأفضل والممكن المتوفر.
والسؤال الأهم، هل ستحدث المعجزة وتأمر إيران وكلاءها اليمنيين بوقف الحرب العبثية الدائرة منذ سنين ولا غالب ولا مغلوب، ولا خاسر سوى اليمنيين والسعوديين والإيرانيين، سواء بسواء؟
وهل ستوعز لوكيلها حسن نصرالله بالتوقف عن تعطيل الحياة في لبنان، والمسارعة إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد محايد وتشكيل حكومة قادرة على إصلاح ما خرّبه حزب الله في السياسة والاقتصاد والأمن وتوفير الغذاء والماء والدواء للبنانيين؟ وهل ستوقف تهريب السلاح والمخربين والمخدرات إلى دول الجوار؟
يعني هل يفتح الاتفاق السعودي – الإيراني أبواب الجنة على هذه المنطقة التي أتعبها انتظار المعجزات؟
أمّا من يستحق الشماتة بهذا الخبر فهما فريقان. فريق الذيول العراقية واللبنانية واليمنية والفلسطينية التي لم تترك مع السعودية للصلح مطرحاً، من أيّ نوع. فشتائمهم والصواريخ والمسيّرات والمفخخات والمخدرات التي ظلوا يهدونها للشعب السعودي على مدى سنوات كلُّها جعلت خطوة وليّهم الفقيه تسقط على رؤوسهم كالصخرة الصماء لتفقدهم القدرة على الكلام، وتضعهم في موضع شماتة لا تنتهي.
إنهم في ذهول. ماذا يقولون وهم الذين بالغوا في كره السعودية وانتظروا انتصار وليّهم الفقيه عليها، وأحلامهم بدخولها فاتحين ليجعلوا الحرمين حسينيات وساحات لطم وتطبير.
الوحيد الذي اضطر للتعليق، ولكن بحزن ظاهر، وخيبة أمل، هو حسن نصرالله. فقد قال عن هذه المفاجأة الصاعقة “إن استئناف العلاقات بين إيران والسعودية تحول جيد”، “وثقتنا بأنه لن يكون على حسابنا”.
أما الفريق الآخر الذي يستحق الشماتة فهو فريق المحللين والمعلقين والمتنبّئين الذين يظهرون على الفضائيات العربية والعراقية ليدلوا بفتاواهم وأحكامهم في كل مجال، وفي كل علم، وفي كل شأن. فقد بشّرونا، وخاصة منهم الخبراء العسكريون، بحربٍ موشكة على إيران مستدلين عليها بجولة لويد أوستن وزير الدفاع الأميركي في المنطقة، وبتصريحات وكيل وزير الدفاع الأميركي للشؤون السياسية، كولن كال، الذي أعلن أن إيران قادرة على إنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية واحدة “في غضون 12 يوما”.
وأغلبهم راح يتحدث بإسهاب عن الاستعدادات العسكرية الأميركية – الإسرائيلية – الخليجية غير المسبوقة لمهاجمة إيران، لإسقاط نظامها وإعادة رضا بهلوي الثاني إلى عرشه المفقود، في أقرب ما يتوقعه المتوقعون.
ثم جاءت الأنباء لتزفَّ لهؤلاء القوّالين المتعالمين أن المملكة العربية السعودية، من أجل ترطيب خواطر المرشد الأعلى الإيراني وأعوانه اللبنانيين والعراقيين والسوريين واليمنيين، قررت أن تجنح للسّلم، وأن تعيد علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الولي الفقيه، بوساطة صينية وليست أميركية، أملا في أن يكف حرسها الثوري عن تهديد أمنها وأمن دول الخليج العربي الأخرى، وأن يكف عن تصدير المسيَّرات المفخخة والصواريخ إلى الحوثيين وحسن نصرالله والعصائب وحزب الله العراقي والنجباء، وعفا الله عما سلف.
طبعا لا يمكن، بأيّ حال وبأيّ عقل، أن تتخلى إيران عن دمها المسموم، ولا عن أطماعها وثاراتها من العرب، عموما، والسعوديين، بشكل خاص. فهي، بكل الأحوال، وبكل الموازين والمقاييس، لن ترخي قبضتها عن العراق، ولن تخرج من اليمن، وقد لا تعمل على وقف الحرب فيه في مدى منظور، ولن تغادر سوريا ولبنان.
لربما أدركت السعودية عدم وجود أمل في أن تتحرك أميركا لتأديب النظام الإيراني ووقفه عند حده، وهي الوحيدة القادرة على منعه من مواصلة حربه اليمنية وتعدياته على مؤسساتها ومطاراتها وموانئها، فاختارت المحاولة، لعل وعسى.
فمنذ قيام النظام الإيراني في 1979، بكل شروره وتجاوزاته واعتداءاته على أمن المنطقة والعالم، وأميركا، وحليفاتُها، ترى وتسمع وتطنش.
لم تكن في برنامج الولايات المتحدة الأميركية حربٌ ضد نظام الخميني ووريثه خامنئي من أيّ نوع.
تريده قويا بما يكفي لزعزعة أمن دول الجوار واستنزافها، وضعيفا أيضا ومحاصرا بالعقوبات والتهديدات الساخنة، ومثقلا بمصاعبه الداخلية والخارجية إلى حد العجز الكامل عن إلحاق أيّ ضرر وجودي حقيقي بالمصالح العليا لأميركا وأوروبا وإسرائيل.
حتى وهي تعلم بأن العقوبات الاقتصادية لم تمنع النظام، على مدى عشرات السنين، من الالتفاف على هذه العقوبات، والتحايل عليها لتمويل آلته الحربية المتصاعدة.
ألم تغض طرفها ثلاثين عاما عن تهريب دولاراتها إلى عدوّتها إيران؟ وألم تسمح لحكومة الإطار التنسيقي، أخيرا، بتحويل 500 مليون دولار لطهران لتسديد مبيعاتها من الغاز والكهرباء، بعد كل ما تناقله المحللون والمعقبون والمتنبئون من أخبار وتهديدات وأوامر أميركية قاطعة لوفد حكومة محمد شياع السوداني بعدم توصيل دولار واحد لإيران؟
نعم، لقد أفلحت أميركا ودول عديدة، في مقدمتها المملكة العربية السعودية، من محاصرة نظام الملالي، خصوصا بعد أن تمكنت الانتفاضة الشعبية من إنهاكه وتهديد وجوده في عقر داره.
وقد يكون هذا هو الذي اضطره إلى الانحناء للريح، والتراجع خطوة إلى الوراء، وطلب التهدئة والمسالمة مع أميركا وإسرائيل والسعودية، في انتظار ما تجيء به أيامه القادمة.
ومن غير المعقول أن تكون المملكة العربية السعودية بعيدةً عن هذه التوقعات والاحتمالات، وغافلة عمّا يدور وراء أبواب الولي الفقيه المغلقة.
أما نحن ففي انتظار المحللين والخبراء المداومين على الفضائيات العربية والعراقية الذين جزموا بحرب وشيكة على إيران، من جهة، ومن جهة أخرى في انتظار الولائيين العراقيين والسوريين واللبنانيين والفلسطينيين واليمنيين. ماذا سيقولون؟ وماذا سيتوقّعون؟ وأيَّ منقلب سوف ينقلبون؟