كرم نعمة يكتب لـ(اليوم الثامن):
هل الغرب نظيف أخلاقياً بما يكفي بشأن العراق
سألني استاذي في الجامعة، عندما كنا معاً في التظاهرة التاريخية غير المسبوقة التي جابت شوارع لندن ضد الحرب قبل أسابيع من احتلال العراق عام 2003 وهي ترفع شعارها الإنساني الرافض للدم مقابل نفط العراق، عما إذا كنت أتوقع بـ “أنهم” سيضربون بلدي العراق. أجبت بالإيجاب المؤلم، وهز رأسه بألم التعاطف مع محنة بلدي قائلاً “أنا كذلك أعتقد ذلك”.
لم نكن أنا وهو من بين الملايين في التظاهرة التي مثلت فاصلة تاريخية في معنى الرفض من دون أن تؤثر على قرار جورج بوش وتوني بلير، لم نكن نسأل لماذا نحن هنا إذاً؟ فيما كان ينتظر العراق آنذاك عملية تهشيم لكل ما يتعلق بمفهوم الوطن.
بعد عشرين عامًا يتساءل جيرارد بيكر كبير كتّاب الأعمدة في صحيفة “وول ستريت جورنال” عن الصعوبة البالغة في الدفاع عن حرب العراق بعد عقدين من الزمن، ويقول لم تعد بغداد تشكل تهديداً كما زعموا، ولكن من الخطأ الادعاء بأن الغزو كان الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه الغاية.
يعبّر بيكر أسوة بالخطاب السائد في وسائل الاعلام الغربية منذ أسابيع، عن استغرابه من تبريرات احتلال العراق، من قبل القتلة في إدارة بوش وبلير، بذريعة أن مئات الآلاف الذين ماتوا كانوا سيموتون جراء أي صراع!!
ويقول “ما نوع فراغ الضمير الذي يسمح بالربط بين مأساة تاريخية وأخرى افتراضية ويضع لهما وزنًا أخلاقيًا متساويًا؟”.
فراغ الضمير هذا نجده اليوم عندما يتم اعتبار احتلال العراق وتدميره مجرد خطأ يكفي الاعتراف به بعد عقدين ليتحول إلى “فضيلة”! ولا أحد بما فيهم التاريخ يمكن أن يحاسب القتلة الذين ارتكبوا جريمة إنهاء وطن، بذرائع كاذبة، فقد انطلق احتلال العراق من مبدأ اقترحه “كيس الأكاذيب والعروض البصرية الزائفة أمام مجلس الأمن” كولن بأول على بوش “قسّم كي تسيطر” ثم برره رامسفيلد بذريعة “الحرب تجلب الحرية” وبعد الفوضى قال “الحرية ليست منظمة” حتى وصلوا جميعاً الى ما ادعته كوندليزا رايس “الفوضى الخلاقة”.
الاكتفاء بمجرد استذكار الكارثة بذريعة استنباط الدروس منها، لا يعني مراوغة التاريخ، فاحتلال العراق جريمة كبرى وكارثة يتحملها الغرب، كشفت أن ساسته لا يمتلكون ما يكفي من الأخلاقيات عندما تتحول نوازعهم الشخصية وطموحاتهم السياسية الى مجزرة بحق مئات الآلاف من المدنيين. أو كما كتب المؤرخ العسكري والكاتب البريطاني ماكس هيستنغز “الغرور الأخلاقي رذيلة محبطة للثقافة الغربية بمجرد تذكر مزاعم احتلال العراق”.
تلك مفارقة إن تكتفي “الديمقراطية البريطانية” بالتحقيق المجرد مع بلير ويصر على عدم التعبير على ندمه على الأكاذيب والجرائم التي ارتكبها بحق العراقيين وجعل من بريطانيا هامشًا لغطرسة إدارة بوش.
والمفارقة الأخلاقية الأخرى، عندما يترك بوش في مرسمه يتمتع بذاكرة القتل التي ارتكبها قبل عشرين عامًا في بلاد الرافدين في خطيئة العرض الإعلامي الزائف الذي شكل لحظة فضفاضة من الغطرسة الأمريكية. وكأن التاريخ مجرد نزهة في الذاكرة وحشد من التقارير الصحافية والبرامج التلفزيونية.
تحول كل ذلك فيما بعد إلى زلة لسان لبوش خلال كلمة له أمام الجمهور بتكساس في شباط الماضي، عندما وصف احتلال العراق بأنه “قرار رجل واحد بشن غزو غير مبرر ووحشي للعراق” فيما كان يتحدث عن حرب أوكرانيا.
بيد ان الصحف الأمريكية وصفت زلة اللسان تلك بـ “الخطيئة الفرويدية” التي لا تدعو إلى الضحك لأن بوش أدان نفسه علنًا بعد أن قام بعمل وحشي بذرائع كاذبة لاحتلال العراق. حتى بعد أن تراجع وغيّر كلمة العراق إلى أوكرانيا.
لا يكفي الاستذكار الغربي لجريمة احتلال العراق، ولا يكفي اعتبار الجريمة مجرد خطأ مر على التاريخ السياسي ارتكبه بعض السياسيين الكذابين. هناك ما يترتب على كل الاوجاع والدموع المسفوحة وأنهار من الدماء المراقة، والمليارات المهدورة من ثروة العراق، والأهم من ذلك إن العراق لم يتحول إلى حال أفضل بعد احتلاله، وهذا وحده يكفي لمحاكمة أصحاب مزاعم “واحة الديمقراطية”.
بل هل يكفي اعتراف صحيفة “واشنطن بوست” بعد عشرين عامًا من انسياقها المتعمد مع أكاذيب احتلال العراق، بأن الاحتلال كان وحشيًا وغير مبرر تمامًا، لتبرير كل الأكاذيب التي جعلت منها مانشيتات لصفحتها الأولى؟
وكل التقارير التي تنشرها اليوم “نيويورك تايمز” عن خطيئة احتلال العراق، لا تغفر لها البضاعة الصحافية الفاسدة التي كانت تبيعها للقراء وهي تسير خلف أكاذيب بوش.
اليوم، هناك حاجة ماسة وقوية لرؤية احتلال العراق باعتباره كارثة تاريخية في الحياة الأمريكية والبريطانية الداخلية، كان تأثير فيتنام أشبه بالحمى، في حين أن تأثير العراق كان أشبه بالهزال أو الانتكاسة. حسب وصف روس دوثات الكاتب من صحيفة “نيويورك تايمز” فقد انتشر تأثير الحرب ليتخلل الأزمات الاجتماعية الأخرى كأفيون بات أكثر وضوحاً وتدميراً بمرور الوقت، لتجعل آثاره المستمرة الجسم السياسي أكثر عرضة للتطرف اليساري والديماغوغية اليمينية، وتجلب مزاجاً تشاؤمياً وخيبة أمل تفاقمت بعد ذلك. بينما على الجانب الآخر مازال العراقيون يبحثون عن وطنهم المخطوف وبعد عشرين عامًا من فقدانه.