محمد الحمامصي يكتب:

الازدواجية والانقسامات أنهكت السودان بالأمراض

تندلع الحروب على الدوام لأسباب مزعومة مثل الدفاع عن المصالح الوطنية، أو بث الوعي، أو إعلاء كلمة الله، أو نشر الأفكار، والتي هي دوما أفكار دوغمائية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلالها. وبما أن الدوغمائية لا تخضع الأفكار للبرهان، لا يصبح المتمرّد عليها مخالفا في الرأي فقط، بل مهرطقا، ولكن وراء هذه الأهداف التي يوحي بعضها بالنبل تكمن في أغلب الأحيان طموحات ذاتية لسياسيين طائشين، أو دعاة قلّما يراودهم الشك في حتمية دعاواهم.

انطلاقا من هذه الرؤية يروي الدكتور منصور خالد وزير الخارجية السوداني الأسبق، والذي عمل أيضا مستشارا سياسيا لزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان الراحل جون قرنق في كتابه “السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام قصة بلدين” الصادر عن دار تراث، قصة الأعوام الخمسين الأخيرة في السودان، مركّزا على الطبقة الحاكمة في الشمال وبعض المعلقين السياسيين فيه، ورؤاه لمسرح الأحداث منذ الاستقلال والانقلابات والحروب الأهلية والتأثيرات الإقليمية والعالمية عليها، مؤكدا أن الأسباب الجوهرية لأغلب الحروب تكمن في رغبة قائد أو جماعة أو دولة في تعظيم مصالحهم المتخيلة دون اعتبار لمصالح الآخرين، بل وبإنكار الحقوق المشروعة للآخرين في بعض الأحيان.

ويرى خالد “في حالة السودان كان الدافع الرئيسي للحرب رغبة جائرة من جانب جماعة واحدة للاستمساك بامتياز غير مشروع على حساب خصم افتراضي، متذرّعة بالحرص على الحفاظ على مكتسبات وطنية، بفهم ضيق لمدلول الوطن والوطنية. حيث ذهبت تلك الجماعة إلى تحديد مقومات الوطنية وفق معايير ممعنة في الذاتية، كما تمتلكها نزعة الاستئثار بكل شيء. لم ترض حتى بالتنازل عن القدر اليسير في سبيل أن تعيش العائلة الوطنية في سلام”.

ويقول “عهدنا بالسياسة السودانية طويل. حرصنا على الاقتراب الموضوعي من قضايا الوطن، وعقلنة ما نقول ونفعل. لهذا فمع الذي يقال عن أن المشتغلين بالسياسة يتناولون قضاياها، بفم مفتوح وعقل مغلق، إلا أننا ظللنا، بقدر المستطاع، نداوم السعي على أن يبقى عقلنا متفتحا وهو يراقب أسباب تلك الحرب المهلكة. ولا سبيل لتحقيق هذا إلا بتلمس وجهات النظر عند طرفي الصراع”.

ويتحدث المؤلف عن النخب السودانية، فيلفت إلى أن المسؤولية عن هذا الهرج الذي ساد السودان ما بعد الاستقلال تقع على عاتق النخب في الشمال والجنوب بالمقام الأول. ويقول “في كتابي ‘السودان وإدمان الفشل’ حاولت الكشف عن وجوه القصور في تناول الحكومات والجماعات التي تسهم في تشكيل الرأي العام لمسألة الحرب والسلام في السودان. وكان جليا أن الحكومات ومكيفي الرأي أدمنوا بشكل مرضي تكرار نفس الأخطاء مما أفضى إلى عجزهم عن تحقيق الاستقرار”.

ويتساءل: إذن ما هي العوامل التي تحفز هذا الخلل السلوكي؟ ويضيف “لقد بدأت الحرب في السودان فعليا في الستينات من القرن الماضي، على الرغم من أن جذورها القريبة ترجع إلى قبيل استقلال السودان أغسطس 1955. وكان من الممكن السيطرة على أعمال العنف التي طرأت من ذلك التاريخ، لولا قصر الحكومات المتعاقبة في الخرطوم التي افترضت أن الوطنية الشمالية الصغرى يجب أن تصبح المقوم الوحيد للهوية الوطنية لكل السودان، بما في ذلك الجنوب. لم تدرك تلك الحكومات أن الطبيعة غير الشاملة لهذه النظرة للهوية الوطنية قد تؤدي إلى ظهور سياسات قائمة على، ومنحازة إلى، الأعراق داخل الحدود الجغرافية للشمال نفسه. وعليه أصبحت الهوية المفترضة عنصرا آخر من عناصر الصراع”.

ويؤكد وزير الخارجية السوداني الأسبق “هكذا عجز السودان عن التحول إلى دولة مدنية شاملة تضم مواطنين مختلفين، ولكنهم متوحدون في تنوعهم، مما قاد إلى استعار الصراع في الجنوب. واليوم يدخل هذا الصراع عقده الخامس، باستثناء فترة هدنة دامت عشر سنوات هي الفترة ما بين عامي 1973 – 1983 التي تلت اتفاق أديس أبابا عام 1972، وأنهاها حكم شمالي بالتواطؤ مع سياسي جنوبي هو جوزيف لاقو”.

ويتابع “خلافا لنصوص اتفاقية أديس أبابا قام الرجل بتقسيم الجنوب إلى ثلاث مناطق ذات سلطات دستورية أقل من تلك التي حددتها الاتفاقية للإقليم الجنوبي. وفي وقت لاحق وفي إحدى الحلقات التآمرية مع الإخوان المسلمين قام جعفر النميري بفرض قوانين دينية إسلامية على بلد متعدد الأديان.. كانت بلا مرية هي أدنى مراحل السقوط السياسي”.

خالد يؤكد أن الأسباب الجوهرية لأغلب الحروب تكمن في رغبة قائد أو جماعة في تعظيم مصالحهم المتخيلة دون اعتبار لمصالح الآخرين، بل وبإنكار الحقوق المشروعة للآخرين في بعض الأحيان

ويشير خالد إلى أن حدثين هامين وقعا بعد انتهاء حقبة النميري واشتعال الحرب بين الشمال والجنوب من جديد عام 1983، الأول هو بزوغ الجبهة الوطنية الإسلامية، واستيلاؤها على السلطة عبر انقلاب عسكري بقيادة عمر البشير في يونيو من عام 1989، اتشح برداء وطني حينما زعم قائده أنه جاء لينقذ الأمة من الفوضى التي أشاعتها الأحزاب. وبعد مضي عشر سنوات على الانقلاب اعترف البشير علانية وبلا استحياء بما كان يعرفه الجميع طوال الوقت: أنه كان مجرد واجهة للجبهة القومية الإسلامية.

الحدث الثاني والذي ربما كان نتاجا للحدث الأول هو شيوع فكرة السودان الجديد وبلوغها الذروة في قرارات أسمرا في يونيو 1995، ولا ريب في أن المعاناة التي عاشها السياسيون والنخب الشمالية تحت حكم الجبهة القومية الإسلامية رققت إحساسهم تجاه المعاناة التاريخية للآخرين. ذلك الإحساس المتأخر عبرت عنه قرارات أسمرا التي تمثل نقطة تحول كيفي في التاريخ السياسي للسودان، إلا أنها لم تفض إلى سلام قابل للتحقق.

ويشدد على أن “الازدواجية والانقسامات هي التي ألحقت بالدولة السودانية الضني والهزال حتى أصبحت منهكة بالأمراض. لهذا كلما احتدمت الأزمة السودانية دخلت في مرحلة استعصاء تاريخي مرده هو عجزنا أو تجافينا الخوض في عرق المشكلة”.

ويرى المؤلف أنه إلى جانب الازدواجية المتعارضة برز على السطح تصنيف أيديولوجي سياسي جديد، فمنذ أوائل الستينات سيطر على السياسة السودانية استقطاب جديد: القوى التقليدية ضد القوى الحديثة أو القوى الديمقراطية واليمين ضد اليسار؛ والدعاة إلى “الدولة العلمانية” ضد أولئك الذين ينشدون الدولة الدينية. ذلك الاستقطاب جعل من تحليل السياسة السودانية كابوسا لعلماء السياسة ومؤرخيها.

ويلاحظ خالد أن تعبير القوى الحديثة نفسه تعبير تجهله أدبيات السياسة، فالجماعات السياسية تعرف على أساس الفروق الاجتماعية والاقتصادية في ما بينها. ولكن المعلقين السياسيين في السودان ظلوا يطلقون هذا الوصف على الصفوة من أبناء العاصمة والشمال النيلي الناشطين في النقابات والاتحادات المهنية والطلابية، علما بأن الرباط الوحيد الذي يجمع بين هذه الجماعات هو حرصها على الدفاع عن حقوقها المهنية ومصالحها الاقتصادية. ومع الإقرار بأن إعادة بناء السودان سوف تبقى منوطة لفترة طويلة بالطبقة الوسطى التي تعتبر النخبة المسيسة من بينها القاطرة الفكرية المحركة، إلا أن هذا لا يبيح التقسيم القسري للقوى السياسية إلى جديدة وتقليدية دون نقطة استدلال ترد إليها الأمور.