د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
"أزمة الحكم بين العسكرتاريا والبروليتاريا".. الحكم العسكري في الغالب ضعيف وإسقاطه يكون أيسر وأسهل
منذ مطلع الخمسينات بدأ مسلسل تنازع السلطة والسيطرة على الحكم بين الفئتين أعلاه في الساحة العربية ونتج عن ذلك سلسلة من الانقلابات بلغت 123 انقلابا عسكريا نجح منها 39منها ثورة 23يوليو في مصر عام 1952م بقيادة جمال عبد الناصر التي نتج عنها تحولا جذريا على المستوى العربي تلتها انقلابات أخرى منها : انقلاب القذافي بليبيا، وانقلاب السلال باليمن ، وانقلاب عبد الكريم قاسم بالعراق، وانقلاب حزب البعث بسوريا ومحاولتيْ الانقلاب اللتان شهدهما المغرب في عامي 1971و1972م .
ومن مساوئ الحكم العسكري أنه يؤدي إلى تصحّر عام في الحياة العامة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية.. في زمن كانت بعض الدول العربية قد بدأت تنمو فيها بذور حياة ديموقراطية حقيقية، برلمانات منتخبة وصحافة مستقلة وحياة عامة حرة نسبيا.. وذلك أيام كانت مَلكية، كمصر وسوريا والعراق في الأربعينيات والخمسينيات.. فجاءت هذه الانقلابات وقضت عليها تماما.
وقد عاش وتكوّن ونبغ أكثر المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء والروائيين.. في عهود ما قبل الانقلابات العسكرية.. لو أخذنا مصر نموذجا نكتشف أن طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل ولطفي المنفلوطي وتوفيق الحكيم وأمثالهم.. نشأوا ودرسوا قبل انقلاب 1952.إن الإبداع يحتاج لجوّ من الحرية ولابدّ.. بل في تاريخنا كان المجتمع يتسامح مع المُبدعين حتى إن تمرّدوا عن ثقافته العامة.
وفي العادة العسكر قوم بلا ثقافة ولا مشروع سياسي، ذلك لأن تكوين العسكري تقني يتعلق بفنون الحرب والقتال وآلاتهما.
عانى العالم طويلا من ويلات الحكم العسكري، لكن بينما استطاعت أكثر الشعوب أن تتحرّر منه، فإن العالم الإسلامي يظل الأكثر تضررا إلى اليوم من هذا النمط القاتل من الحكم الديكتاتوري.
أن الحكم العسكري هو أسوأ أنواع الحكم، وأنه فساد للبلاد والعباد.. لذا واجهت أكثر شعوب العالم ظاهرة الانقلابات واستطاعتْ إنهاءها.
القوى الكبرى، أمريكا وأوربا الغربية وروسيا، وصلت إلى نتيجة مهمة هي أن أيّ حكم ديموقراطي بالعالم العربي والإسلامي حكم خطر لأنه سيحرر الشعوب وسيخدمها ويخدم مصالحها.. لذلك لكي تستمر الهيمنة الغربية والدولية على الشعوب المسلمة ينبغي إبقاءها تحت حكم عسكري، لجملة أسباب منها:
السبب الأول : أن الحكم العسكري في الغالب ضعيف لأنه لا قاعدة شعبية له.. والدول الكبرى تُحبذ التعامل مع الحكّام الضعفاء لأنهم أطوع لها وأكثر استجابة لمصالحها.
السبب الثاني : أن الحكم العسكري إذا قرّر التمرّد على هذه القوى، فإن إسقاطه يكون أيسر وأسهل، إذ يمكن تدبير انقلاب آخر، أو اغتيال الشخصية السياسية المطلوبة. وقد سارت أمريكا كثيرا في هذا الطريق في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، فدبّرت الانقلاب على محمد مصدق بإيران، والانقلاب على سلفادور أليندي بالتشيلي.. كما تمّ اغتيالهما.
ما الحلّ، أو كيف نحافظ على الحكم المدني؟
إن الحكم العسكري - بحكم استناده إلى نخبة صغيرة- يميل دائما إلى الديكتاتورية.. إذ طبيعة الإنسان الفرد أن يطغى بسهولة، فالسلطة فتنة، وللحكم جاذبية لا تقاوم (هي جاذبية الكرسي).
لذلك توصّل علماء السياسة من قديم إلى نظرية فصل السلطات بعضها عن بعض، لأنهم لاحظوا بالاستقراء التاريخي أن تركيز السلطة في فرد أو مجموعة صغيرة يؤدي لظهور الحكم الشمولي..
بمعنى آخر أن تعميق الديموقراطية – فكرا وممارسة - هو صمام الأمان الرئيس من أيّ انحراف كبير يهدد الدولة واستقلالها .
يكذب العسكريون حين يقولون نحن جئنا لمرحلة انتقالية، كذا قالوا بعدد من الدول العربية، فإذا بهم تجاوزوا نصف قرن من التسلط على رقاب الناس وحُكمهم بالغصب...
السبب الأول أن الحكم العسكري في الغالب ضعيف لأنه لا قاعدة شعبية له.. والدول الكبرى تُحبذ التعامل مع الحكّام الضعفاء لأنهم أطوع لها وأكثر استجابة لمصالحها.
السبب الثاني أن الحكم العسكري إذا قرّر التمرّد على هذه القوى، فإن إسقاطه يكون أيسر وأسهل، إذ يمكن تدبير انقلاب آخر، أو اغتيال الشخصية السياسية المطلوبة. وقد سارت أمريكا كثيرا في هذا الطريق في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، فدبّرت الانقلاب على محمد مصدق بإيران، والانقلاب على سلفادور أليندي بالتشيلي.. كما تمّ اغتيالهما.
أعتقد أننا بحاجةٍ ماسة إلى أن نتأمل طبيعة التناقض الذى يُمكن أن يقوم بين فكرة الدولة المدنية وفكرة الشمولية أو الحُكم الشمولي أو الدولة الشمولية. وغالبا يشير مفهوم الدولة الشمولية إلى الدولة التي تحتكر السلطات، وتسيطر على جميع أشكال النشاط، بما في ذلك النشاط الاقتصادي، وتفرض نظاما واحدا وشاملا ــ غالبا عبر نظامٍ حزبي واحد وإيديولوجية شمولية تضع كل أفراد المجتمع على وجهة واحدة ــ لا يترك مجالا للتعددية أو للمُمارسات الديمقراطية الحرة كما حدث في الجنوب العربي عندما سلمت بريطانيا الحكم للجبهة القومية سابقا – الحزب الاشتراكي - لاحقا !!
وغالبا ما يوصف هذا النمط من الدول بأوصاف أخرى، كالدولة التسلطية أو الدولة الدكتاتورية. وفى إطار الدولة الشمولية، لا يَترك النظام السياسي مجالا من مجالات الحياة إلا ويخضعه للمُراقبة والضبط. وتقف النزعة الشمولية التي تَسم نظام الحُكم في مثل هذا النَوع من النُظم، تقف في مقابل الحياة المدنية، في تدفقها وتعدد مناحيها ومساراتها. ونحن لا نفترض هنا أن النظام الشمولي يلغى الحياة المدنية أو يمحوها محوا، ولكننا نفترض أنه يضغطها ويجعلها أكثر عرضة لنُظم متعددة من الضبط والرقابة، ومن ثم تحجيم تدفقها في المجتمع.
معروف أن فكرة الدولة الشمولية ظهرت في إيطاليا على يد منظري الفاشية والمُدافعين عنها. وكان هؤلاء المفكرون والفلاسفة، وعلى رأسهم الإيطالي جيوفاني جنتيلي (1875م ــ 1944م)، ومن بعده الفقيه القانوني الألماني كارل شميت (1888م ــ 1985م)، يستخدمون المفهوم بمعنى إيجابي فهو يشير إلى نَوعٍ جديد من الدكتاتورية، أو نَوعٍ جديد من الدول، يقوم على شمولية الأهداف وشمولية التمثيل. فالمجتمع يسعى إلى أهدافٍ قومية واحدة وشاملة؛ وتكتسب أيديولوجية الدولة شمولية، وقد نقول احتواء، لكل أعضاء المجتمع. تصبح الدولة في هذا الظرف الشمولي صاحبة القول الفصل في الأمور كلها؛ فلا شيء ضد الدولة، وكل شيء في داخل الدولة، كما يقول موسوليني (1883م – 1945م ). وفى هذا الظرف تحتوى الدولة المجتمع كله؛ فلا يصبح للفرد كيانٌ، وتغدو ذاته خاضعة تماما لمتطلبات الأيديولوجيا. هذه الأيدولوجيا التي تُمذهب الأفراد ليل نهار فيدمجونها ويتعايشون معها حتى وإن لم ترقَ إلى مستوى عقولهم وأرواحهم .
قد يكون هذا الفهم للدولة الشمولية فَهما إيجابيا بالمعنى الذى يركز على فكرة الضمير الجمعي (عند دوركهايم) أو الروح الجمعية أو الكلية (عند جوستاف لوبون) التي تتجه إلى تحقيق هدف واحد، والتي تجعل الدولة في حالة تغير دائم سعيا نحو الكمال، بالمعنى الذى قصده هيجل (1770م ــ 1831م) في تحليله للدولة. ولكن هذا المنطق غاب تماما عند تطبيق هذه الأفكار الشمولية في الواقع. لقد كان حضور الدولة الشمولية في التاريخ حضورا قاسيا وظالِما، وبخاصة في الظهور الأول لها في الدولة النازية والدولة الفاشية. ففي الدولة النازية (1933م ــ 1945م) والدولة الفاشية (1922م ــ 1943م) ارتبطت الدولة الشمولية بالتعصب العرقي، والتطرف في فرض الرأي الواحد، وقهر الأصوات الناقدة والمُناقضة، وتعذيب بعض اليهود وحرقهم، وتحويل المجتمع إلى آلة حربية لغزو الشعوب المُجاورة وفرض الإرادة النازية عليها، ما أدى إلى إشعال حرب عالمية راح ضحيتها الملايين من مدنيين وجنود.
ولا شك في أن هذا كله يعمل على تضييق الخناق على تدفق الروح المدنية. فالفرد الذى هو أساس تكوين المجتمع، والذى له حق مدنى في الحرية والتعبير عن الرأي، لم يعُد حرا، والقانون الذى هو ركيزة من ركائز الحياة المدنية أصبح يطبَق لمصلحة رأى معين غالِب من دون بقية الآراء. بل إن القانون لم يعُد له من معنى في هذا السياق، فهو قانون الغالِب والمُسيطر. ومن ناحية ثالثة يتحول مفهوم المُواطنة، والذى هو ركيزة أساسية للحياة المدنية، إلى مفهوم مشوه، حيث يُمكن أن تنزع السلطة الشمولية المُواطَنة عن الأشخاص؛ الأمر الذى يجعل الأفراد الأحرار غير قادرين على العيش في المجتمع (قد نشير هنا إلى ظاهرة هروب المثقفين والمفكرين والعُلماء من الحُكم النازي وهجرتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية). وهذا ما حدث في الجنوب عندما حاول النظام الشمولي في عدن تطبيق تجربته الشيوعية بطريقة النسخ واللصق وقفز على كل الاختلافات الدينية والتاريخية والاجتماعية والحضارية لدى شعب الجنوب العربي المسلم !!
بحيث لا تعرف الدولة الشمولية فصلا بين السلطات؛ فالسلطات كلها بين زعيم الحزب ، الذى تشع منه كاريزما القيادة، الحقيقية أو المزعومة، إلى باقي أرجاء المجتمع كما هو حاصل اليوم في كوريا الشمالية وفى هذا السياق تصبح الحياة المدنية حياة مضغوطة مشوهة. حقيقة أن الأفراد يعيشون في حياتهم اليومية ويتفاعلون من أجل العيش المُشترَك، ويتعاونون في سبيل استمرار الحياة، ولكنهم ليسوا بحالٍ من الأحوال أفرادا أحرارا قادرين على أن يحددوا مصيرهم. فعقولهم، لا بل رءوسهم مشدودة دائما نحو الدولة، وكثيرا ما تنتابهم حالة خوف شديد من الأجهزة القمعية للدولة الشمولية، نقصد هنا الدول الشمولية التي قامت في المجتمعات ذات التوجه الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي السابق، وفى الصين وكوريا الشمالية وكوبا لفترات معينة وفي دُول من العالَم الثالث. وقد كانت الحياة المدنية أكثر تدفقا وحيوية، ولكنها لا تتحرر كلية من ضغط الشمولية وأيديولوجيتها المُسيطِرة. فقد قامت هذه النُظم على سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، وعلى أيديولوجية تنموية تجعل الدولة تسيطر على أيديولوجية أدوات الإنتاج، في إطار نظامٍ للحكم يقوم على سيطرة الحزب الواحد الذى غالبا ما يكون ذا نزعة اشتراكية . ولقد حاولت هذه النُظم تقديم نماذج تنموية فشلت فى بعض البلدان، ونجحت في بلدان أخرى. ولقد سقط الكثير من هذه النظم على أثر تفكك دولة الاتحاد السوفيتي في العام 1989، وتحوله إلى عدد من الدول. فقد تحولت الدول كلها التي كانت تسمى دول الكتلة الشرقية أو كتلة حلف وارسو عن النزعة الشمولية في الحُكم. كما تراجَع الحُكم الشمولي في بلدان كمصر وسوريا والعراق واليمن الجنوبي، وغيرها من الدول. ولكنْ ظلت للشمولية بعض الصور المستمرة حتى الآن، لعل أكثرها بروزا نظام الحُكم في كوريا الشمالية وكوبا والصين.
على الرغم من أن لهذه النُظم مرامي أخرى فإنها تكبح حرية الأفراد، ولا تسمح بتأسيس منظمات مدنية طوعية. ومن هنا فإنها تضغط الحياة المدنية بقوة وتمنعها من التدفق. وقد يقال إن النجاحات التي تحققها هذه الدول على مستوى النمو الاقتصادي، والازدهار الثقافي والفني والرياضي، فضلا عن تطبيق معايير العدالة الاجتماعية وسد الحاجات الأساسية للسكان يعوِض السكان عن كمية الحرية المسلوبة منهم. ولكن مهما كانت المزايا التي يحققها الحُكم الشمولي على النمط الاشتراكي، يبقى الحُكم المدني الخالص، الذى تحدده الإرادة الشعبية والذى يسمح بالتعددية والمُراجعة والنقد الذاتي، نموذجا يتوق إليه عقل الإنسان الباحث عن الوجود الإنساني الحر.