كرم نعمة يكتب لـ(اليوم الثامن):

"جوانا تقربنا من الوعد الزائف"

أدهشتني كعادتها، من دون أي مفاجأة، جوانا ستيرن في عمودها الأسبوع الماضي في صحيفة "وول ستريت جورنال" عندما جعلت القراء وأنا من بينهم، أمام حقيقة الوعد الزائف للذكاء الاصطناعي، وحولت الكتابة في عمودها إلى سلسلة مقاطع فيديو استنسخت فيها نفسها من أجل تجربة خداع حسابها البنكي وأسرتها. لتقول لهم إن من تتحدث معكم جوانا ليست من أمها وأبيها، بل من تلك التكنولوجيا المخيفة.

صنعت نسخة منها عبر نظام طورته شركة  "Synthesia" يقوم بتحويل الصوت والنص المكتوب وصورة الوجه إلى فيديو لشخصيتها قدمتها إلى أهلها وإدارة المصرف في تجربة أولى. لم ترد لها أن تذهب أبعد!

في النهاية نجحت جوانا ستيرن إلى حد ما مع بعض أفراد أسرتها وإلى حد أكبر مع مصرفها في التعامل مع حسابها البنكي عبر شخصيتها المستنسخة بالذكاء الاصطناعي.

كان أحد أهدافها هو تحديد تأثيرها المستنسخ منها (…) على نوعية إنتاجيتها الصحافية، بالإضافة إلى رؤية مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على أن يكون بشريا ويمكن أن يصنع رؤى تعبّر عن كوامنها كما تفعل في العادة في مقالها الأسبوعي. ويمكن أن يحل محلها، ويستخدم اللغة التي تميزت بها خلال تجربتها الصحافية والتلفزيونية على مدار سنوات، وربما يحصل على جوائز، كما سبق وأن حصلت جوانا على جائزة “إيمي”.

لكنها في تلك اللعبة المدهشة وغير المضللة أرادت أن تسلط الضوء على سيف ذي حدين، وكيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح بشريا بدرجة مخيفة.

حل الفيديو محل المقال المكتوب في صحيفة “وول ستريت جورنال” وإلى حد وقت كتابة هذا المقال هناك تسعة ملايين مستخدم تابع الفيديو.

لست متأكدا مما إذا كانت جوانا قد اطلعت على مقال "الوعد الزائف" الذي كتبه عالم اللسانيات نعوم تشومسكي مع اثنين من علماء اللغة والذكاء الاصطناعي هما إيان روبرتس وجي واتومول، المنشور في صحيفة "نيويورك تايمز" الشهر الماضي. مع أن أهمية الأفكار الواردة في ذلك المقال ترجح اطلاعها عليه مثل كل المهتمين، وهم يطلقون حشدا من الأسئلة عما ينتظرنا من تلك التكنولوجيا.

لقد استعان كاتبو المقال بالحكمة التي تركها لنا خورخي لويس بورخس من أنّ العيش في زمن المخاطر الكبرى والوعد هو معايشة وتجربة للمأساة والملهاة في آن واحد، مع دنو واقتراب كشف وتجلّ يتعلق بفهم أنفسنا والعالم. بينما أرادت جوانا أن تحقق نبوءة بورخس ليس بحكمة اللغة ودلالتها في التعبير عن المكامن الإنسانية، مع أن اللغة نفسها أداة هذه الصحافية الناجحة، لكنها عرضت على قرائها فيديو يقدم نسخة منها صنعها الذكاء الاصطناعي. لتصل إلى السيف ذي الحدين، وهو نفس الكلام الذي كتب في مقال “الوعد الزائف”، فما حققناه اليوم من تقدم ثوري مزعوم في مجال الذكاء الاصطناعي بالتأكيد سبب لكل من القلق والتفاؤل.

سبب التفاؤل، وفق الكتّاب الثلاثة، هو أن الذكاء وسيلة يمكننا حل مشاكلنا من خلالها، أما القلق فمبعثه خوفنا من أن يمتهن النوع الأكثر شهرة ورواجا من الذكاء الاصطناعي، وهو تعليم الآلة علمنا، وتشويه أخلاقنا من خلال دمج مفهوم معيب بشكل أساسي للغة والمعرفة في التكنولوجيا التي نستخدمها.

لم تذهب جوانا بعيدا في المعضلة الأخلاقية التي تنتظرنا من الذكاء الاصطناعي، في تجربتها المشوقة، عندما اقتصر الأمر عند محاذير السيف ذي الحدين، بينما تشومسكي ورفيقاه توصلوا إلى أن تلك الثورة غير قادرة على تحقيق التوازن بين الإبداع والتقييد، فهي إما تبالغ في تضمين حقائق أو أكاذيب، أو دعم قرارات أخلاقية ولا أخلاقية على حد سواء، من دون مبالاة بالعواقب. وكأنهم يذكرون بشخصية هوفمان في “رجل المطر” الخارق في حفظ الأرقام بدماغ مصاب بالتوحد!