عوض القيسي يكتب لـ(اليوم الثامن):

حكاية من بلدنا المنكوب بأهله

عدن

في كل رمضان، تقام في مسجد الهدى بالمنصورة مائدة لإفطار الصائمين. صار لهذا الأمر قرابة عشرين عاما. من المحسنين من يتبرع بالتمر، ويقدم للصائمين كأس عصير وكأس حقين وماء ولحوحا، ويقدمون أحيانا الزربيان. معظم الحاضرين هم من الحارات المجاورة للمسجد، ويأتي عدد من عابري السبيل ممن لا يجد بيتا يفطره في رمضان. 
مضت أعوام طويلة لم أذهب فيها للإفطار الجماعي. الإفطار الجماعي في المسجد له نكهة روحانية فريدة. نحضر معنا بعض الفطور ونشارك الأخرين، ويتذوق كل منا طعام الآخر، والأجمل عندي حينما أجد بعض عابري السبيل ممن لا يجدون شيئا. أمر طيب أن تشعر بغيرك من الصائمين وأن تشاركهم فطورك. 
هذا العام رغبت في أن أفطر في المسجد، فأعددت عدتي أول يوم، وأخذت ما تيسر من فطور. جئت متأخرا قليلا؛ فوجدت الناس يفترشون سُفرات في دكة المسجد الخارجية، وهي دكة عرضها متران ونصف، وطولها يصل إلى عشرة أمتار أو يزيد. 
جئت وقد امتلأ معظم الدكة بالصائمين، وبقي في طرفها فراغ قليل لم تمد فيه السفرات، ووجدت عددا قليلا من الناس خارج المائدة المبسوط سِماطها، ووجدت أحد الجيران فيهم، فقعدت معهم وبسطت فطوري، وأعطانا القائمون تمرا وقهوة سمراء. وما كان ألذ الإفطار مع الآخرين. إنه متعة روحية أكثر منها حسية. 
في اليوم الثاني، أخذت فطورا أكثر، وجئت قبل موعد اليوم السابق بخمس دقائق، لكني وجدت أنني خارج السفرة، ووجدت عددا من عابري السبيل خارج البساط، كان بعضهم يبدو من عمال النظافة التهاميين. قعدت معهم وأردت أن أبسط الطعام لكنني لم أجد سفرة أضع عليها الطعام أو أي كيس كبير يصلح لأن يقوم مقام الصحن. ومر موزعو الفطور وأعطونا قهوة ولحوحا. طلبت منهم أن يعطونا سفرة لكن يبدو أن السفر قد نفدت. 
وبينما كنا ننتظر الأذان، طلع علينا رجل قارب الستين من عمره، مُربَدّ الوجه، فصوّب إلينا نظرات تقدح شرا، ومن بين كل الحاضرين، ترك أصحاب المائدة العامرة، وتوجه إليَّ أنا والجالسين معي خارج البساط العامر، وأخذ يقرِّعنا بصوته المزمجر قائلا: عندما تأكلون كل واحد منكم يرفع بقاياه ولا يتركها هنا، ما أحد خداما عندكم.
لوهلة ظننت أن أحدا ترك طعاما وأكوابا بلاستيكية في اليوم السابق حتى جاءنا هذا الرجل غاضبا، فاستحيت أن أرد عليه، على أن المعلوم أن في مسجدنا عمالا يقومون على شؤون النظافة بعد فراغ الصائمين من إفطارهم. 
استمر ذلك الرجل في تقريعه بعد أن أعطانا ظهره، وسمعته يقول: "هؤلاء مثل الحيوانات". استفزتني عبارة التحقير تلك، لكنني مغطتها كعادتي في التحلّم مع السفهاء، لا سيما ونحن صيام، ونقعد في حمى بيت الله، وعلى دقائق قليلة من الإفطار. وقد غضب بعض من كان بجانبي لسماعهم شتيمته. توجه الرجل إلى مجموعة أخرى من الجالسين بعدنا ممن لم يشملهم البساط العامر، ويبدو أنه يعرفهم، وكرر حديثه عنا، وتوجه بوجهه إلينا وقال زاعقا: يأكلون وبعد ذلك يتركون قمامتهم خلفهم، حيوانات! عندها ثار الدم في عروقي، وقمت فصحت بصوتي الجهور كله قائلا: والله ما حيوان إلا أنت! فرد عليّ السبة ورددت عليه بسيل من الشتائم بصوت أسمع كل من كان على دكة المسجد: أنت حيوان وحقير وكلب، جزمة بحلقك يا سافل! 
في بداية ردي عليه اقترب جهتنا وهو يسب، لكنه تراجع عندما رأى شدة غضبي وتوعدي إياه، وكذلك الذين كانوا جانبي، حينها تدخل بعض الجالسين بالتهدئة. فقلت لهم:
- عيب عليه! لم نذكره بكلمة، ولم يصدر منا أي شيء مسيء، كان له أن يأتي ناصحا وكنا سنقبل نصيحته. سبنا أول مرة فسكتنا، لكنه تمادى وكرر السب. 
أما الرجل الزاعق فقد توجه له بعض القائمين على المسجد وأخبروه أن في المسجد عمال مختصون بالنظافة وأن لا شأن له في الكلام مع الآخرين.
فيما بعد، قيل لي: "جرحت صومك، وأضعت يومك"، فقلت: "لست أظن ذلك. صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقول: إني صائم إني صائم، إن واجهنا من يسبنا في يوم الصيام أو يريد شجارا، لكن هذا الرجل تعدى كل الحدود، فلم يكن بيننا وبينه سابق معرفة، أو تعامل أدى لأن يقع منا ما يغضبه، وقد تعدى حدود حلمنا بتكراره السب بعد كل إعراض منا. إنه من الصنف الدنيء الذي يحب التسلط على الناس إن رأى فيهم ضعفا. لم يجرؤ على التقدم من أصحاب البساط العامر، بل نظر إلينا نحن الذين في الطرف ورأى معظم الجالسين من العمال الأغراب على المنطقة فتجرأ على توجيه سبه؛ لذا أعُدُّ الرد على سبه قصاصا عادلا ونهيا عن المنكر. 
- نهيا عن المنكر؟!
- نعم نهيا عن المنكر. هذا الصنف الذي يحقر الناس ويهاجمهم دون أدنى سبب ليس ممن يُنهى عن المنكر بالنصيحة أو بالقول البسيط، بل بجزاء من جنس عمله، وبرد السبة عليه بأحسن منها، وإهانته الآخرين بإهانة كرامته وكسر شرفه على محضر من الناس. مثل هذا الآدمي مجرم جبان، إن وجد من يسكت له تجبر واحتقر، لكن إن وجد من يصده يذعر ويرجع كما كان كائنا حقيرا في نظر نفسه.

عوض القيسي
عدن 19/ 4/ 2023م