محمد خلفان يكتب:

صناعة التاريخ.. الإمارات نموذجا

لحظة تاريخية مهمة، على حكومات العالم وخصوصا العربية منها الانتباه لها وعدم المكابرة على تلك اللحظة، وهي القبول بصعود دول عربية جديدة على موقع الصدارة في العمل السياسي الإقليمي والنهوض التنموي. والقناعة بأن التغير هو القاعدة الأساسية في مواقع الدول. والقبول أيضا بأن الحكومات التي ليست لديها القدرة على مواكبة تطور الأمم والأجيال عليها التنحي، بدلا من اتهام الآخرين بأنها السبب في عدم قدرتها على التواجد في الساحة الدولية.

التاريخ يخبرنا أن الكثير من دول العالم كانت في موقع متقدم للدول، وفي مؤشرات التقدم والتأثير الدولي، منها: فرنسا التي احتلت العديد من دول العالم، ولكنها اليوم تصنف من الدول المتوسطة في النظام الدولي، بل رأينا كيف تتعامل دول أفريقيا السوداء معها قبل عام، لأن فرنسا لم تدرك ما حدث من تغيرات في العالم، أو أنها أنكرت فشلها فعاشت على وهم ما قبل الحرب العالمية الثانية.

يمكن أن نعزو تراجع الدول إلى سببين. الأول، أنها وصلت إلى قمة طموحاتها واعتقدت بأن هذا هو نهاية المطاف، وعاشت على تلك الإنجازات والتي بعضها تكون نتيجة لصدفة أو لحظة انتقالية في تاريخ الأمم، ولكن لم تكن صناعة للتاريخ كما هو في عالمنا حيث الكل يتنافس ويكون البقاء لمن يجيد إدارة العلاقات الدولية، وليس لمن يخلق أزمات داخلية وخارجية مع جيرانه القريبين والبعيدين.

العيش في وهج التاريخ ومعايرة الآخرين به – وهذا للأسف يحدث عربيا – دون الاستفادة من قصص تحولات الأمم أمر محزن، بل يدعو أحيانا إلى الشفقة

السبب الثاني، ظهور قيادات جديدة في الدول الصاعدة على مستوى العالم، هذه القيادات تدرك مكانة بلدانها على الساحة الدولية وأعادت ترتيب أولوياتها فتصدرت المشهد السياسي الحالي.

لم يعد يكفي، لا التاريخ بكل إنجازاته، ولا المساحة الجغرافية الواسعة وتنوع تضاريسها، ولا حتى التعداد السكاني الكبير، حتى تلعب الدول دورا رئيسيا من التأثير في الملفات الدولية، وعالمنا مليء بأمثلة تثبت ما نقوله. بل هذه المتغيرات أحيانا تكون عبئا على الدول نفسها بعد أن تراجعت للداخل. فالتاريخ إذا لم يكن سببا للانطلاق من جديد فإنه قد يتسبب في أن تعيش الأمة التي تنتمي لها في الماضي دون رؤية ما يحدث على أرض الواقع، كما أن التاريخ لا يثبت، فهو أقرب لأن يكون كائنا حيا يتطور وفق المجريات التي تحدث، مثلما كانت ألمانيا في عهد بسمارك، ولكنها بعد هتلر انشطرت إلى قسمين، وهكذا اليابان.

أما بالنسبة إلى المساحة الجغرافية، فإن الفاعلين الحقيقيين في النظام الدولي مجموعة من الدول الصغيرة والمتوسطة التي تلعب دورا مؤثرا في الساحة الإقليمية والدولية، منها على سبيل المثال، دول مجلس التعاون الخليجي، وبشكل خاص دولة الإمارات العربية المتحدة، فهي من الدول ذات القوة الناعمة التي جعلت منها محل استقطاب الجاليات المختلفة من شعوب العالم.

وهي أيضا (الإمارات) من الدول التي أقرت لها الدول الكبرى بأنها تمتلك قوة ذكية في التأثير للحفاظ على مكتسباتها الوطنية، ولهذا هي محل احترام من الولايات المتحدة ومحل تقدير من روسيا بوتين، ومحل الطموح الصيني كحليف إستراتيجي. والأمر ينطبق أيضل على التعداد السكاني، هو ميزة إذا وظف بشكل صحيح، كما هو الحال في الصين والهند، ولكنه يصبح عبأ خطيرا إذا لم تستثمره الدولة في مشاريعها الوطنية.

الإمارات من الدول التي أقرت لها الدول الكبرى بأنها تمتلك قوة ذكية في التأثير للحفاظ على مكتسباتها الوطنية، ولهذا هي محل احترام من الولايات المتحدة ومحل تقدير من روسيا بوتين

العيش في وهج التاريخ ومعايرة الآخرين به – وهذا للأسف يحدث عربيا – دون الاستفادة من قصص تحولات الأمم أمر محزن، بل يدعو أحيانا إلى الشفقة. فالهند دولة لها عمق في الحضارات الإنسانية وكذلك تركيا التي كانت تسيطر على أجزاء كبيرة من العالم أيام الخلافة العثمانية، ولكن آمنتا بالتحولات وعاشتا الواقع ونهضتا من جديد. والأمر ينطبق على بريطانيا التي حكمت العالم يوما، ولكنها قبلت بالتحولات الحضارية للأمم. العرب الوحيدون بقوا في أسرى لحظات وهج التاريخ، ولا يريدون الاقتناع بأن الوصول إلى القمة هو الشق الأسهل من معادلة نهوض الأمم، ولكن الحفاظ على البقاء في القمة هو الشق الأصعب، لهذا نجد دولا مثل الولايات المتحدة تبحث عن منافس دائم لها كي لا تتخاذل في التفكير في المبادرات التنموية لإبقائها على القمة.

التفسير النفسي للتمسك بالبقاء في الماضي، سواء للفرد أو للدول، في النظرية السلوكية هو إحساس صاحبه بالهزيمة والفشل حيث يبدأ بإنكار تفوق الآخر عليه فيحاول استدراج التاريخ القديم، لكسب شرعية وجوده، ثم ينتقل المرض أو الإحساس إلى عدم القدرة على الاعتراف بالحاجة إلى مراجعة المسيرة التاريخية التي ليست كلها أمجاد، والحاجة إلى نقد الذات من أجل الاستفادة من الإرث التاريخي للبناء عليه وتعزيز الإيجابيات، مع استبعاد السلبيات كما حدث في اليابان وألمانيا، والعودة مرة ثانية للسيطرة على مجريات الأحداث في الساحة الدولية وفق المعطيات الحديثة، حيث تفوقتا اقتصاديا ومعرفيا على العالم، على عكس وضعنا العربي حيث الإصرار على سرد التاريخ باعتباره إنجازا، وكأن الأمم الأخرى لم تكن لديها إنجازات، وربما هذا هو السبب في الحساسيات الدائمة بين الشعوب العربية.

للقائد السياسي دور في استنهاض أمته وإعادة كتابة تاريخ جديد لبلاده، من خلال وضع رؤية تعيد أمجاد شعبه، بدلا من التلاعب بمفردات منها نظرية المؤامرة الرائجة والمحبوبة في العقلية العربية، والتشكيك بالإنجازات والمكانة اللتين حققهما الآخرون وقطعوا أشواطا في التنمية وإعادة كتابة تاريخ جديد يصلح للزمن الحالي.