اسعد عبدالله علي يكتب لـ(اليوم الثامن):
مطاردة في زمن صدام
مرت عليه ايام صعبة جدا بعد ان صدر امر القاء القبض عليه بتهمة معارضة الدولة والقائد الاوحد, لذلك كان ينتقل من مكان لأخر هربا من مصائد الأمن البعثي, كان جالسا وحيدا يفكر بعمق, يحدث نفسه ويتذكر حواراته مع ابن عمه.
"أن الحياة لا تعطيك شيئاَ, إن لم تأخذ منك مقابله شيئاَ أخر", كلمات حسان ابن عمي مازالت ترن في ذاكرتي, وهو منذ الايام الاولى للحرب مع إيران وقد اختفى! وقد تأكد الاهل ان النظام اعتقله كما اعتقل الاف الشباب, وقد صدقت كلماته, لكن باختلاف بسيط, ففي الواقع ان الدنيا لم تعطيني شيئا! بالمقابل أخذت كل شيء... إلا إذا اعتبرنا الخوف والقلق والرعب عطاء دنيوي مقابل ما أخذت منا.
ها انا مطارد من قبل رجال الامن بتهمة عشقي للكتب! أتعلمون لماذا؟ لاني اشتريت كتاب البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي, هذا عنوان جريمتي كما كتبها صاحب التقرير السري, فهل هناك أكبر من هذا الجنون, تصبح متهما فقط لانك تقرا!
اتذكر جيدا العجوز الاشمط ابو عبيدة في حينا, وهو لا يكل ولا يمل من كتابة التقارير بحق شباب الحي, فادخل الاحزان على البيوت, مقابلة حفنة من الدنانير الملطخة بالدم, يا ليتني ضربته بفأس جدي العتيقة, عندما صادفني ليلة الامس.
صعدت الباص وهو مزدحم جدا, والناس في ذهول وصمت الكل خائف, وراديو الباص يزعق بصوت اغنية: (احنة مشينا للحرب...), فتزرع كلماتها الرعب في قلوب الناس.
في رأسي ضجيج أجيال الثمانينات وهم يصرخون طلبا للحياة, انهم الاكثر مظلومية في القرن العشرين, حيث كان رغما عنهم ان يصبحوا وقودا لحرب صدام, والا يتم إعدامهم بتهمة خيانة الوطن! مازلت اتذكر احلام صديقي محمود بان يشتري تلفزيون ملون, ليشاهد كاس العالم بالألوان, هذا أكبر أحلامه, لكنه قتل في سجون البعث, وذبل معه احلام مباريات بالالوان, او عباس الحلاق وخططه للزواج من ابنة عمه بعد ان اشترى غرفة نوم مستعملة بسعر مناسب, لكن بعثي حقير من زقاقه قام بكتابة تقرير بان عباس يشتم صدام, فاختفى عباس من الوجود وتبخر حلمه بالزواج.
في جسدي تعب الحرب وجروح الحصار, وهموم سنوات طويلة ضاعت مني, افتقد عمراَ هرب بعيداَ, فصول متلاحقة تذبل ونحن نبحث عن خبز الشعير المخلوط بالخشب.
أبحث عن الخلاص من كل هذا, فلا أجد الا مشنقة البعث تلاحقني, السماء ممطرة كأنها لم تمطر من قبل, بل تبكي على ما يحصل لنا بين جدران العراق, يخيل الي ان الفصول ذابت في فصل الخريف فلا نعيش الا به, برد قارص كانه الوحدة التي تقض مضاجعي.
مستمر بالهرب من ملاحقات الجيش الزيتوني, ملابسي ممزقة كأني احد المتسولين في شوارع بغداد الغارقة بالخوف, فجأة صوت بدد وحدتي :
- هويتك, أخي...
كأني غرقت في بحر عميق متلاطم الأمواج, فها انا بين يدي رجال الامن, بعثي بلبسه الزيتوني وشاربه الذي غطى على كل ملامح وجهه, كان لابد ان اقول شيئاَ:
- عن أي هوية تتحدث؟ لا أملك الا هوية التشرد والخوف وبعض الجنون.
نظر بعمق نحوي وتفحص وجودي, ثم تنهد وقال:
- يبدو انك من المجانين, لا تبقى في هذا الشارع وإلا تم الامساك بك.
صعقني جوابه, فركضت بعيدا, وأنا فرح بملابسي الرثة التي دعت هذا البعثي لترك قدري ليوم آخر.
اقترب الليل ان يدخل على بغداد وان هارب بين الازقة من زبانية البعث, وصلت مقهى عتيق في شارع الرشيد, اغلب الجالسين حزانى يبكون من دون صوت, والتلفزيون يعرض بطولات صدام مع اناشيد حماسية, طلبت شاي وكانت امامي صحيفة الثورة, حاولت ان أقرأ شيئا نافعا يبدد وحشة الزمن, نكتة او قصيدة غزلية او نص عن الحب, وجدتها ممتلئة بقصائد الشعراء وهم يمدحون صدام! يغدقون عليه بصفات الشجعان والحكماء, اي نفاق هذا الذي يمارسه شعراء ايام المحنة! عجيب امرهم ان يفقدوا عذريتهم مقابل دنانير البعث.
وصلت اخيرا لشارع حينا وهو مظلم غارق بالمياه الاسنة وتل نتن من الاوساخ, وقربهما جدار متهالك, ومرسوم عليه صورة صدام ومكتوب تحتها: ( صدام حسين بطل الامة العربية وفارسها), التفت يمينا ويسارا لا وجود لأي جرذ بعثي.. اطمأننت قليلا.
شعرت لحظتها برغبة عارمة للتبول, فاتجهت نحو صورة صدام واشبعته بولا وانا اقول: " ذق سيادة الريس, ذق ايها الطاغية العفن, الا يعجبك بولي, قدرك ان تكون مستقرا للبول".