إبراهيم مشارة يكتب لـ(اليوم الثامن):

رواء مكة والعودة إلى الذات لحسن أوريد

في سيرته الروائية روى حسن أوريد تجربته الروحية وسيرته الإيمانية في 221صفحة والتي صدرت عن المركز الثقافي العربي في طبعات متعددة، عن إقامته في الضفة الفكرية الأخرى ثقافة الغرب وفلسفة  سارتر وهايدغر وكامو ونيتشه، حيث كان يعتبر من قبل التجربة الدينية مجرد تراكم تاريخي لا يقوى على الصمود أمام تجارب فلسفة الأنوار والإنسية الغربية التي حررت الإنسان من جبروت التاريخ وهيمنة الإقطاع السياسي والديني، وهو الأمازيغي المغربي الذي طالما نافح عن الهوية الأمازيغية كمقابل وضد ينفي العروبة والإسلام في اتجاهها العلماني المتطرف.

 لقد كتب في المقدمة أنه طالما جاءته دعوات لأداء فريضة الحج بحكم عمله الرسمي ومنصبه السامي كوال على مكناس وظل يتمنع ويعتذر،فالحج يعني القطيعة مع متع المنصب وما تمنحه للشخص النافذ من ملذات حسية ووجاهة وهيلمان ، وليس هذا الركن في فكره يومئذ  سوى طقوس غير مفهومة لأمة غارقة في التخلف والاستبداد وغياب النظرة العلمية ،لكن هذه الرحلة التي سرد يومياتها في كتابه – حاجا- غيرت نظرته رأسا على عقب وجعلته يعيد التفكير في انتمائه الحضاري وعقيدته الدينية ليصفي حسابه مع الضفة الأخرى ضفة الإنسية وهيجل وسارتر ومع المتع الحسية إلى ضفة الشرق حيث دوحة العقيدة وأفياء الإيمان الذي  يعطر الروح بنفخات قدسية تعيد للإنسان توازنه وتبصره بالغاية من وجوده على هذه الأرض ورسالته كإنسان منذور لخلافة الله في الأرض .

 رحلة الحج هذه تشبه كثيرا رحلات الحج التي نفذ من خلالها كاتبوها إلى الجوهري من هذه الشعيرة  ومن المؤكد أن أوريد اطلع على بعضها كـ"حج الفقراء" لمالك بن نبي و"الحج" لعلي شريعتي وكتاب "الطريق إلى مكة" لمحمد أسد و"الطريق إلى مكة" لمراد هوفمان والحج إلى بيت الله الحرام لإيتيان دينيه.فرحلات الحج شكلت مدونات سردية لتفاصيل الرحلة ومحطات الإيمان والتعبد  والتواصل مع الآخرين منذ ابن بطوطة الذي خرج من طنجة حاجا وطاف في الأرض سائحا وباحثا ومعتبرا إلى ابن جبير بل أغرت حتى الغربيين فغامر بعض المسيحيين بالحج لمجرد المغامرة والاكتشاف كرحلة الألماني هاينريش فون مالتزان الموسومة بـ" حجتي إلى مكة". 

عتبات الكتاب من صورة وعنوان وإهداء تحيل على مضمون الكتاب وهذه السيرة الفكرية للكاتب حيث تحتل الكعبة مركزا محوريا من غلاف الكتاب في تطابق مع رمزيتها في الإسلام ومركزيتها الإيمانية ، ثم هذا العنوان الرّواء  حيث وضع  شرحا  لهذه الكلمة بذكر مرادفاتها من "لسان العرب" والذي يعني البهاء والرونق ينعكسان على محيا زائرها.

 وجاء الإهداء إلى الأب والأم والجدة  كعتبة أخرى لبيان فضل هؤلاء الثلاثة على الكاتب ،ألم يقل جبرا إبراهيم جبرا أن الطفولة بئر أولى؟ بلى فالتربية الدينية التي تشربها الكاتب في طفولته عبر الأب والأم والجدة وهذه السكينة والرضا والتدين الفطري البسيط الذي غرسوه في حسن سيعود في عمره المتقدم ليكتسح الفلسفات والتمرد والسكنى في بيت الغرب، ستخرجه هذه التربية والتنشئة الأولى من فلسفة سارتر وكامو وتلقي به طائفا مع جموع الطائفين حول البيت العتيق.

دعا الكاتب عمله هذا سيرة روائية وهي في الواقع ترحال بين الطفولة والشباب والرجولة وبين المذاهب الفكرية، بين الماضي والراهن وبين الشرق والغرب أو بالأحرى ين روحانية الشرق ومادية الغرب وتزيد العناوين الفرعية لنصوص السيرة كعتبة أخرى في إضاءة عتمات النص ودهاليز المتن الروائي  وتفصح عن منطوقه ومضمره عن مختلف محطاته العمرية  كــ :ومضة، ذبذبات، همزات، إشراقات، البشائر، تداعيات الحنين إلى مكة.

تبدأ هذه السيرة الروائية بسرد تفاصيل الرحلة من مكناس حيث يقيم الكاتب ويعمل واليا عليها إلى الدار البيضاء لامتطاء الطائرة برفقة زوجته  إلى البقاع المقدسة ولكم تحجج وتمنع من قبل واعتذر بأدب عن الدعوات التي وجهت له من قبل، فالحج كما يفهمه الكاتب قطيعة مع مرحلة وبدء مرحلة جديدة ،إنه يعني الهجرة إلى الله ،إنه يعني التغير والتبدل والصيرورة لا الثبات  وذلك أن يهجر متعه الحسية التي هيأها وأتاحها له منصبه العالي  بلا حدود ثم هذه الفلسفة الغربية التي تشربها طالبا وكاتبا وباحثا حيث انتهى إلى تصنيف تربيته الدينية الأولى  والثقافة العربية الإسلامية كتراكم معرفي ومرحلة انتهت ،فالعلم  يسخر من هذه المعارف الدينية الأولى التي تعيق وتنمط وتقولب الفكر، والأحرى بالمثقف أن يهجرها ويتبرأ منها ليغدو حداثيا وعصريا ،إنسانا دخل التاريخ الحديث من باب ثقافته وإنسيته.

على متن الطائرة يعود الكاتب مستحضرا الماضي لقد استضاف عام2006وفدا ثقافيا  من فلسطين يعرض كذلك منتوجات تقليدية وكان الهدف فك  الحصار عن غزة واشترى منها الناس بأضعاف الثمن المعلن عنه تضامنا مع أهل غزة واستشرت حينها الآلام  بالكاتب بسبب مرض في عينيه  لينفل إلى المستشفى لإجراء عملية وهنا نذر لئن شفي من آلامه ليحجنّ إلى البيت العتيق ،وهاهو بعد تلك السنين يفي بالنذر وفي النفس شكوك وبقايا الفلسفات والروح العلمانية التي لا تبرح عقل الكاتب ،كون هذه الشعائر بقايا الوثنية، ولتكن تجربة جديدة وليخضها لعل التجربة كفيلة بإحداث التغيير.

تشكل الطفولة مخزنا ثقافيا وعاطفيا للكاتب وهو يستحضر المسجد الصغير بإفران في بداية الثمانينيات حيث دخل يبحث عن أخيه المصاب بالفصام، مسجد صغير بإضاءة باهتة لكنه لم يجد أخاه لا  في المسجد ولا في المناجاة ،ليقطع بعدها الصلة بهذا الموروث الديني، إنه مجرد ماض لا يصمد لحظة أمام أنوار العقل وفلسفات الغرب الحديثة التي بوأت الإنسان السيادة  على الطبيعة ليجد نفسه غارقا أكثر في فلسفة سارتر وكامو وهايدغر ونيتشه ثم طه حسين والمعري وحسين مروة ومهدي عامل والجابري والعروي وسلامة موسى وجولدتسيهر ومكسيم رودنسون ، وكان أن وصل إلى القناعة التالية (ليس هناك من دين ينزل من السماء بل آهات وعذابات البشر تصعد ثم تنزل مثل الماء الذي يتبخر من المحيطات وينزل في شكل مطر إلى الأرض ثانية).

وبين الإحرام والتلبية والدخول في مناسك الحج مع الجموع الغفيرة لا ينفك الفكر العلماني يحضر في صراع مع الشعائر في نفس أوريد ،ومع أن الكاتب استشعر المعاني العميقة للحج من كونه هجرة إلى الله وتعال على كافة أشكال الأوثان وإنسانية حميمة تكون عصارة الأخوة في الله ليعود ثانية إلى الماضي مستذكرا كيف عمل في الدبلوماسية وسافر إلى أمريكا لتحضير دكتوراه عن الحركات الإسلامية تحت إشراف فؤاد عجمي الذي لم يلتق به وعلمته إقامته القصيرة في أمريكا روح الغرب وجوهر الحياة الأمريكية وأخلاق الأمريكيين الحقيقية قبل أن يعود إلى التعليم والصحافة مواصلا جهده في التنوير والدفاع عن الهوية الأمازيغية والعلمانية التي سيكتشف فيما بعد أنها مجرد وسيلة لفك الارتباط بالإسلام والعروبة ،ثم تجربة الحوار مع الإسلاميين في شخص عبد السلام ياسين والعلمانيين الأمازيغ في شخص محمد شفيق.

لقد كان لحرب أمريكا على العراق أثر كبير في تحول الكاتب إلى نقد العقلانية وفلسفة الأنوار والنظر إلى الغرب لا بصفته راع لحقوق الإنسان وحاملا لأنوار الحضارة، إن هذا يصدق عليه لا على الآخرين وكانت مأساة العراق شاهدا على كذب الادعاءات الأمريكية بتكريس حقوق الإنسان وتنمية  الحريات لدى الشعوب بدءا بالشعب العراقي وبقدر ما يواصل الكاتب سرد تفاصيل سيرته الروائية عبر تقديم موجز ومكثف لأدائه شعائر الحج وعبر الاسترجاع يحفر في  ماضيه لقد تنقل بين الاشتراكية والقومية العربية والحركة الأمازيغية وكأنه غير مصدق أنه في مكة، لقد عاد بذاكرته ثانية إلى مؤتمر كوالالمبور عام 2003حول حرب الخليج وسمع الخطب المدبجة والملل الذي يطبع تلك الخطب  وتلمس صدق المسلمين من غير العرب في رفض الحرب ونفاق العرب الذين كانوا يلحنون في خطبهم ويضمرون السوء للعراق مما زاده نقمة على العرب وتوجههم الانبطاحي وانتهازيتهم وإفلاسهم الفكري والحضاري ،وتذكر كيف درس هو في المغرب العربية على حقيقتها عند معلميه المغاربة الذين درسوه نحو العربية وبلاغتها وشعرها المتمثل في روائع الشريف الرضي والمتنبي والمعري وأبي تمام والبحتري وشوقي وحافظ وغيرهم، ثم الرحلة إلى الأندلس عام 2007التي أعادت مسألة الانتماء إلى الواجهة وصالحته مع ماضيه  ،فهذه الحضارة الأندلسية الممثلة  في المعمار والتراث الفكري والديني والتسامح والتعايش مع بقية الأديان والثقافات أعادت إلية التفكير ثانية في قناعاته وزعزعت المسلمات السابقة.

لم يفت الكاتب أن يبدي امتعاضه من مظاهر العولمة في الحج وهيمنة النموذج الدعائي والاستهلاكي التجاري والسياحي على حساب جوهر الحج مع نقد صارم لنظام الحكم في تعاطيه مع العمالة الأجنبية في رفض تجنيسها وبخسها حقوقها والتعالي عليها وهي روح متعالية  أقرب إلى النخاسة منها إلى العمالة في تناقض غريب مع قيم ومبادئ الإسلام، ولقد توصل الكاتب إلى حقيقة مفادها أن العجم المسلمين هم أقرب إلى الإسلام في غياب النص العربي بينما العرب هم أبعد عن جوهر الإسلام في وجود النص العربي ، وما إن يأخذ أحدهم في الكتابة أو الحديث حتى يتم توظيف أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان تعطل الفكر وتصد النقد وتعطل التطور.

أثناء عودة الكاتب مع زوجته من البقاع المقدسة كانت له فرصة أخيرة  لإجراء تقويم شامل لحياته ولعمله الذي من المفروض أن الحج بعد الهجرة  إلى الله وهو يعني كذلك التحول والقطيعة مع المتعة المحرمة والتحول إلى النقاء والطهر، تلك المبادئ التي تشربها في طفولته على يد والديه وجدته ،إن هذا النقد الذاتي والتقويم لمختلف مراحل حياته في علاقته مع السلطة وخارجا عنها وفي نضاله ودفاعه عن العلمانية والحركة الأمازيغية انتهت بالكاتب إلى ضرورة العودة إلى البيت الأول أي المكون العربي والإسلامي بعد أن أقام طويلا في بيت الغرب في إشارة إلى تمكن الفكر الغربي منه خاصة الوجودية.

لقد طلب الإعفاء من منصبه كوال مع مقاومة مبدئية من أسرته فهي ستخسر الرفاهية والحياة الناعمة ولكن قرار الكاتب كان لا رجعة فيه ..التغير والتحول والهجرة إلى الله كما وسم رحلة العودة من الحج، لقد عاد إلى الصحافة والتعليم والكتابة في مختلف الجرائد المغربية والعربية وذلك يدر عليه النزر في مقابل الأجر الذي كان يتقاضاه كوال.

(حياتي تغيرت منذ ذلك التاريخ.. وليس يهمني خلاصي الفردي  .يهمني كل ما يهم الإسلام والمسلمين.. أرى فقرا وأرى بؤسا ،وأرى ظلما، وأرى غطرسة .. والأدهي أن أرى الافتاءات باسم الإسلام ...يريدونه طقوسا كما أراده بنو أمية وأنا أريده في نبعه الأول، تحت ظلال حامل اللواء ،محمد بن عبد الله عليه أزكي الصلاة والسلام ..أريده تحررا من الظلم ومن الفقر ومن الاستبداد).

وليس من قبيل الصدفة أن تنفد طبعات متعددة للكتاب فهو رحلة في الزمان والمكان وتطواف بين المذاهب صاغه الكاتب بلغة شاعرية  تستند إلى مخزون فكري ولغوي عند الكاتب ضاعف  من جماليات التلقي وليس غريبا كذلك أن احتفي به الإسلاميون في المغرب واعتبروه توبة نصوحا في حين وصفه الطرف الآخر بالردة وحمل على الكتاب والكاتب ولكنه في الواقع كتاب مهم يرتحل عبره القارئ إلى البئر الأولى ، براءة الطفولة وقلق الشباب  والصراع في الصحافة في الداخل والخارج  والنضال من أجل الأمازيغية  والعلمانية والصراع مع الإسلاميين ليتصالح الكاتب مع عقيدته في الآخر ويعاوده في آخر الكتاب الحنين إلى مكة.