أمين اليافعي يكتب:
نموذج الإمارات: عصرنة الأصالة وتأصيل المعاصرة
لأسبابٍ عديدةٍ، لم ينل نموذج التحديث والتنمية والتطور في دولة الإمارات العربية المتحدة حظاً كافيا من الدراسة والبحث، مع أنه أهم نموذج عربي استطاع أن يُحقق قفزات نوعية كبيرة في العصر الحديث وعلى كافة المستويات.
خلال زمنٍ قصير يُعَد بالفيمتو في مقياس عمر تطور الدول، انطلقت الإمارات وهي تُسابقُ الزمن لدخول العصر من أوسع أبوابه. كانت الخطوط العريضة التي وضعها المؤسس الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كمرتكزات تقوم عليها رؤيته وسياسته لبناء الدولة واضحة وبسيطة، ولكنها نافذة: خُلاصة صفاء الحكمة التي تتلمس منفعة شعبها ولو في الصين، مسنودة بصدقٍ وإخلاصٍ عاليين في العمل.
بفضل هذه الرؤية، نجحت الإمارات في أن تنجو بنفسها من الوقوع في دوامة الصراعات الأيديولوجية العنيفة التي شطّرت المنطقة طولاً بعرضٍ في النصف الثاني من القرن العشرين، مع التزامها التام بدعم القضايا العربية العادلة. كما لم تستهوها أو تستنزفها متاهات الخلافات البينية التي تُحرِّكها في الغالب نوازع التنافس السلبي على زعامة مُتوهمة، وظل شيخها الحكيم على مسافة قريبة من الكل، يُحاول لملمة الشظايا المتطايرة عن الصراعات المختلفة، يدعم الكثير من المشاريع الحيوية والتنموية في البلدان العربية، وأما داخلياً فقط ركّز جل همّه وجهوده على بناء مشروع نهضة بلاده وفق أسس ومرتكزات متينة، والقيام بنفسه بالإشراف على كل طُوبة في هذا المشروع الضخم.
اليوم يبدو النموذج الإماراتي فريداً ليس على المستوى العربي فحسب، ولكن العالمي. لقد ارتأت الإمارات، وكما فعلت دولٌ كثيرةٌ شرقا وغرباً، أن تقوم معاصرتها على نوع من الأصالة. ولأن أصحاب مشروع “الأصالة والمعاصرة” العربية لم يُحدِّدوا بالضبط ما هو ميراث الأصالة المُفيد، وما هو أفق المعاصرة المُثمِر، انتهى الحال بهذه المشاريع في براثن الأيديولوجيا، ولهذا السبب استطاعت تيارات الإسلام السياسي بشقيها السني والشيعي الاستحواذ على تركة وموارد ورأس مال هذه المشاريع، وتوظيفها ونخبها لخدمة مشاريع الإسلام السياسي المتخلفة.
على العكس من ذلك، قامت ركائز النموذج الإماراتي على رؤية واضحة ودقيقة وبما يُمكن أن نسمّيه: عصرنة الأصالة، وأصالة أو تأصيل المعاصرة، أي جعل مشروع التحديث أصيلاً ومتجدداً مع مرور الزمن original، وليس مجرد كوبي بيست فوري وعابر. وبناء على هذه المعادلة، كان هناك أشبه بفلتر مُحكم قام على تنقية الأصالة من الشوائب للاحتفاظ بالقيم الإيجابية ولضمان تَحقُق العصرنة، وتنقيح المعاصرة مما هو ليس بأصيل في سبيل بناء شخصية أو نموذج متكامل ومنسجم من الأصيل – المعاصر.
وبالتأمل في هذا النموذج، قد يرى المرء وبناء على تجاربه وخبراته السابقة صورة تبدو شديدة التناقض: مجتمع ما زال يحتفظ بعاداته وتقاليده على مستوى الشكل والمضمون من جهة، ومن جهة أخرى أكثر من 170 جنسية تعيش وتتعايش بسلام وانسجام على أرضها. وبما أن المجتمعات التقليدية بطبيعتها تسودها العصبية والانغلاق على الذات، وموقف شديد التحفظ من كل ما هو أجنبي، فضلاً عن هيمنة الانتماء الأصغر (القبيلة/العشيرة/الطائفة) على الانتماء الأكبر (الوطن)، وهي تحديات مهولة تواجهها الدول التي ما زالت التقليدية هي السمة الغالبة على مجتمعها تمنعها ليس من الانفتاح على الأجنبي فحسب، ولكن حتى تَحُول دون تمكنها من بناء مجتمع محلي متعايش ومتسامح، علاوة على أن هذا النموذج من الدول الجماعاتية ما زالت المحسوبية والوساطة والشللية تَبَطِش بمؤسساتها وغير قادرة حتى على تقنينها وترشيدها.
تُقدِّم الإمارات اليوم نموذجاً فريداً ولافتاً في تاريخ الدول الحديثة في طريقة وآلية وسيرورة عصرنة أصالتها. يحظى الأجنبي – وبغض النظر عن أصوله ودينه وعرقه ولونه – بأعلى درجات الترحيب والاحترام والتسامح على المستوى الرسمي والشعبي، ويعود الزائر بانطباع شديد الإيجابية وغير متوقع عن طريقة التعامل في بلد عربي/مُسلم، وعن المستوى العالي من النظام والانضباط والدقة. وأما على المستوى المؤسساتي، فإن ما تُشير إليه التقييمات الدولية التي تُتابع تطور المؤسسات في دول العالم المختلفة يُثير الدهشة: فالإمارات باتت تُزاحم، بل وتتفوّق، على دول تمتلك مؤسسات حديثة منذ مئات السنين، في الكفاءة والنزاهة ومعايير الجودة وسرعة الإنجاز والحوكمة الرشيدة.
يبدو جانب “تأصيل المعاصرة” أكثر وضوحاً، فالدولة النفطية سعت، ومنذ وقتٍ مبكرٍ، إلى الإفلات من فخ الدولة الريعية عن طريق تنويع قنوات مواردها وتمتين أعمدة بنية اقتصادها، فطرقت الكثير من أبواب المجالات الاقتصادية الحديثة والحيوية والواعدة، وباتت رائدة في بعضٍ من هذه القطاعات. عالمياً، تحظى شركاتها بتصنيفٍ عالٍ وبثقةٍ كبيرةٍ حتى عند خصومها، كما باتت وجهة استثمارية لا غنى عنها للشركات العابرة للقارات. وهذه النجاحات الكبيرة لا تَمُرُّ في العادة مرور الكرام في سياق دولي بالغ التعقيد والاضطراب، وبلغ فيه التصارع والتدافع ذروته. فالاستهدافات الإعلامية من خصومها تُداوم على مدار الساعة، كما يتم توظيف بعض من أصوات أبنائها ممن ينتمون إلى تيار الإسلام السياسي لمحاولة الإساءة إليها، ولتصنيفها على أنها دولة تقمع حرية الرأي. وبالتأمل في مضمون خطاب هذه الأصوات، سيكتشف المتابع بأن محفزات هذه المعارضة لا تعدو سوى أن تكون مجرد كراهية هذا النموذج من التسامح والتعايش والانفتاح، والسعي إلى استبداله بنموذج أيديولوجي متطرف كذلك السائد في لبنان أو اليمن أو دول أخرى، فعمليا باتت الإمارات من أكثر الدول التي تضمن حرية الرأي والمعتقد بالمعنى الشامل والإيجابي.
في السنوات الأخيرة، يقود رئيسها الشيخ محمد بن زايد جهوداً جبارة لمحاولة بناء أساسات متينة وشاملة يمكن أن تُحقق للمنطقة خارطة طريق للخروج من أتون الصراعات الدينية والأيديولوجية التي لا يبدو أن هناك أفقاً للخروج منها، وبالتركيز على الأبعاد العميقة لجذور هذه الصراعات. والمفارقة أن جهوده التي تلقى تقديراً عاليا على المستوى العالمي، شرقاً وغرباً، تجابهها ممانعة وتكالب لا نظير له من قبل أطراف وجماعات في منطقة الشرق الأوسط لا تريد للمنطقة أن تخرج من دوامة هذه الصراعات المستدامة.