هاني مسهوريكتب:
إفاقة العقل اللبناني: ضرورة للخروج من دوامة الأزمات
مقتل حسن نصرالله، في مضمونه العميق يمثل لحظة لإفاقة العقل اللبناني الذي عليه استيعاب حقيقة نشأته الوطنية، وأن يستعيد تلك الهوية الممتدة إلى واحد وثمانين عامًا، يوم ولد لبنان على مبدأ التنوع، وليس الأكذوبة التي غرست في عقله بأن لبنان نشأ نشأة طائفية أنتجت الحرب الأهلية. هذه لحظة جديرة بأن يستعيد فيها اللبناني هويته الحقيقية بعيدًا عن كل هذه الإرهاصات واللحظة الانفعالية المشحونة بعواطف مختلطة من الانتقام والتشفي وحتى الحزن. فهي لحظة أعمق على اللبناني أن يعيها ويدركها ويتعامل معها بواقعية، مدركًا مقتضيات ما يجب عليه أن يذهب إليه في الطريق الصواب، وليس ما يراد له أن يبقى فيه من دائرة محصورة بمحاصصة سياسية قتلت جوهر الوجود الإنساني في لبنان التاريخ.
مهما كانت مبررات اللحظة الآنية، على اللبناني أن يعلم بأن بلاده التي وُلدت في العام 1943 كإحدى أقدم الدول الوطنية نشأةً في المنطقة العربية، وُلدت تحت مفهوم “لبنان الكبير” باعتباره وطنًا جامعًا للتنوع الديني والمذهبي والطائفي. المسيحيون والمسلمون، سنة ودروزا، وضعوا بذرة الهوية الوطنية، وتخلّق معها لبنان كدولة بهوية وجغرافيا محددة. الخليط اللبناني هو الجذر الحقيقي لهذه البلاد، فما تأسس عام 1920 كان هو لبنان الصحيح المتعايش مع نفسه. ومنذ ميلاده، صاغ اللبنانيون أنفسهم كنقطة محورية للصيرفة، مستغلين موقعهم على البحر المتوسط ووجود الانتداب الفرنسي. تحوّلت بيروت إلى عاصمة المال وليست عاصمة للعقائد والطوائف والسياسة.
يجب أن يكون لبنان قادرًا على الاستفادة من تجربته التاريخية في التعايش بين مختلف الطوائف والأديان
بعد حرب 1948 بين العرب وإسرائيل بدأت إرهاصات الصراعات تغزو لبنان، غير أنه عبر المحطة الأولى في 1958 بوقوع الخلاف السياسي حول تمديد ولاية كميل شمعون تجاوزته الدولة اللبنانية. الاستقطابات الحادة تشكلت فعليًّا في لبنان مع النزوح الفلسطيني، وهي أزمة مكررة عرفتها أكثر من دولة. التحرج من التطرق إلى الوجود الفلسطيني بعد 1948 إشكالية عميقة في العقل الجمعي العربي. انعكاسات حلف بغداد الحادة على العالم العربي سياسيًّا لعب فيها الفلسطينيون دورًا ضمْن المجتمع اللبناني كما غيره من مجتمعات النزوح الفلسطينية. “أيلول الأسود” في الأردن يمثل شكلاً من أشكال التدخل الفلسطيني في الشؤون الداخلية للدول الوطنية، حتى وإن كان الأكثر حدة، غير أنه هو الصورة الواقعية للذهنية الفلسطينية التي تغولت في الدول وسياساتها.
المد القومي العربي كان مفرطًا في تجاوزه لمفهوم الدولة الوطنية، رغم أن معقل الناصرية كتيار في مصر لم يفرط في سيادته الوطنية ووضع ضوابط للوجود السياسي الفلسطيني. نجحت مصر فيما أخفقت الكثير من دول اللجوء، وهذا ما يستدعي شجاعة للمراجعة النقدية التاريخية. تفاقمت الحالة أكثر بعد نكسة العام 1967، فلقد قدمت حركات النضال الفلسطينية صيغة مظلومية حمّلت فيها العرب مسؤولية خسارة الحرب، ما جعل كل نظام منح لحركات النضال الفلسطينية الحرية في وطنه يحصل على الفشل السياسي الوطني. في لبنان تسبب الوجود الفلسطيني في نشوب الحرب الأهلية المدمرة، ومعها حدث الاجتياح الإسرائيلي في 1978. هذا ما حصل تمامًا في اليمن الديمقراطي، فلقد دفعت عدن الثمن تدميرًا كاملًا للدولة الوطنية بعد أن منحت الفلسطينيين معسكرات التدريب ومنحتهم أكثر من حقوق المواطنة على أرض الجنوب، والنهاية تسببوا في الحرب الأهلية عام 1986. ثم مع الغزو الشمالي للجنوب صيف 1994، كانوا مع القوات الغازية وفتحت مخازن المعسكرات الفلسطينية للشماليين.
عدن وبيروت وعمّان وتونس لم تكن العواصم الوحيدة، فالكويت عرفت مع الغزو العراقي 1990 ما عرفته تلك المدن. الحرب الأهلية اللبنانية امتدت إلى أن بلغت أبعد نقطة في حصار بيروت 1982، لتخرج حركة فتح من بيروت رافعة إشارات النصر وقد تركت وراءها بلدًا مدمرًا بالكامل. هذه السردية التاريخية وإن كانت قاسية، تبقى ضرورة لاستيعاب أن الكارثة لم تنتهِ مع اتفاق الطائف 1989، بل كان ذلك الاتفاق رصاصة القتل لمفهوم الدولة الوطنية اللبنانية. فالاتفاق نقل لبنان من دولة ديمقراطية إلى دولة المحاصصة المذهبية والطائفية. تكبلت أيادي اللبنانيين وتحولوا بموجب اتفاق الطائف إلى زعامات طائفية لتتسلل إيران عبر حركة أمل الشيعية بحجة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. التفصيلات كثيرة لكنها نتيجة حوادث راكمت مشهدية انتهت بأكثر مما كان يجب أن يكون عليه لبنان. ورغم ما حمله اتفاق الطائف من إنهاء للحرب الأهلية اللبنانية إلا أنه رسخ الانقسام الطائفي في النظام السياسي، ما ألغى مفهوم الدولة الوطنية. فقد نقل لبنان من نظام سياسي يعتمد على الديمقراطية التوافقية إلى نظام قائم على المحاصصة الطائفية، وهو ما جعل من كل طائفة أو مذهب مركز قوة يسعى للحفاظ على مصالحه الضيقة بدلاً من بناء دولة موحدة تستند إلى مبادئ العدالة والمساواة بين جميع مواطنيها.
على اللبناني أن يعلم بأن بلاده التي وُلدت في العام 1943 كإحدى أقدم الدول الوطنية نشأةً في المنطقة العربية، وُلدت تحت مفهوم "لبنان الكبير" باعتباره وطنًا جامعًا للتنوع الديني والمذهبي والطائفي
كان حزب الله هو أكبر المستفيدين من هذا النظام. فقد استطاع، بدعم إيراني، أن يستغل الفراغ الذي خلفته الدولة اللبنانية في بعض المناطق، ليفرض نفسه كقوة عسكرية وسياسية مؤثرة. واستمر الحزب في تقديم نفسه كمقاومة شرعية ضد إسرائيل، ولكنه في الوقت ذاته عمل على تعزيز قبضته على الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان، ما أضعف الدولة ومؤسساتها. مقتل حسن نصرالله قد يشكل لحظة مفصلية في تاريخ لبنان، حيث تبرز فرصة أمام اللبنانيين لإعادة التفكير في دور حزب الله وتداعيات نفوذه على سيادة لبنان واستقراره. يجب أن يدرك اللبنانيون أن استمرارية هذا النموذج القائم على هيمنة قوى طائفية مسلحة، تدفع البلاد إلى حالة من الانحدار المتواصل ويمنعها من تحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية وسياسية.
إن لحظة الإفاقة التي نتحدث عنها يجب أن تنبثق من إدراك اللبنانيين أن لبنان لا يمكن أن يظل أسيرًا لسياسات الدول الخارجية أو رهينًا لمصالح الطوائف. على اللبنانيين أن يستعيدوا روح الوحدة الوطنية التي أسست “لبنان الكبير”، وأن يتخلصوا من سيطرة المحاصصة الطائفية التي دمرت نسيجهم الاجتماعي والسياسي. الخطوة الأولى نحو تحقيق هذا الهدف تبدأ بالتوجه إلى البطريرك ومن داخل الكنيسة يعلن اللبنانيون وقف إطلاق النار مع إسرائيل من طرف واحد، ثم يعلنون التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن 1701 ومعه توقيع اتفاق سلام مع الدولة الإسرائيلية بالالتحاق بالاتفاقيات الإبراهيمية.
الإفاقة ليست صعبة أو مستحيلة بل هي الممكنة، وغيرها يعني أن يبقى لبنان مرتهنًا لخطيئته التي سقط فيها تحت مؤثرات الشعارات المخترقة للعقل السياسي. يجب أن يكون لبنان قادرًا على الاستفادة من تجربته التاريخية في التعايش بين مختلف الطوائف والأديان. فعلى الرغم من كل التحديات يظل لبنان بلدًا يتمتع بثقافة غنية وتاريخ طويل من التنوع والانفتاح. هذا الإرث يجب أن يُستثمر لبناء دولة مدنية حديثة تقوم على قيم التسامح والديمقراطية والشفافية. إفاقة العقل اللبناني هي المنتظرة ولا شيء غيرها.