ماريا معلوف تكتب لـ(اليوم الثامن):

الأزمة السورية بين التنافس الأوروبي-التركي ومستقبل العقوبات

تشهد الساحة السورية اليوم صراعاً مركباً لا يقتصر على الأطراف المحلية، بل يمتد إلى الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين يرون في سوريا ساحة لتحقيق مصالحهم الاستراتيجية. ومع تصاعد النفوذ التركي في الشمال السوري، تبدو أوروبا أمام تحدٍ جديد لإعادة ترتيب أولوياتها في الشرق الأوسط، حيث تسعى للحفاظ على موطئ قدم في بلد يمثّل حجر الزاوية في الجغرافيا السياسية للمنطقة.

النفوذ التركي: استراتيجيات الهيمنة

تعتمد تركيا في سياستها السورية على استراتيجية توسعية واضحة تهدف إلى تعزيز سيطرتها العسكرية والسياسية. من خلال عملياتها في الشمال السوري، تعمل أنقرة على فرض واقع جديد يخدم مصالحها الأمنية والاقتصادية. التحركات التركية الأخيرة ليست مجرد استجابة للتهديدات الكردية، بل تأتي في إطار طموح أكبر لتحويل سوريا إلى منطقة نفوذ طويلة الأمد تخدم أجندتها الإقليمية.

تركيا تدرك أن السيطرة على الأراضي السورية تمنحها أوراق ضغط مهمة في أي مفاوضات مستقبلية حول التسوية السياسية في سوريا. كما أن وجودها في مناطق استراتيجية يتيح لها دوراً أساسياً في مشاريع إقليمية كبرى مثل خطوط الطاقة، التي يمكن أن تربط الشرق الأوسط بأوروبا.

الموقف الأوروبي: العودة إلى الشرق الأوسط

في المقابل، يبدو أن الدول الأوروبية، وخصوصاً فرنسا وألمانيا، تدرك أن التخلي عن سوريا لصالح تركيا أو أي قوة أخرى سيؤدي إلى خسارة موقع استراتيجي مهم. بعد سنوات من التردد الأوروبي، يشير الخطاب السياسي الحالي إلى تحركات جدية لتعزيز الحضور الأوروبي في الملف السوري.

ترى أوروبا في سوريا بوابة لتحقيق أهداف متعددة. فمن الناحية السياسية، تمثل سوريا فرصة لإعادة تأكيد دور أوروبا كفاعل رئيسي في الشرق الأوسط بعد تراجع نفوذها خلال العقود الأخيرة. أما من الناحية الاقتصادية، فإن مشاريع إعادة الإعمار تمثل مجالاً واسعاً للاستثمار الأوروبي في حال استقرت الأوضاع.

الأوروبيون يدركون أن استمرار العقوبات الاقتصادية قد يعرقل أي فرصة للتأثير في مستقبل سوريا. لذلك، هناك نقاش داخل الدوائر الأوروبية حول إمكانية تخفيف العقوبات جزئياً بما يتيح المشاركة في إعادة إعمار البنية التحتية الأساسية، كخطوة أولى نحو تعزيز الحضور الأوروبي.

الاقتصاد والطاقة: البعد الخفي للصراع

أحد أهم المحركات الخفية للصراع في سوريا هو الطاقة. خط الغاز المحتمل الذي قد يربط قطر بأوروبا مروراً بسوريا وتركيا يمثل عنصراً حيوياً في الحسابات الأوروبية. بعد الخسائر التي تكبدتها أوروبا نتيجة الاعتماد على الغاز الروسي، تبدو مشاريع الطاقة البديلة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

لكن تحقيق هذه المشاريع يتطلب استقراراً سياسياً وأمنياً في سوريا، وهو ما تسعى أوروبا لتحقيقه عبر دعم حكومة سورية شاملة تضم مختلف الأطياف السياسية. في هذا السياق، يظهر القرار الأممي 2254 كخريطة طريق تسعى أوروبا لتطبيقها، ليس فقط لتحقيق الاستقرار السياسي، بل أيضاً لتأمين بيئة مناسبة للاستثمار الاقتصادي.

التحديات أمام الحضور الأوروبي

رغم التحركات الأوروبية الأخيرة، تواجه أوروبا تحديات كبيرة في سوريا. أولاً، هناك النفوذ التركي الذي يتزايد على الأرض ويمنح أنقرة أفضلية في تحديد مستقبل الشمال السوري. ثانياً، توجد روسيا، التي لا تزال اللاعب الأكثر تأثيراً في الملف السوري، وتسعى للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في الساحل السوري.

إضافة إلى ذلك، يشكّل غياب الوحدة الأوروبية في السياسات الخارجية تحدياً كبيراً. فبينما تدفع فرنسا باتجاه موقف أكثر حدة تجاه تركيا، تتردد دول أخرى في اتخاذ خطوات تصعيدية قد تؤدي إلى مواجهة مفتوحة مع أنقرة.

آفاق المستقبل

إن مستقبل الدور الأوروبي في سوريا يعتمد على قدرتها على تجاوز التحديات الحالية وفرض أجندة سياسية واقتصادية متوازنة. التنافس مع تركيا وروسيا قد يبدو معقداً، لكنه يفتح الباب أمام أوروبا لإعادة بناء نفوذها عبر دعم الحلول السياسية الشاملة والمشاريع الاقتصادية التي تخدم استقرار سوريا.

في النهاية، يبقى السؤال الرئيسي: هل ستتمكن أوروبا من تحويل طموحاتها إلى واقع ملموس في سوريا، أم أن التحديات الجيوسياسية ستعيق تقدمها لصالح قوى إقليمية ودولية أخرى؟