عباس البخاتي يكتب لـ(اليوم الثامن):

العراق.. التفسير المنطقي لحادثة اغتيال الشهيد الحكيم

 الحوادث المفجعة تحتاج لفترة طويلة لاستيعاب الصدمة، وهذا ما حصل عقب استشهاد السيد الحكيم، بحيث ساهم ذلك بعدم الالتفات لمساألة التفريق بين الحدث وتفسيره.
 فالموضوع الذي نحن بحاجة لفهم مغزاه، متعلق بالحقائق بعيدا عن الخوض بالآراء التي تفهم احيانا كتبرير نظري، وتحليلات  لم تكن مستندة على تحقيق جنائي استخباري ناتج عن جهد معمق لكشف الشبكة الواسعة التي تحرك الجناة في دائرتها تنفيذا لغاياتها، مع ما يمكن استثناءه لصلته بالخيوط المشتركة التي ساهمت بعدة احداث تلت حادثة جمعة النجف الدامية، كتفجير سفارة الأردن   لإضعاف الجانب الدبلوماسي العربي وتحجيم تاثيره الايجابي في الوضع الأمني العراقي.. اضافة للعديد من حوادث الاختطاف التي طالت دبلوماسيين عربا واجانب، حيث مقتل  أيهاب الشريف الذي كان يعمل سفيرا لدولة مصر في العراق، وتفجير فندق القناة الذي استهدف ممثلية الأمم المتحدة لإضعاف دورها في مساعدة الشعب العراقي.
إضافة للابعاد الخبيثة التي تحملها تفجيرات باب القبلة في كربلاء، وما تلاها من استهدافات منظمة ضد الغالبية الشيعية في العراق، لخلق مواقف داخلية وإقليمية ملتهبة تعيق بناء دولة عراقية جديدة تحترم الإنسان.
 هذه التفجيرات وغيرها، حالت دون نجاح القوى القيادية الجديدة في تحريك ماكنة الدولة المعطلة آنذاك..
لذا وجد المتصدي الجديد نفسه مرغما على الانصات لدوي المطالبات الجماهيرية بتوفير الامن الحقيقي ومرتكزاته  القائمة على التعبئة الجماهيرية الواسعة.
منذ الايام الأولى لسقوط صنم البعث، راهن بعض قياديي الاحتلال الأمريكي  وعدد من الواجهات السياسية التي تصدرتالمشهد_ على أمكانية تحرك بعض اتباع النظام السابق لاقتراف الجرائم بعد سقوطها المريع والسريع، الأمر الذي استدعى من قادة الأحزاب الوطنية أن يتحركوا  "بشكل خجول " للقضاء على البقايا المسلحة من قوى النظام، ولم يميزوا بين قدراتهم التخريبية وبين أحلامهم الخيالية.
صحيح أن أحلام عودة البعث لن تتحقق، فقد أنتهت و إلى الأبد، لكن أيتام صدام اعتادوا على استمراء حلاوة المتعة يتخريب البلد والعبث باقتصاده وإنسانه، وتلك الرغبة لن تزول، بدليل تمكنهم من ابتداع وسائل وأساليب جديدة لإطالة زمن القلق والمعاناة بين الناس.
مهما حاول البعض من دراسة الجريمة وابعادها دوافعها ومرتكبيها، يبقى وجود  " الاحتلال الأميركي " بطلاً لزمن الفوضى والجريمة، حيث تحولت شاشات الكثير من الفضائيات والصحف إلى متنفس للمحللين ذوي النزوات والأمزجة والعواطف والميول المناوئة لرغبة العراقيين، وفرصة لحرف الأنظار عن المجرمين الحقيقيين، إضافة إلى أن دور الأعلام العربي الذي امعن في دس السم بالعسل وتشجيع أيتام النظام الفاشي على التدمير والقتل والتخريب.
رغم كثرة تلك المحاولات وتأثير بعدها اللاأخلاقي وعدم دراية مروجيها إلا أنها تمكنت من التشويش على الدافع الأساسي للجريمة، عسى ان يبقى الغموض يكتنف الجواب على سؤال: من قتل محمد باقر الحكيم..؟
 أن التوجيه  السياسي والديني والقومي قد استهوى الجناة لتنفيذ جريمتهم , وهذه العوامل غير كافية لأن تكون سبباً اودافعاً وحيداً، لأن لأفكار السيد الشهيد علاقة مباشرة تماماً بعدد من تفاصيل الحركة الوطنية العراقية آنذاك، بل يرتبط بعضها بالبعد الزمني لمستقبل العراق.
لا نتوخى الوصول إلى تقويم لائق لأفكار هذا الرجل التي تبلورت بوضوح الرؤية السياسية ــ الدينية لديه، بعد سقوط النظام  إلى حد بالغ الأهمية_ بقدر تسليط الضوء على رفضه لتواجد قوات الاحتلال.. فقد استمد وعيه ومواقفه من واقعية الاتجاهات الجديدة التي توفرت أمام العراقيين بعد سقوط صدام.
إذاً فالجريمة هي فعل أعداء الكفاح الواقعي الذي تبناه السيد الشهيد، صاحب الواقعية الفذة، ولا يمكن تحجيم دوره فقط بالموقف من الاحتلال ألذي اسقط طاغية البعث بالرغم من تحفظ الحكيم على الآلية التي من خلالها اسقط الحزب الفاشي.
الحكيم في حركته بعد عودته من المهجر كان قد أخذ بنظر الاعتبار جدلية الشارع العراقي، الذي شهد حواراً واسعاً بطريقة قائمة على الحجج والمواهب الوطنية من أجل بناء دولة ديمقراطية، مع ثقته بتجسيد الحركة الإسلامية وربطها  بالحركة الجماهيرية العامة شريطة استكمال المتطلبات القادرة على ترسيخ وحدة الشعب، رغم الأخطار المحيطة به والأخطاء التي رافقت بناء العملية السياسية الجديدة.
الذين قتلوه تمكنوا من قتل الطموح الديمقراطي لدى محبيه. وهو الطموح المنتشر بين صفوف الجماهير، بنفس الوقت بشكل لم يسبق له مثيل، حيث يلتقي في صف واحد الكثير من دعاة الديمقراطية من مختلف الانتماءات والتوجهات السياسية والعرقية المتمسكة ببرنامج ديمقراطي طالما حلمت به.