هاني مسهوريكتب:
إعادة ضبط معادلة غزة.. هل تمثل بناء الإمارات خياراً واقعياً؟
لم يكن طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول تهجير سكان غزة وتحويل القطاع إلى "ريفييرا" مجرد رؤية خيالية بل كان تعبيراً عن ذهنية سياسية تتعامل مع الشرق الأوسط كمساحة قابلة لإعادة التشكيل وفق موازين القوى، لا وفق اعتبارات التاريخ والجغرافيا والهوية الوطنية.
هذه الرؤية، التي تماهت معها إسرائيل ضمن مشروعها الطويل الأمد، وضعت المنطقة في مواجهة سياسية محتدمة مع الإدارة الأمريكية، حيث لم يكن الرفض العربي مجرد موقف أخلاقي، بل جاء منسجماً مع ضرورات الأمن القومي وتوازنات القوى الإقليمية.
وسط هذا المشهد المضطرب، تبرز الخطة الإماراتية التي طرحتها ريم الهاشمي وزيرة دولة لشؤون التعاون الدولي الإماراتية، في يوليو/تموز 2024 كأحد البدائل الأكثر واقعية وقابلية للتنفيذ. ورغم أن الضجيج الإعلامي لم يمنحها الحضور الكافي، إلا أن إعادة طرحها اليوم في ظل المتغيرات السريعة أصبح ضرورة استراتيجية، خاصة أنها تقدم تصوراً متكاملاً لحل أزمة غزة، بما يتجاوز الطرح الأمريكي-الإسرائيلي غير الواقعي.
تقوم الخطة الإماراتية على أربعة مبادئ رئيسية: نشر قوات عربية لحفظ الأمن تحت قيادة أمريكية-أوروبية مشتركة، ما يضمن استقرار الوضع الأمني في غزة ومنع الانزلاق نحو فوضى الفصائل، وإعادة تمكين السلطة الفلسطينية لإدارة القطاع سياسياً واقتصادياً وأمنياً بهدف إنهاء الانقسام الفلسطيني وإعادة غزة إلى مسار الدولة الفلسطينية المستقبلية.
كما تتضمن الخطة: نزع سلاح الفصائل المسلحة، وهو بند حاسم لإنهاء دورة العنف ومنع تحول غزة إلى منصة دائمة للصراعات الإقليمية، إضافة إلى انسحاب إسرائيل من غزة كخطوة ضرورية لتمكين أي حل مستدام وضمان عدم إعادة الاحتلال بأي شكل من الأشكال.
هذه الرؤية الواقعية تتكامل مع الخطة المصرية الخاصة بإعادة إعمار غزة، حيث يمكن أن تشكل الخطتان معاً إطاراً عربياً لحل الأزمة، عبر الجمع بين الاستقرار الأمني وإعادة البناء الاقتصادي، مما يسهم في تخفيف حدة التوترات ومنع انهيار الأوضاع مجدداً، ففي ظل المشهد المعقد الذي فرضته الحرب، لم يعد الاكتفاء برفض الطرح الأمريكي كافياً، بل بات من الضروري تقديم بدائل واقعية تستند إلى رؤية عربية متماسكة.
خطة ترامب، التي تقوم على التهجير وإعادة الإعمار وفق شروط أمريكية-إسرائيلية، لم تكن مجرد إعلان نظري، بل أدت عملياً إلى إضعاف الموقف السعودي، الذي كان يشترط مساراً سياسياً واضحاً لإقامة الدولة الفلسطينية كجزء من اتفاقيات التطبيع، بعد هذه الخطة، أصبحت الأولويات السعودية مختلفة، حيث تحولت من التركيز على القضايا الاستراتيجية مثل المفاعل النووي والاتفاق الدفاعي مع واشنطن إلى وقف التهجير والمساهمة في إعادة إعمار غزة، مما قيد قدرتها على المناورة السياسية.
في المقابل، فإن الخطة الإماراتية تطرح بديلاً عملياً يحقق التوازن بين متطلبات الأمن القومي العربي والواقع الجيوسياسي، كما أنها تعيد ضبط العلاقات العربية-الأمريكية، من خلال تقديم تصور سياسي متكامل بدلاً من الاكتفاء بموقف الرفض، ومن هنا، فإن إعادة التذكير والترويج الدبلوماسي لهذه الخطة يجب أن يكون جزءاً من استراتيجية دبلوماسية عربية تسعى إلى إقناع القوى الدولية، مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بدعم هذا الطرح باعتباره البديل الأكثر استقراراً وقابلية للتطبيق.
ورغم وجاهة الطرح الإماراتي، فإن هناك عقبات واضحة ينبغي التعامل معها بواقعية، أولها موقف حماس والفصائل المسلحة التي لن تقبل بسهولة نزع سلاحها وتسليم السلطة، مما يستدعي وجود آليات ضغط إقليمية ودولية تضمن تنفيذ هذا البند بشكل تدريجي ومدروس، كذلك، فإن الموقف الإسرائيلي يشكل تحدياً، حيث لا تزال تل أبيب تراهن على مشاريع تتماشى مع رؤيتها في إبقاء غزة خارج إطار الدولة الفلسطينية، مما يعني ضرورة وجود ضغوط أمريكية وأوروبية لإلزام إسرائيل بالانسحاب الكامل، إلى جانب ذلك، تبرز التحديات اللوجستية لنشر القوات العربية، حيث يتطلب ذلك توافقاً عربياً واسعاً، وربما مشاركة دول مثل مصر والأردن والإمارات والسعودية لضمان نجاح المهمة.
إذا كان هناك درس واحد يجب تعلمه من تاريخ الشرق الأوسط، فهو أن الفراغ السياسي لا يدوم طويلاً، بل تملؤه المشاريع البديلة، وإذا لم يتم تقديم رؤية عربية واضحة لمستقبل غزة، فإن المشاريع الأمريكية والإسرائيلية ستفرض نفسها كأمر واقع، فالمناخ الدولي اليوم لم يعد يحتمل سياسة المراوحة، وهناك حاجة ملحة لمشروع يعيد التوازن إلى الطرح العربي بدلاً من ترك الساحة خالية أمام المخططات الأخرى.
الإمارات قدمت رؤيتها مبكراً، والمطلوب اليوم ليس فقط إعادة إحيائها، بل وضعها في صلب النقاش السياسي العربي والدولي، وجعلها الركيزة الأساسية لأي حل مستقبلي، فالدبلوماسية العربية لا يمكن أن تظل رهينة ردود الفعل، بل يجب أن تبادر إلى طرح خطط عملية قادرة على كسب التأييد الدولي، لا سيما في ظل الانشغال الأمريكي بالمشهد الأوسع في الشرق الأوسط.
إن تحقيق اختراق دبلوماسي في هذا الملف يتطلب تسويق الخطة الإماراتية كخيار قابل للتطبيق، وليس كمجرد اقتراح سياسي، وهذا يتطلب تحركاً عربياً واسعاً لربط الخطة بالموقف السعودي، خاصة أن الرياض باتت أكثر انشغالاً بوقف التهجير، مما يمنحها مصلحة مباشرة في إنجاح أي حل يمنع إعادة إنتاج الأزمة في المستقبل. كسب دعم القوى الدولية، مثل الاتحاد الأوروبي وبعض الدوائر في واشنطن، قد يكون أكثر ميلاً لدعم مشروع عربي لإعادة إعمار غزة تحت مظلة السلطة الفلسطينية، بدلاً من تبني رؤية ترامب المتطرفة.
ما يميز الطرح الإماراتي أنه ليس مجرد استجابة طارئة للوضع الحالي، بل هو مقاربة استراتيجية تستهدف وضع غزة ضمن مشروع سياسي وأمني واقتصادي متكامل، فالمنطقة لم تعد تحتمل حلولاً مؤقتة تؤجل الأزمات بدلاً من حلها، مما يجعل من الضروري التعامل مع الخطة الإماراتية باعتبارها فرصة لإعادة ضبط المشهد العربي والدولي وفق رؤية أكثر توازناً.
المعادلة واضحة: إما أن تبادر الدول العربية بطرح بديل عملي، أو أن تترك الساحة مفتوحة أمام المشاريع التي تهدد استقرار المنطقة، وفي هذه اللحظة، لا يبدو أن هناك بديلاً أكثر واقعية من الخطة الإماراتية، التي توفر إطاراً متكاملاً يمكن البناء عليه لتحقيق حل طويل الأمد لأزمة غزة، بعيداً عن الطروحات التي لا تراعي سوى مصالح القوى الكبرى على حساب الأمن القومي العربي.