بروميثيـوس وبولنـدا وقطــر

    
 تاريخ بولندا المضطرب من جهة وخيارات قادتها السياسيين من جهة أخرى هما مصدر هذه الاستراتيجية. فقد استقلت بولندا، ثم هيمنت إقليمياً في القرن السابع عشر، ثم امتحت من الخريطة العالمية في آخر القرن الثامن عشر، ثم صارت دولة ضعيفة وغير مستقرة وجودياً بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تعد دولة حقيقية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن تحت هيمنة الاتحاد السوفييتي، ثم استقلت تماماً قبيل سقوط الاتحاد. لذلك فإنَّ التفكير السياسي البولندي صار ينطلق من الخوف والاضطرار والإحساس بأنَّ المصيبة القادمة قريبة.
جغرافية بولندا سهّل على خصومها الاعتداء عليها، وعلى وجه الخصوص الروس والألمان. وقد كان لها خيار التحالف مع أحد جيرانها روسيا أو ألمانيا - ولكنّها اختارت التحالف مع قوى بعيدة للحماية وهذا ما قامت به، فتحالفت قبيل الحرب العالمية الثانية مع فرنسا وبريطانيا، ولكن هذا الحِلف لم ينفعها لمّا اتفق عليها الروس والألمان. في كل الأحوال فشلت الاستراتيجية البروميثية؛ لأنّ بولندا لم تكن تملك القوة الناعمة أو الخشنة الكافية لتعزيز استراتيجيتها أمام طرف أقوى منها بكثير.
ومنذ نهايات فترة الاتحاد السوفييتي جرت محاولات عديدة لإحياء الاستراتيجية البروميثية، وهذه المرة بدعم من الولايات المتحدة، واعتُبرت بولندا اللاعب الأساسي في أوروبا الشرقية لإضعاف، بل وإسقاط الاتحاد السوفييتي ولاحقاً روسيا الاتحاديّة، وصارت بولندا منصة انطلاق للعمليّات السياسية والثورية ضدّهما تحت شعار دعم الديمقراطيّات، بل واحتضنت بولندا ما أسماه البعض «ثورات الألوان» في أوكرانيا وجورجيا، وغيرهما من المناطق الخاضعة لروسيا السوفييتية أو الاتحادية. وقد دعا عدد من المفكرين السياسيين الأميركيين لهذه الاستراتيجية، أبرزهم زبيغنوي بريزنسكي، وجورج فريدمان، وروبرت كابلان. بل دشّن الرئيسان البولندي والجورجي تمثالاً لبروميثيوس في العاصمة الجورجية تبليسي في 2007.

ارتكزت البروميثية على إضعاف روسيا من خلال تثوير شعوبها أو جيرانها ضدّها. واللافت كونها استراتيجية ظهرت بعد الاضطرابات والمواجهات التي حصلت في روسيا 1905م. وهذا يقودنا إلى قطر.يبدو أنَّ قطر أيضاً استلهمت البروميثية البولندية - أو على الأقل تُمارس بروميثية من نوع خاص - بغرض إضعاف جيرانها. والظروف متشابهة بين البلدين. فقطر - مثل بولندا - لديها أزمة أمان وجودي بسبب صغر حجمها وجوارها لدول أكبر منها بكثير، وتحديداً المملكة العربية السعودية وإيران. وهي أيضاً لم تطمئن إلى التحالف مع المملكة لكي تحقق أمانها الاستراتيجي، وعوضاً عن ذلك ذهبت إلى الولايات المتحدة ثم تركيا مؤخراً. وهي أيضاً رأت أنَّ أمنها سيتحقق من إضعاف جيرانها من خلال صناعة أزمات سياسية واقتصادية لدول الجوار أو للدول الصديقة لدول الجوار. وفي حين سعت بولندا في المرحلة الأخيرة من البروميثية إلى التحالف مع الولايات المتحدة لدعم استراتيجيتها، فإنَّ قطر سعت للتحالف مع الإسلام السياسي بأطيافه كافة.


الواقع الجيوسياسي القطري قدرٌ لا يُمكن تغييره، ولكن خياراتها الاستراتيجية ليست قدراً، حِلفها مع الولايات المتحدة كان يكفي لحمايتها إذا كانت تعتبر نفسها مُهدّدة أو كانت خائفة من جيرانها، كان بإمكان قطر تحقيق أمنها الوجودي دون الاعتماد على تدمير الأمن الوجودي الإقليمي، كان يُمكنها التركيز على بناء قوّتها الناعمة بدلاً من السعي لتدمير ما حولها وتدمير نفسها نتيجة لذلك. الأهم من هذا، كان الأفضل لها الثقة بأنَّه ليس من مصلحة أيّ دولة خليجية تدمير دولة خليجية أخرى. قطر لم تثق بإخوتها الخليجيين والنتيجة أنَّها وضعت نفسها والجميع على كف عفريت.كاتب سعودي