د. سامي خاطر يكتب لـ(اليوم الثامن):
المقاومة الإيرانية تكشف أسرار النووي وتطرح بديلاً ديمقراطيًا
النظام العالمي يُصعِّد ضدّ الملف النووي الإيراني ويتهرّب من الحلول. عبارة تبدو كأنها خلاصة نصف قرن من السياسات المتقلبة التي لا ترى في الشرق الأوسط سوى ساحة اختبار دائمة للنفوذ والردع وتوازنات القوة. الضجيج الخطابي لا ينقطع: تهديدات متبادلة، حزم عقوبات تُعلن على نحو احتفالي، اجتماعات طارئة في عواصم القرار، ثم جولات تفاوضية تُمنح عناوين براقة قبل أن تتبخر عند أول اختبار عملي. في المقابل، الشعوب التي تقع تحت مقصلة هذه الحسابات لا تُمنح سوى نصيب الألم: إيرانيون يطحنهم التضخم والقمع، وعرب يُستنزفون في صفقات السلاح والتوترات، وإقليم يُدار بمنطق “إدارة المخاطر” لا “حلّها”. هنا بالضبط تتضح مفارقة اللحظة؛ إذ تخرج تظاهرات حاشدة في بروكسل ونيويورك — عشرات الآلاف بين إيرانيين ومناصرين — ليس فقط لفضح طغيان “ولاية الفقيه”، بل أيضًا لمواجهة تيار “الاسترضاء” الغربي الذي تراكمت سوابقه حتى صار مدرسةً في إدارة التناقض: لا إسقاط للديكتاتوريات إن كانت نافعة، ولا مواجهة جذرية إن كانت مكلفة، بل تدوير زوايا وتجميل واجهات.
حين نقرأ سيرة البرنامج النووي الإيراني نكتشف أنه لم يولد في فراغ. هو امتداد لمسارٍ بدأ في عهد الشاه ضمن برامج “الذرة من أجل السلام”، وتقاطعت فيه تمويلات وتدريبات واتفاقات تقنية مع أطراف غربية، ثم انقلبت الثورة على الشاه ولم تنقلب على جدوى المشروع الاستراتيجي، بل أُعيد تشكيله بما يلائم منطق الدولة الثورية ومنظومة الأمن الإقليمي. ومنذ الحرب العراقية–الإيرانية تَغذّى العقل الأمني في طهران على قناعة أن “الردع الصلب” — ولو بمجرد الاقتراب من العتبة النووية — هو صمام الأمان لصدّ الأعداء وفرض أوراق تفاوض في ملفات الجوار. التفاهم النووي لعام 2015 خفّف مؤقتًا منسوب المواجهة، لكنه لم ينهِ الشكوك المتبادلة؛ انسحابٌ أمريكي لاحق، وتصاعد في التخصيب، وحلقات شدّ وجذب على حواف “الخطوط الحمراء” التقنية. وبين تلك الحواف يسكن السؤال الأكبر: هل الهدف ردعٌ دفاعي يضمن للنظام بقاءه، أم مظلة هجومية تمنح أذرعه الإقليمية قدرةً على فرض معادلات قسرية تتجاوز حدود إيران؟
الغرب بدوره لا يبدو بريئًا من حسابات تجعل “المشكلة النووية” أداة إدارة لا مشروع حلّ. فالتاريخ القريب يقول إنّ العناوين الأخلاقية لم تمنع تغذية سباقات تسلّح إقليمية؛ صفقات بمئات المليارات دُفعت في أقل من عقد لصالح مصانع السلاح الغربية، بعضها لاقتناء عتاد لا يغيّر قواعد اللعبة بقدر ما يحافظ على علاقة تبعية فنية ولوجستية طويلة الأجل: تدريب، صيانة، تحديثات برمجية، عقود دعم تمتد لسنوات. هذا الاعتماد المتبادل يمنح الغرب نفوذًا إضافيًا فوق النفوذ المالي والسياسي، ويُبقي الإقليم رهينةً مزدوجة: تهديد مشروع إيراني يتقدّم، ومنظومات دفاعية وهجومية يُسوّق لها كحواجز لدرء الخطر، بينما بنتائج ملموسة محدودة على مسار الردع الحقيقي. والنتيجة الواقعية أن الشرق الأوسط أصبح أكبر مصدّر للطلب على الأمن المستورد، وأكبر مسرح للتهديدات المتنقلة، وأكبر مستودع لخيبات التسويات المؤجلة.
على الضفة الإيرانية، لا يمكن إنكار أن كلفة البرنامج النووي والسياسات الإقليمية للنظام أثقلت الاقتصاد والمجتمع معًا. التضخم، الذي تجاوز في فترات عتبة الـ40% بحسب تقديرات عديدة، لا يمكن عزله عن منظومة العقوبات من جهة وعن سوء الإدارة والفساد البنيوي من جهة أخرى. البطالة المقنّعة، هجرة العقول، انكماش القدرة الشرائية، وتوسّع اقتصاد الظل، جميعها باتت سمات يومية. ومع ذلك، فإنّ السلطة في طهران تواصل تسويق رواية “الصمود الإنتاجي” والتقدّم العلمي، وتستند إلى تقدّمها في سلاسل التخصيب والتصنيع الصاروخي والطائرات المسيّرة لتثبّت سردية الردع والاكتفاء. هذه معادلة غير مستدامة؛ إذ لا يمكن احتواء مجتمع شابّ عبر خطاب تعبوي طويل الأمد فيما تتراكب عليه أزمات معيشية خانقة، وحملات إعدام متكررة، وأجهزة أمنية لا تتورع عن سحق أي تعبير مدني. لذلك تعود الاحتجاجات بصورة دورية — موجات تتفاوت في المدى والحدة — ويعود معها سؤال الشرعية والمستقبل السياسي والموقع الطبيعي لإيران في محيطها.
اللافت أنّ خطاباً معارضًا منظّمًا — تجسده “المقاومة الإيرانية” بأجنحتها السياسية وشبكاتها المدنية — استطاع في السنوات الأخيرة أن يفرض نفسه كطرف في المعادلة الدولية، ليس فقط بتحريك احتجاجات كبيرة في عواصم غربية، بل أيضًا عبر التسريبات المتكررة عن مواقع نووية وعسكرية ونشاطات سرية. هذه التسريبات، سواء اتفق معها المرء أو اختلف، أجبرت القوى الكبرى على التوقف عن إدارة الملف كأنّه “أمن تقني” منعزل عن سياق حقوق الإنسان والحريات. ما جرى — ولا يزال يجري — هو ربط مقنع بين “الملف النووي” و”الملف الأخلاقي” للنظام؛ أي الربط بين تقنية تُعلن سلميتها وواقع داخلي لا ينفكّ يُنتج قمعًا منهجيًا. ومن هنا جاء “الحل الثالث” كمنطق سياسي: ليس حربًا خارجية تدمّر المجتمع وتُبقي الاستبداد عبر إعادة تدويره بواجهة جديدة، وليس أيضًا استرضاءً يُكافئ السلطة بحوافز كلما صعّدت. بل دعم واضح لحق الشعب في إسقاط الدكتاتورية وإقامة دولة ديمقراطية غير نووية، مع شقين عمليين: تصنيف أذرع القمع — وعلى رأسها الحرس — كمنظمات إرهابية، وإسناد وحدات المقاومة المدنية في الداخل بأدوات سياسية وقانونية وإعلامية تجعل كلفة القمع باهظة دوليًا.
هل هذا قابل للتحقق؟ التجربة تقول إنّ الإرادة الدولية تميل إلى “تخفيض المخاطر” لا “تفكيك مصادرها”. ومع ذلك، ما دامت الاحتجاجات قادرة على تحشيد عشرات الآلاف في بروكسل ونيويورك بالتزامن مع اجتماعات الجمعية العامة، وما دامت وجوه سياسية وحقوقية عالمية ترفع هذا السقف، فإنّ منسوب الكلفة السياسية لاستدامة الاسترضاء سيرتفع. دولٌ أوروبية ما زالت مترددة في تصنيف الحرس منظمة إرهابية، خشيةً من قطع قنوات دبلوماسية أو التسبب بارتدادات على ملفات أخرى كالطاقة والهجرة وأمن الملاحة. لكن هذا التردد لم يمنع برلمانات ومجالس محلية، في أكثر من بلد، من الدفع باتجاه مواقف أشدّ حزماً، ولو رمزيًا. في المدى المتوسط، قد تتشكل كتلة ضغط أوروبية–أطلسية ترى أن مصلحة الغرب، لا أخلاقه فقط، تقتضي ربط أي مسار تفاوضي مع طهران بحزمة معايير سلوكية داخلية وإقليمية، تتضمن تخفيف جدول الإعدامات وتحرير الاعتقال السياسي وضماناتٍ محددة في ملفات الجوار.
يبقى أن نضع “الملف النووي” في إطار توازنات إقليمية أوسع. إيران اليوم ليست فقط دولة ذات برنامج تخصيب متقدم وقدرات صاروخية ومسيّرات أثبتت حضورها في ساحات متعددة، بل هي كذلك شبكة نفوذ عابرة للحدود في العراق وسوريا ولبنان واليمن، تؤثر في خرائط الطاقة والممرات البحرية والتوازنات الطائفية. أي خطأ تقدير في إدارة هذا النفوذ قد يُشعل اشتباكات تتجاوز حدود الوكلاء إلى احتكاكات مباشرة مع جيوش دولية أو إقليمية. وعلى الجهة الأخرى، فإنّ استمرار “الميليشياوية السياسية” كصيغة حكم في أكثر من ساحة يجعل الاستقرار هشًا ويؤجّل قيام دول طبيعية تحتكر السلاح وتدير الاقتصاد بعقلانية. لهذا السبب، تكتسب حركة الملاحة في البحر الأحمر، وخطوط إمداد الطاقة في الخليج، والمضائق الحساسة كهرمز وباب المندب، مكانة مركزية في حسابات الدول الكبرى؛ فكل توتر هناك يعني قفزة في كلفة التأمين وأسعار الشحن، ويعني فرصًا لابتزاز متبادل: عقوبات مقابل مضايقات ملاحية، وعمليات ظلّ مقابل ضربات موضعية.
في قلب هذه اللوحة المعقدة يتصرف “النظام العالمي” بمنطقٍ براغماتي مُفرط: يريد احتواء القدرات النووية الإيرانية عند مستوى “القلق المسيطر عليه”، ويريد في الوقت ذاته بقاء قنوات التفاعل مفتوحة بما يكفي لتفادي الانفجارات الكبرى، ويستمر في تسويق نفسه وسيطًا وحَكمًا، فيما سجلّه الأخلاقي والسياسي مثقل بثغرات وازدواجية معايير. وقد يكون هذا المنطق مفهومًا من زاوية المصالح الضيقة؛ لكن من زاوية الاستقرار بعيد المدى، هو وصفة تآكل بطيء: يكرّس سباقات تسلّح، ويُعمّق اقتصاديات حرب، ويُنشئ ثقافة سياسية ترى في الألعاب الصفرية طريقًا وحيدًا للنجاة.
المفارقة أن الالتزام الفعلي بـ”عدم الانتشار” يتطلب ما هو أبعد من رقابة تقنية على أجهزة الطرد المركزي ومستويات التخصيب. يتطلب ضمانات سياسية واقتصادية تعيد إدماج إيران — الدولة، لا النظام — في شبكة إقليمية طبيعية، يكون فيها السلوك الخارجي مكلفًا داخليًا لا مربحًا دعائيًا. ويتطلب كذلك أن تعيد دول عربية وإقليمية النظر في أولويات أمنها: من الاستيراد الأعمى لمنظومات متقدمة إلى بناء قدرة ذاتية مستدامة، ومن التعلّق بالضمانات الخارجية إلى صناعة أمن تعاوني إقليمي يخفف منسوب الاعتماد ويُغلق منافذ الابتزاز. لا يعني ذلك غضّ الطرف عن الخطر الإيراني، بل تنظيم مواجهته بأدوات سياسية وقانونية واقتصادية وإعلامية متكاملة تقلّل احتمالات الانزلاق إلى حروب شاملة، وتزيد كلفة التمدد غير المشروع دون أن تُجزّي المجتمعات أو تُغذّي الاستقطاب الطائفي.
إنّ “الحل الثالث” الذي تطرحه المعارضة الإيرانية يقدّم إطارًا عمليًا يستحق الاختبار: لا مال ولا سلاح من الخارج، بل اعترافٌ بحق الشعب في التغيير ودعمٌ سياسي وقانوني لانتزاع هذا الحق. في تفصيل هذا الإطار، تتقدم أربع قنوات عملية: أولًا، خنق شبكات القمع والفساد والتهريب ماليًا عبر عقوبات ذكية تُصمّم استنادًا إلى بيانات محدثة لا إلى قوائم عامة؛ ثانيًا، ملاحقات قضائية عابرة للحدود بحقّ المتورطين في جرائم الإعدام والتعذيب عبر مبدأ الولاية القضائية العالمية؛ ثالثًا، دعم إعلامي ومعلوماتي محترف يفضح الأكاذيب الرسمية ويُحصّن المجتمع ضد الدعاية؛ ورابعًا، استثمار منظّم في المجتمع المدني الإيراني داخل وخارج البلاد، من نقابات مهنية وروابط طلابية ومنظمات نسوية وشبكات حقوقية. هذه الأدوات ليست رومانسية ولا سهلة، لكنها أقل كلفة إنسانيًا وسياسيًا من حروبٍ تُسقط البنية وتحافظ على البنية الأمنية.
قد يجادل البعض بأن هذا الطرح مثاليّ في عالمٍ لا تقوده المبادئ. غير أن التجارب علمتنا أن التغيير الداخلي حين يحظى بغطاء قانوني وإعلامي دولي رصين يصبح قادرًا على تعديل كلفة القمع ومعادلات الولاء داخل الأجهزة. وحين تَصدُقُ الرسالة الدولية — لا ازدواجية فيها — تتغير حسابات كثير من اللاعبين المحليين الذين يراهنون على طول عمر الاسترضاء. هنا، تكتسب التظاهرات في العواصم الغربية دورًا مضاعفًا: فهي لا تُحرج فقط صانع القرار وتضغط على البرلمانات والحكومات، بل تُغذّي أيضًا روحًا معنوية لدى الداخل تُذكّره أنه ليس معزولًا ولا منسيًا في زحمة صفقات الطاقة وترتيبات الملاحة.
في المقابل، لا بد من الاعتراف أن النظام الإيراني راكم خبرة طويلة في “تدوير الأزمات” وتفتيت خصومه وملء الفضاء الرمزي بخطابٍ يوحّد القاعدة الصلبة حتى إن تقلّصت. هو نظامٌ يجيد إدارة الهامش بين الحرب والسلام، وبين الشرعية الشكلية والقبضة الأمنية، وبين اقتصاد العقوبات واقتصاد الظل. لكنّ كل الأنظمة التي ركنت إلى هذا التوازن انتهت إلى نقطة حرجة حين تحوّلت كلفة الحفاظ عليه أعلى من كلفة تغييره. عند تلك العتبة، يتوقف السجال حول “هل تغيّر” ليبدأ سؤال “كيف تغيّر”. وما يحاوله “الحل الثالث” هو إسناد هذا “الكيف” بمسارات تُقلّل الكلفة الإنسانية وتمنع إعادة تدوير الاستبداد بشعارٍ جديد.
خلاصة المشهد أن الضجيج الغربي حول “تفعيل آليات” و”وصولٍ إلى عتبةٍ خطرة” لن يكون ذا معنى إن بقي منفصلًا عن رؤية سياسية وأخلاقية تعالج جوهر المشكلة: نظامٌ يعتبر الداخل مادة خام للدعاية والقمع، والجوار مسرحًا لمدّ النفوذ، والمجتمع الدولي ساحة مقايضة. إن كانت نيات القوى الكبرى صادقة في منع الانتشار وحماية الاستقرار، فالطريق واضح وإن كان شاقًا: دعمٌ صريح لحقوق الإيرانيين في الحرية والتنظيم والتداول السلمي للسلطة، ومشروطية صارمة تربط أيّ تخفيفٍ للعقوبات بسلوكٍ قابل للقياس داخليًا وإقليميًا، وتعاونٌ إقليمي عقلاني يضع حدًا لاقتصاديات الحرب، ونظامُ محاسبةٍ حقوقي يتجاوز الإدانة الخطابية إلى تقييد الحركة والمال والشرعية لمنظومة القمع. ما دون ذلك، سيبقى العالم يدور في الحلقة ذاتها: تصعيدٌ لفظي، امتصاصٌ للأزمة، تسويةٌ مؤقتة، ثم انفجارٌ جديد — فيما يدفع الناس الثمن مضاعفًا.
ولعلّ القيمة الكبرى لتظاهرات بروكسل ونيويورك أنها قالت الشيء البسيط والصعب معًا: لسنا ضد إيران الدولة، ولسنا ضد علمٍ يُعلي من رفاه الإنسان، لكننا ضد دولةٍ تصادر إنسانها باسم العلم والسلاح والقداسة. نرفض قنبلةً تُعزّز قفصًا، ونرفض استرضاءً يُطيل عمر القفص. إذا كان النظام العالمي حقًا قد ضاق ذرعًا ببرنامج الملالي، فليُثبت ذلك بدعم حق الشعب الإيراني في استعادة وطنه من دون حربٍ ولا مساومة. عندها فقط، سيغدو “التصعيد” ترجمةً لإرادة حلّ، لا حلقة إضافية في صناعة الضجيج.