د. سامي خاطر يكتب لـ(اليوم الثامن):

ماذا يجري خلف الستار بين نظام الملالي والولايات المتحدة؟

رقعة الشطرنج النووية تتقدم

   في زاوية الشرق الأوسط وعلى أرضٍ تبدو مشغولة بدقائق الحياة اليومية تدور لعبة استراتيجية دقيقة بين حكوماتٍ عظيمة الطموح وأخرى تبحث عن الاستقرار تحت وطأة الضغوط؛ وهذا هو ما يجري بين إيران والولايات المتحدة.. وهو ليس مجرد مفاوضات تقليدية بل مناورة مركّبة تجمع بين التهديد واللين.. بين التفاوض والردع، وبين البناء والتدمير، وفي هذا السياق تبرز تصريحات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان التي قال فيها بوضوح: "سنُعيد بناء منشآتنا النووية أكبر من ذي قبل".. لكن في المقابل تبدو طهران رغم هذه اللهجة التصعيدية منشغلة أيضاً بخيط التفاوض مع واشنطن وكأنّها تحاول السير في مسارين متوازيين: الابتزاز النووي من جهة، والتفاوض من جهة أخرى.

لماذا تسعى إيران للتفاوض؟

الأمر يبدو أولياً بسيطاً.. فالحصار الاقتصادي الخانق، والتأثيرات المتعددة للعقوبات الأميركية والأوروبية على الاقتصاد الإيراني ليست بالأمر الغائب عن الوعي في طهران.. لكن الأمر أعقد بكثير فهو يحفل بعوامل داخلية وإقليمية تتقاطع.. وفيما يلي بعض الملامح:

  • الأوضاع الاقتصادية:  القدرة الإيرانيّة على الاستثمار في مشروعات ضخمة منها النووية المرتبطة بقدرتها على الوصول إلى الأسواق والموارد، والتفاوض يفتح الباب أمام تخفيف العقوبات. 
  • الموازنة الإقليمية: إيران تواجه ضغوطاً متزايدة من القوى الإقليمية خصوصاً بعد عمليات القصف الأميركيةالإسرائيلية التي طالت منشآتها النووية. 
  • الشرعية الداخلية:  تود القيادة الإيرانية أن تظهر أمام الشعب بأنها "تُقاوم" وتفاوض بالوقت ذاته، وهو توازن دقيق داخل النظام بين التيارات المعتدلة والمتشددة.. إنها أوراق استراتيجية اعتاد نظام الملالي اللعب بها مع الشعب الإيراني منذ زمن لكن مفعول سحرها قد بطُلَ ولم تعد تُجدي نفعا. 

معادلة الردع: التأكيد على أن طهران قادرة على تحسين قدراتها النووية قد يرفع ثمن أي خيار عسكري ضدها ويمنحها أوراق تفاوض أكثر صلابة.. وفي خطوة رمزية أُعلن أن الجولة الأولى من المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة تلك التي جرت في سلطنة عمان في أبريل 2025 ووُصِفت بأنها "بناءة".. إذن لا ننظر إلى مفاوضات صفرية بل إلى مرحلة تحضيرية لطاولة تفاوض محتملة أكبر.

بين التصعيد والتفاوض.. رسالة مزدوجة

تصريحات بزشكيان بأن إيران ستُعيد بناء منشآتها النووية "أكبر من قبل" ليست مجرد خطبة وطنية بل تحمل في طيّاتها رسائل موجهة داخلية وخارجية مفادها:

  • أولاً: إنها تنقل رسالة إلى الداخل الإيراني بأنهم أي الملالي "أقوياء" وأنه "لا سقف لتعزيز قدرات إيران".
  • ثانياً: إنها رسالة إلى واشنطن والغرب مفادها أن ملالي إيران ليسوا في مرحلة الانهيار أو الاستسلام بل قاب قوسين أو أدنى من اختيار لعبة التصعيد.
  •  ثالثاً: إنها تضع واشنطن أمام خيارين.. إما الدخول في مفاوضة بنية خفض التصعيد أو مواجهة واقع إيراني متعاظم القدرات.

المفارقة أن ملالي إيران من جهة يبدون راغبين في التفاوض، ومن جهة أخرى يستعدون أو ببدون استعداده لرفع "سقف النووي".. وبهذا المعنى يلعبون بورقة التفاوض على قاعدة "إما أن نتفاوض بشروطنا أو نعيد الصناعة النووية".. الأمر الذي يضع واشنطن في موقف معقد: كيف تتفاوض مع طرف يرفع السقف بنفس الوقت؟

ما الذي يريده الطرفان فعلياً؟ ما تريده إيران

  • رفع العقوبات الاقتصادية الخارجية.
  • التأكيد على حقها في تخصيب اليورانيوم "لأغراض مدنية" كما تدعي.. وضمان عدم تعرض منشآتها لهجمات مستقبلية.
  • تعزيز وضعها كقوة إقليمية ذات تأثير نووي وربما ردعي.

ما تطلبه الولايات المتحدة

  • ضمان عدم انتقال البرنامج النووي الإيراني إلى مرحلة إنتاج الأسلحة النووية.
  • إعادة التعاون والمراقبة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
  • تخفيف نشاطات التخصيب أو إبقائها ضمن حدود مقبولة.
  • إدماج إيران في منظومة علاقات دولية أقل عدائية.

وهنا تكمن النقطة الدقيقة: إيران تضع "استمرار التخصيب" ضمن شروطها بينما الولايات المتحدة تشترط تقليصه، وبالتالي التناقض ليس فقط في التصريحات بل في الاختلاف الجوهري حول طبيعة ما يسعى إليه كل طرف.

الأفق مفتوح… لكن بشروط مرعبة

إذا نظرنا إلى الواقع يوجد أمران يجب أن نضعهما في الحسبان:

  • القدرة على التصعيد:  تصريحات إعادة البناء النووي ليست كلاماً أجوف.. فهذا يعكس استعداداً فعلياً للرد على عمليات عسكرية محتملة، وهو ما يعني أن الخروج من الأزمة ليس مضموناً.

التحسس المتبادل: واشنطن تدرك أن التفاهم مع إيران قد يتّسع تأثيره أو يشمل نطاقًا أوسع من الحدود الأصلية للاتفاق ليصل إلى مراكز النفوذ في الشرق الأوسط.. ما يعني تأثيراً على إسرائيل.. على الخليج، وعلى الحروب بالوكال، وإيران تدرك أن التفاوض بدون مكسب ملموس مرفوض داخلياً ما يعني أن المبادرة لن تُقابَل بردّ فعل مباشر وبسيط من الطرف الآخر بل ستكون هناك حسابات معقّدة وشروط وربما ردود غير متوقعة إذًا كان الأفق مفتوحاً.. لكن ما فتحه ليس بعقد واضح المعالم بل ربما على تفاهمات غير معلنة، ورسائل متبادلة، وخيارات احتياطية لكل طرف.

بين مفاوضات متقنة الإدارة.. وتصعيد المواجهة

خلاصة القول.. إن ما يجري خلف الستار ليست مفاوضات بسيطة بل رقعة شطرنج دُفنت فيها القطع الكبرى، وخرجت فيها أوراق التهديد إلى العلن.. فإيران الملالي تقول بلسان بزشكيان: "نعيد البناء وبقوة أكبر".. وفي ذات الوقت تقف على طاولة التفاوض، وربما لإدراك أن الحرب المكشوفة ليست في صالحها.. أمّا الولايات المتحدة فتواجه احتمالين لا ثالث لهما.. إما أن تقبل بتفاوض يُشبه ما حصل عام 2015 مع بعض التنازلات، أو أن تودِّع مفاوضاتها وتدخل في مواجهة ضد ملالي إيران.

بالنهاية ليست الرحلة نحو الاتفاق سهلة، ولا طريق العودة إلى حالة ما قبل الأزمة أمر قابل للتحقيق دون تغيير جوهري، وفي ظل هذا الواقع فإن ما يعنينا هو أن تظل أعيننا مفتوحة على تفاصيل الجولات القادمة، وعلى من يقود التفاوض، ومن يهيمن على إدارة وصنع وتوجيه القرار، ومن يملك مفتاح الانفجار أو انعقاد المسار.

العجيب في الأمر هو أن هذا العالم يرفض خيار الحل الثالث الذي تطرحه السيدة مريم رجوي والمتضمن " لا للمساومة.. ولا للحرب.. نعم لإسقاط وتغيير النظام وفق إرادة شعبية لتحل محله جمهورية ديمقراطية علمانية غير نووية" وهو خيار تطرحه المقاومة الإيرانية وقادرة على تحقيقه ويدعمه الشعب الإيراني.. فلماذا يختار المجتمع الدولي أصعب الطرق غير الممكنة.. والتي تُطيل عمر النظام وتفاقم الأزمات الناجمة عن وجوده.

د. سامي خاطر/ أكاديمي وأستاذ جامعي