بشار سلمان يكتب لـ(اليوم الثامن):
أزمة تتجاوز اليمن.. الهجرة الإفريقية تهدد الأمن الإقليمي وتربك دول الجوار
شهدت اليمن منذ سبعينيات القرن الماضي تدفقات متواصلة من المهاجرين واللاجئين القادمين من دول القرن الإفريقي، إلا أن هذه الظاهرة أخذت في السنوات الأخيرة بعدًا أكثر تعقيدًا وخطورة، مع تزايد الأعداد وتحوّل البلد، الذي يشهد حربًا مستمرة منذ 2015، إلى ساحة مفتوحة لا تملك القدرة على إدارة هذه التدفقات أو الحد من آثارها. ورغم الظروف الإنسانية الصعبة التي يعيشها اليمنيون أنفسهم، فإن مسارات الهجرة لم تتوقف، بل زادت حدّتها مع انهيار الأوضاع المعيشية في إثيوبيا والصومال وإريتريا، وتفاقم الجفاف والصراع السياسي وغياب الأمن، لتصبح اليمن محطة رئيسية، إما كمقصد أو كممر نحو السعودية ودول الخليج.
وتشير بعض المنظمات الإنسانية إلى أن أولى موجات اللاجئين بدأت من إريتريا عام 1977 خلال حرب التحرير، تلتها موجات صومالية في مطلع الألفية، قبل أن تتسع الظاهرة أكثر بعد العام 2015، في ظل تفاقم الأزمة اليمنية وغياب الدولة وتنامي نشاط شبكات التهريب. وتؤكد التقارير أن المهاجرين ينطلقون من عدة نقاط رئيسية في القرن الإفريقي، أبرزها هرجيسا وبوصاصو وبوركو والسواحل الجيبوتية، حيث تنتشر شبكات التهريب التي تمتلك خبرة طويلة في نقل البشر عبر الحدود البرية والبحرية. وتستغرق رحلة المهاجرين أيامًا أو أسابيع من السير على الأقدام قبل الوصول إلى الشواطئ، لتبدأ المرحلة الأخطر في عبور البحر عبر قوارب متهالكة تُحمّل بأعداد كبيرة قد تصل إلى مئتي شخص في القارب الواحد، ما يجعل احتمالات الغرق مرتفعة للغاية، وهو ما تؤكده تقارير أممية وثّقت مئات الضحايا خلال السنوات الماضية.
وعند الوصول إلى اليمن، غالبًا ما تهبط القوارب في سواحل المكلا وبريم وشقرة وبلحاف والهيبالة وبئر علي، وهي نقاط لا تتوفر فيها رقابة فعالة في ظل انعدام قدرات الدولة وتعدد القوى العسكرية المسيطرة. ووفقًا لمصفوفة تتبع النزوح الصادرة عن منظمة الهجرة الدولية، دخل اليمن في يناير 2025 نحو 15,400 مهاجر، بانخفاض عن ديسمبر 2024 الذي شهد وصول أكثر من 20 ألف شخص، فيما استقبل اليمن خلال العام 2024 نحو 60,897 مهاجرًا غير شرعي، 80% منهم إثيوبيون قدموا عبر الأراضي الصومالية . ويشير التقرير إلى أن 89% من الوافدين في يناير وصلوا عبر جيبوتي إلى مديرية ذوباب غرب تعز، فيما وصل البقية إلى شبوة عبر السواحل الصومالية، مع غياب ملحوظ لوصول المهاجرين عبر لحج نتيجة إجراءات حكومية اتُخذت منذ أغسطس 2023.
ورغم أن دوافع الهجرة في معظمها اقتصادية أو إنسانية، فإن المسار الذي يسلكه المهاجرون يضعهم في مواجهة مخاطر متعددة، تبدأ بالغرق والانتهاكات التي يرتكبها المهربون، ولا تنتهي عند حدود الاستغلال الذي يتعرض له البعض داخل اليمن. وتشير الشهادات إلى أن كثيرًا من القوارب تُربط فيها رحلات العبور بعمليات ابتزاز وجريمة منظمة، حيث يُجبر المهاجرون على دفع مبالغ إضافية، أو يتعرضون للعنف إذا حاولوا المقاومة. وتؤكد تقارير منظمات دولية وجود ما لا يقل عن 700 غريق على مسارات الهجرة إلى اليمن، وهي أرقام ترجح المنظمات الإنسانية أنها أقل من الواقع بكثير، نظرًا لعدم قدرة السلطات على رصد كل الوقائع.
ومع دخولهم اليمن، يواجه المهاجرون واقعًا أكثر تعقيدًا. فغياب الدولة في مناطق واسعة، وانتشار الفوضى والميليشيات، وانعدام مراكز الإيواء، كلها عوامل تجعل من وجود المهاجرين عبئًا إضافيًا على بلد يعاني انهيارًا اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا. وفي هذا السياق، تستغل جماعة الحوثي التدفقات البشرية لأغراض متعددة. وتشير تقارير إلى أن الحوثيين يستخدمون بعض المهاجرين كـ«دروع بشرية» في أماكن الاشتباك، أو كأداة للمقايضة السياسية، فضلًا عن توظيف بعضهم في أعمال مرتبطة بتهريب المخدرات والسلاح. وقد أثارت حادثة حريق «مبنى الجوازات» في صنعاء، الذي كان يضم مئات المهاجرين عام 2021، موجة انتقادات واسعة للجماعة، بعد وفاة عشرات وإصابة مئات في ظروف وصفت بأنها «غير إنسانية» .
كما تشير تقارير إعلامية إلى أن صعدة، معقل الحوثيين، تحولت إلى منطقة «مغلقة» تستوطن فيها أعداد كبيرة من المهاجرين الأفارقة، في وضع يثير تساؤلات حول دوافع الجماعة لاستقدام أو السماح باستقرار هذه الأعداد الكبيرة في منطقة حدودية حساسة. وتذهب بعض التحليلات إلى أن الحوثيين يستغلون هذا الوجود لتحقيق غايات ديمغرافية أو عسكرية، في ظل تصاعد التوتر مع السعودية. كما تتهم الجماعة بإدارة شبكات تهريب تدر عليها أرباحًا كبيرة، في ظل سيطرتها على طرق حدودية ومسارات تهريب برية وتهريب للممنوعات.
ولا يقتصر تأثير الهجرة الإفريقية على المناطق الخاضعة للحوثيين، بل يمتد إلى جنوب اليمن حيث تواجه المدن الرئيسية، خاصة عدن وشبوة ولحج وأبين، ضغوطًا كبيرة نتيجة تزايد أعداد الوافدين. فوجودهم في الأسواق والشوارع والأحياء الشعبية يثير قلق السكان، الذين يربطون بين الظاهرة وتزايد معدلات الجريمة والاتجار بالمخدرات والسرقة. كما يؤدي الانتشار غير المنظم للمهاجرين إلى زيادة الضغط على الخدمات المتدهورة أصلًا، مثل المياه والصرف الصحي والصحة العامة، في ظل غياب واضح لأي خطط حكومية للتعامل مع الأزمة.
وتقول الدراسة الميدانية إن المهاجرين باتوا يشكّلون ما يصل إلى 20% من حجم الأزمة في بعض المدن، وهو رقم يعكس حجم التحدي الذي يواجه السلطات المحلية في المحافظات الجنوبية التي تعاني أصلًا من ضعف في الميزانيات وصعوبات في فرض السيطرة الأمنية على السواحل. وقد حاولت السلطات الأمنية في عدن وشبوة وأبين تنفيذ حملات لإعادة بعض المهاجرين إلى بلدانهم، لكن هذه الجهود سرعان ما تتوقف بسبب غياب الدعم اللوجستي، وتضارب الصلاحيات بين الأجهزة المختلفة، وعدم وجود مراكز احتجاز أو استقبال مؤهلة.
وتنشط المنظمات المحلية الإنسانية في تقديم الدعم القانوني والصحي للمهاجرين، لكنها تعاني من ضعف الموارد، فيما توجه الاتهامات لمنظمات دولية بالتقصير. وتعتبر منظمة الهجرة الدولية أبرز الجهات الدولية العاملة في الملف، لكنها تصنّف غالبية المهاجرين على أنهم «مهاجرون اقتصاديون» وليسوا لاجئين، ما يجعل إمكانية حصولهم على الحماية الدولية محدودة. أما المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فهي تركز على من تنطبق عليهم شروط اللجوء فحسب، في حين تشير إلى أن غياب مراكز الإيواء وعمليات الترحيل المنظمة يحول دون تقديم استجابة فاعلة. وتنتقد بعض التقارير ما تسميه «التراخي الدولي» في التعامل مع تدفقات الهجرة إلى اليمن، وتجاهل العامل السياسي المرتبط باستغلال الحوثيين لهذه الفئة، مقابل التركيز على الجانب الإنساني فقط.
ويخشى مراقبون من أن استمرار تدفق المهاجرين بهذا الشكل سيحوّل اليمن إلى بوابة مفتوحة غير قابلة للضبط، خصوصًا مع تراجع قدرة الدولة على مراقبة السواحل، وتعدد القوى المسيطرة، وانتشار شبكات التهريب التي تربط القرن الإفريقي بالسعودية عبر اليمن. ويثير وجود المهاجرين بكثافة في المناطق الحدودية مع السعودية مخاوف أمنية لدى الرياض، خاصة بعد تقارير تحدثت عن استخدام بعضهم في أعمال تهريب أو عمليات عدائية. وتذهب تحليلات إلى أن بعض القوى الإقليمية قد تسعى لاستغلال الملف كورقة ضغط سياسية، في ظل ندرة الحلول المشتركة.
وبرغم كل التعقيدات، لا تبدو الأزمة قابلة للحل في المدى القريب. فالأوضاع في القرن الإفريقي مرشحة لمزيد من التدهور نتيجة ضعف الحكومات، والجفاف، والنزاعات المسلحة، بينما يستمر اليمن في وضعه الهش، ما يجعل البلاد بيئة جاذبة لشبكات التهريب التي تستفيد ماليًا من استمرار التدفقات. وفي الوقت ذاته، تبدو الاستجابة الدولية محدودة، لا ترتقي إلى مستوى الأزمة التي تجمع في طياتها أبعادًا إنسانية وأمنية وديمغرافية واقتصادية.
وتخلص الدراسة إلى أن استمرار تدفق المهاجرين دون ضوابط يشكل خطرًا كارثيًا على بلد يعاني أصلًا من الحروب والانهيار الاقتصادي، وأن غياب الحلول الجذرية سيؤدي إلى تفاقم الأزمات الصحية والأمنية والاجتماعية. ويوصي الباحث بضرورة تحرك دولي جاد لمواجهة شبكات التهريب، وإنشاء مراكز إيواء مؤهلة، وتفعيل برامج العودة الطوعية، ودعم قدرات السلطات المحلية على ضبط السواحل، ومنع استيطان المهاجرين في المدن، مع ضرورة رفع مستوى الوعي المجتمعي بمخاطر الظاهرة، وتطوير آليات تنسيق بين الأجهزة الأمنية والمنظمات الدولية.
وفي وقت تستمر الأزمة الإنسانية في اليمن بلا أفق واضح، تبدو الهجرة الإفريقية واحدة من الملفات المسكوت عنها دوليًا، رغم تحولها إلى إحدى أكبر التحديات التي تواجه البلد المنهك. وبينما يتطلع المهاجرون إلى الهروب من واقع قاسٍ في بلدانهم، يجدون أنفسهم في قلب صراع أشد قسوة، تتداخل فيه تجارة البشر مع الحرب، وتتلاقى فيه مصالح المهربين والميليشيات، في مشهد يهدد مستقبل اليمن ويزيد من معاناة سكانه.


