الفن التشكيلي في الثقافة العربية..

الحوار الغائب بين النقد والفن التشكيلي في زمن الثقافة البصرية

في غياب النقد تعقد حال الفن التشكيلي (لوحة للفنان ضياء العزاوي)

مفيد نجم

يعاني الفن التشكيلي العربي من غياب الاهتمام النقدي والإعلامي على الرغم من عراقة تجاربه وتنوعها وتطورها في كثير من البلدان العربية. أغلب ما يكتب عن هذا الفن هو نقد انطباعي ولغة بلاغية تحاول مقاربة الانفعالات التي تولدها اللوحة عند المتلقي، دون أن تعمل على تفكيك بنيتها على المستوى التكويني والجمالي والتعبيري. والغريب أنّ كثرة صالات العرض وتنوعها لم تسهم هي الأخرى في تطوير هذه العلاقة وتعميقها على المستويين النقدي والجماهيري كما يجب، بل ظل دورها محصورا غالبا في عمليات التسويق التجاري.

وكما هو حال الشعر تكاد المجلات العربية المعنية بالفن التشكيلي ونقده تنقرض في المشهد الثقافي العربي، وكأن هذا الفن الذي يشهد محاولات دؤوبة من قبل الفنانين العرب لتطوير رؤاه وعلاقته بالثقافة والتراث العربي ضيف طارئ على الحياة الثقافية أو هامش من هوامشها؟ إن هذا الواقع يطرح أكثر من سؤال حول ما نشهده من عجز الحركة التشكيلية بتياراتها وأعلامها عن خلق حركة نقدية تواكبها وتتفاعل مع منجزها برؤية نقدية علمية وعميقة، تسهم في إغناء هذه التجارب وتطويرها وفي تطوير العلاقة بين المتلقي واللوحة.

لقد شهدت ستينات وسبعينات القرن الماضي ظهور مجلات عربية خاصة بالفن التشكيلي أو بالفنون وكان الفن التشكيلي يحتل حيّزا مهما فيها، لكن هذه المجلات لم تستطع أن تعمّر طويلا وسرعان ما اختفت لأسباب متعددة في مقدمتها أن الثقافة العربية ككل ما زالت تتعامل مع الفن التشكيلي كهامش من هوامشها، وهو ما أثّر على دور هذه المجلات وقدرتها على الوصول إلى القارئ العربي، خاصة مع غياب الدور الذي كان يمكن للنقد التشكيلي أن يلعبه في التعريف بالتجارب الفنية الرائدة وقيمتها الجمالية، إلى جانب خلق وعي جمالي ونقدي عند الجمهور يسهم في توطيد علاقته مع هذا الفن وتوسيع قاعدته وقدرته على التفاعل الحقيقي مع العمل الفني. لكل هذا فشلت هذه المجلات في توسيع مساحة انتشارها وكسب مزيد من القراء، خاصة وأن الثقافة العربية كانت في جلّ اهتمامها وأنشطتها تدور بصورة أساسية حول الأدب ما جعل الثقافة البصرية بأنواعها تظل محكومة بعلاقة الهامش مع المركز.

لقد ظل الفن التشكيلي في الحياة الثقافية العربية يراكم تجاربه وخبراته بصورة عمودية دون أن يتمكّن من التوسع أفقيا بحيث يؤصل حضوره من خلال توسيع دائرة انتشاره وتأثيره في الحياة والمجتمع

إن ضعف الإقبال على متابعة هذه المجلات يرتبط في جانب هام منه بضعف العلاقة بين الجمهور العربي واللوحة لأسباب متعددة منها ضعف الثقافة الفنية التي جعلت من هذا الفن فنّا نخبويا، خاصة مع التحديات التي يواجهه داخل الثقافة العربية بمرجعياتها المحافظة والتقليدية.

ويظهر هذا الإهمال واضحا في محدودية الاهتمام المدرسي بالفن التشكيلي وهامشية حضوره في الأنشطة المدرسية، التي كان يمكن لها أن تسهم بصورة كبيرة في تعميق الوعي الفني والتأسيس لوعي جمالي، يسهم في توسيع العلاقة مع اللوحة بصورة تجعلها تتحوّل إلى جزء من تقاليد حياتنا وثقافتنا.

إن غياب الوعي بأهمية هذا الفن وبالدور الذي يلعبه في تكوين وعينا الجمالي والبصري والوجداني هو المسؤول عن ضعف الرعاية التربوية له، الأمر الذي يجعل العلاقة معه منذ الطفولة تفتقد إلى عناصر التربية الواعية بهذا الإبداع وقيمه الجمالية، بالشكل الذي يسهم في تكون وعي جمالي ومعرفي يثري هذه العلاقة.

إن محدودية الاهتمام بالفن التشكيلي في الثقافة العربية هي التي جعلت الاهتمام بالنقد التشكيلي محدودا، الأمر الذي انعكس على واقع الحركة النقدية تأصيلا وتطويرا، وهو ما نجده واضحا في تقلّص عدد النقاد العرب المتخصصين بهذا الفن، ففي سوريا على سبيل المثال كان هناك ثلاثة نقاد تشكيليون في السبعينات غيّب الموت اثنين منهم وهاجر البلدان الثالث، وما تزال الساحة النقدية مفتوحة للتجريب دون أن تتمكن من التعويض عن هذا الغياب، أو إنتاج نقاد جدد يرفدون الحياة التشكيلية التي قدّمت أسماء مهمة عربيّا وعالميّا، وكان لها تاريخها العريق في محاولة البحث عن هوية عربية لهذا الفن، إلى جانب العراق الذي لا يختلف الحال فيه نقديا عن سائر البلدان العربية الأخرى رغم عراقة التجربة هناك وثرائها وتنوع اتجاهاتها الفنية.

لقد ظل الفن التشكيلي في الحياة الثقافية العربية يراكم تجاربه وخبراته بصورة عمودية دون أن يتمكّن من التوسع أفقيا بحيث يؤصل حضوره من خلال توسيع دائرة انتشاره وتأثيره في الحياة والمجتمع، خاصة في ظل محدودية اهتمام مؤسسات العمل الثقافي والتربوي. إن قيام حركة نقدية تواكب التجربة الفنية تأثرا وتأثيرا يتطلب وجود تفعيل الحياة الفنية وتوسيع قاعدتها وزيادة الاهتمام الإعلامي بها وخلق محفزات مادية ومعنوية لدعم التجارب التشكيلية وخلق فرص المنافسة التي تدفع بالفنانين إلى مواصلة البحث والتجريب والتجديد.

إن خلق واقع فني متطور ودينامي يمكن أن يسهم في تنامي الحركة النقدية المواكبة وتعزيز دور النقد في تنامي هذه الحركة. لذلك لا بد أن يستعيد المشهد التشكيلي حيويته وعافيته حتى يستطيع استقطاب جهود النقاد، إذ بغير وجود محفزات من داخل المشهد لا يمكن للنقد أن يلعب الدور المرتجى في إغناء وتطوير علاقة هذا الفن مع المتلقي تذوّقا وحساسية وفهما لجمالياته ولغته التعبيرية.