الحكومة اللبنانية..

هل يملك الحراك الشعبي في لبنان بديلا للنخبة السياسية الحاكمة

اللبنانيون يتمسكون بالشارع حتى رحيل النخبة السياسية الحاكمة

بيروت

ينفتح لبنان على المجهول مع استمرار الاحتجاجات لليوم السادس على التوالي متجاهلة الورقة الإصلاحية التي أقرّها مجلس الوزراء وشملت 16 بندا إصلاحيا لاحتواء غضب الشارع، إلا أنها تشكل في مجملها، بحسب خبير اقتصادي، تدابير تقنية لم ترق إلى مستوى تطلعات الحراك الشعبي الذي يبدو أنه لم يبتلع الطعم.

ورفع المتظاهرون من سقف مطالبهم من مطلبية عفوية إلى دعوات برحيل النخبة السياسية التي تشكلت أساسا من نظام المحاصصة الطائفية والتوريث السياسي العائلي. كما رفضوا أي تدخل من رجال الدين والمراجع الشيعية بل إنهم طردوا الشيخ محمد  ترشيشي أحد المراجع الشيعية من مظاهرة يعتقد أنها في بنت جبيل، بحسب ما اظهرت لقطات فيديو نشرت على صفحة بنت جبيل على فايسبوك، في خطوة تسلط الضوء على أن كل المنظومة السياسية والطائفية باتت مرفوضة شعبيا.

ويفتقد الحراك الشعبي لقيادة قادرة على التفاوض مع الحكومة على مطالب المحتجين كما لا يملك رؤية للخروج من الأزمة تماما كما لا تملك حكومة سعد الحريري حلولا عملية تنهي الأزمة.

وفي المقابل فإن أي ردّ فعل عنيف من قبل أحزاب السلطة و'ميليشياتها' لإخماد الحراك الشعبي قد يدفع لبنان الذي خبر لسنوات طويلة مآسي الحرب الأهلية، إلى مستنقع الفوضى.

وقد زلزلت الاحتجاجات العابرة للطائفية والتي تمردت على قدسية الأشخاص والأحزاب الأرض تحت أقدام النخبة السياسية الحاكمة بمختلف ألوانها، لتجد نفسها (النخبة الحاكمة) أمام واقع جديد أربك كل حساباتها.

وفي الوقت الذي أدار فيه المحتجون ظهورهم للورقة الإصلاحية معتبرين أنها مجرد مسكنات ومحاولة مكشوفة للالتفاف على المطالب الشعبية ومنها رحيل النخبة الحاكمة، أعلنت الحكومة اللبنانية أنها تتوقع تجاوبا كبيرا من الجهات المانحة مع الورقة الإصلاحية لجهة الإفراج عن منح وقروض بمليارات الدولارات كانت تعهدت بها لانقاذ لبنان من أزمته الاقتصادية والمالية.

لكن تلك التوقعات تسير على خطّ معاكس تماما للواقع وسط بيروت حيث تمسك المتظاهرون بالاحتكام للشارع حتى رحيل النخبة السياسية الحاكمة بمختلف أطيافها وطوائفها.

وقال نديم المنلا أحد كبار مستشاري الحكومة اللبنانية اليوم الثلاثاء إن لبنان يتوقع أن يكون رد فعل المانحين الأجانب على الإصلاحات التي أعلنتها الحكومة "إيجابيا للغاية" وإنه يريد إظهار جديته في خفض العجز في موازنة الدولة.

وأعد رئيس الوزراء وكبار المسؤولين قائمة بالخطوات في العطلة الأسبوعية وسط احتجاجات في مختلف أنحاء البلاد وتصاعد المطالبات باستقالة الحكومة.

وقال المنلا وهو من كبار مستشاري الحريري في إفادة للصحفيين "نحن نعتقد أن القرارات سيكون لها رد فعل إيجابي للغاية. ومن المأمول أن يتمكن لبنان في فترة قصيرة جدا من استعادة القدرة على تمويل متطلبات الديون.

وقال المنلا إن حمَلة السندات اللبنانية لن يتأثروا بالإصلاحات التي تشمل خفض أعباء خدمة الدين. ويعاني لبنان من واحد من أسوأ أعباء الدين العام في العالم إذ يعادل نحو 150 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.، فيما يعتمد الاقتصاد اللبناني على ودائع المغتربين وهبات ومنح خليجية ودولية.

وتشمل التدابير التي أعلنتها الحكومة تقليص مرتبات الوزراء إلى النصف وإصلاح قطاع الكهرباء الذي يعاني من الإهدار. كما وافق مجلس الوزراء على موازنة الدولة للعام 2020 والتي لا تفرض فيها ضرائب جديدة على الأفراد وتهدف لخفض نسبة العجز إلى 0.6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي من النسبة المستهدفة سابقا وتبلغ نحو سبعة بالمئة.

ومن المنتظر أن تساهم البنوك التجارية والبنك المركزي في خفض العجز بمقدار 5.1 تريليون ليرة لبنانية (3.4 مليارات دولار) بما في ذلك زيادة ضريبية على أرباح المصارف.

وفي العام الماضي تعهد المانحون الأجانب والمستثمرون بمبلغ 11 مليار دولار لمساعدة لبنان على تمويل برنامج للاستثمارات الرأسمالية ما دام ينفذ الإصلاحات.

وقال المنلا "أردنا إرسال رسالة في غاية الوضوح أن لبنان جاد في معالجة العجز في الموازنة"، مضيفا أنه من المأمول أن يؤدي ذلك إلى "تطور إيجابي جدا في الأسواق وزيادة الاستثمار الأجنبي المباشر".

كما قال إن خفض العجز المتوقع سيتحقق من تقليل الإنفاق بما في ذلك دعم الكهرباء ومن تكاليف خدمة الديون وإنفاق الأموال، مضيفا أنه من المتوقع أن يبلغ معدل النمو الاقتصادي في 2020 صفرا بالمئة.

وأوضح أن بعض الجماعات السياسية دعت إلى تعديل حكومي وأن هذه المسألة ستُحسم خلال أيام، لكنه أضاف أنها لم تصل بعد إلى حد النقاش الجاد ولم تصدر عن رئيس الوزراء سعد الحريري. وقال معلقا على الاحتجاجات "استعادة الثقة ستكون مهمة شاقة".

وخرج اللبنانيون مجددا الثلاثاء إلى الشوارع لليوم السادس على التوالي، غير آبهين بإجراءات إصلاحية جذرية اتخذتها الحكومة في محاولة لامتصاص نقمة المتظاهرين المصرّين على التمسك بمطلب رحيل الطبقة السياسية بأكملها.

وقال حسين العالية (36 عاما) وهو سائق حافلة لنقل الركاب من سكان الضاحية الجنوبية لبيروت، خلال وجوده في ساحة الشهداء وسط بيروت "ورقة الحكومة لن تمر. إذا كانوا قادرين على وضعها وإقرارها خلال ثلاثة أيام، فلماذا لم يقروها منذ ثلاثين عاما؟".

وأكد عزمه الاستمرار في التظاهر مع الشعب اللبناني، موضحا "نزلنا من كل الطوائف إلى الشارع لإسقاط الدولة بأكملها".

واحتشد الآلاف من اللبنانيين في الشوارع في مختلف المناطق منذ صباح الثلاثاء وعملوا على قطع الطرق الرئيسية في وقت مبكر، فيما حاولت وحدات الجيش اللبناني التفاوض مع المتظاهرين لإقناعهم بفتح الطرق.

وأمام مصرف لبنان المركزي في بيروت، تجمّع عشرات من المتظاهرين مرددين شعارات "يسقط يسقط حكم المصرف"احتجاجا على السياسات المالية المتبعة في البلاد.

ويعتبر هؤلاء أن القطاع المصرفي الذي يعود له الجزء الأكبر من ديون الدولة، شريك في إفقار اللبنانيين. وأبقت المصارف والجامعات وغالبية المدارس أبوابها مغلقة مع تعذّر الوصول إليها جراء قطع الطرق.

وتتضمن خطة الحكومة الإنقاذية وفق خبراء اقتصاديين إصلاحات جذرية، لم يكن ممكنا التوصل إليها لولا خروج اللبنانيين من مختلف المناطق في تحرك غير مسبوق على خلفية قضايا مطلبية ومعيشية.

وفشلت الحكومات المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990) في القيام بإصلاحات بنيوية وتأهيل المرافق العامة وتحسين الخدمات والبنى التحتية. ويجد اللبناني نفسه مضطرا لأن يدفع كلفة الخدمات الأساسية مضاعفة كالكهرباء والمياه التي لا تتوافر دائما. كما تعد كلفة الاتصالات الخلوية في لبنان من الأكثر ارتفاعا في المنطقة.

ويلفت المحلل الاقتصادي في مجموعة الأزمات الدولية هيكو فيمن إلى أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة "عبارة عن تدابير تقنية قد تحسن الوضع المالي في البلاد، لكنها لا ترقى إلى مستوى التحدي الذي يفرضه المحتجون".

ويقول حسين من وسط بيروت حيث ارتفعت أعداد المتظاهرين تدريجيا خلال ساعات النهار "النواب والوزراء سارقون وحاكم مصرف لبنان يغطي عليهم" مضيفا "ثمة صبايا وشباب يدرسون في الجامعات ويمكنهم أن يتولوا المسؤولية في البرلمان والحكومة".

وعلى بعد أمتار منه، يقول المهندس المعماري شربل أبو جودة "نحن هنا لنعمل على أن نحافظ على الحراك ولكي لا يذهب سدى" مضيفا "من المفروض أن تتنحى هذه الحكومة وتترك مجالا لحكومة أخرى".

وعلى غرار متظاهرين كثر، يرى هذا الشاب أن "لدى اللبنانيين طاقات استثنائية" تمكنهم من قيادة البلاد في المرحلة المقبلة.

ويتحدث الأستاذ في العلوم السياسية كريم المفتي عن "كباش" حاليا بين الشارع والسلطة. قائلا "بعد سماع ردود الفعل الأولى، يبدو أن الشارع لم يبتلع الطعم".

واعتبر أنه كان حريّا بالحكومة أن تبادر بالإضافة إلى التدابير الاقتصادية العاجلة لاتخاذ "إجراءات أكثر جذرية"، تقنع اللبنانيين الذين يطالبون بإصلاح شامل للنظام.

واتخذت التحرّكات منحى تصاعديا منذ الخميس حيث تزايدت أعداد المتظاهرين تباعا في تحرك شلّ البلد وأغلق كافة مؤسساته. ويأخذ المتظاهرون على الطبقة السياسية سوء إدارتها شؤون البلاد وفسادها وعجزها عن إيجاد حلول لمشاكل متفاقمة منذ عقود.

وشكل سعي الحكومة لفرض رسم مالي على الاتصالات المجانية عبر تطبيقات الهاتف الخلوي الشرارة التي أطلقت هذه التحركات الغاضبة، إذ لم يعد بإمكان المواطنين تحمل غلاء المعيشة والبطالة وسوء الخدمات العامة.

ويصرّ المتظاهرون على مطلب رحيل الطبقة السياسية كاملة، في وقت لا يبدو واضحا أفق استمرار تحركاتهم ومدى قدرتهم على الاستمرار في شلّ البلد ومؤسساته.

ويقول المفتي "دعا الرأي العام نفسه إلى مائدة الكبار ويعتزم البقاء هناك"، إلا أن الحراك يفتقر في هذه المرحلة بحسب المفتي إلى شخصيات قادرة على تمثيله والبحث عن بديل سياسي في ظل وضع اقتصادي وسياسي دقيق.

ويتساءل "إذا كانت الحكومة والبرلمان والرئيس لا يمثلون الشارع، فما البديل؟" محذرا في الوقت نفسه من أن "الفراغ ليس خيارا".