المصالح الاستراتيجية..

ترجمة: هل تتنافس الصين مع روسيا في آسيا الوسطى؟

التأثير الاقتصادي

رؤية الإخبارية
زاد النفوذ الصيني في آسيا الوسطى بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. بالنسبة لطاجيكستان وكازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان وحتى تركمانستان الأكثر انغلاقًا، لم تصبح الصين مورِّدًا رئيسيًا للقروض والاستثمار فقط، بل باتت أيضًا شريكًا تجاريًّا رئيسيًّا.

وربما يفسر البعض هذا بأنه مؤشر على أن تأثير روسيا، الراعي التاريخي لآسيا الوسطى، آخذ في التراجع. ومع ذلك، يبدو أن روسيا لا تشعر بالقلق الشديد من نفوذ الصين المتزايد في المنطقة، وهذا لأنه على عكس الصين، فإن مصالح موسكو في آسيا الوسطى ليست اقتصادية فحسب. وفي الواقع، لدى روسيا روابط تاريخية ومصالح أمنية وسياسية في المنطقة؛ ما يضمن لموسكو أن تكون اللاعب المهيمن في المنطقة لسنوات مقبلة.

بالنسبة لروسيا، فإن الحفاظ على النفوذ في دول آسيا الوسطى ما بعد الاتحاد السوفيتي أمر بالغ الأهمية. حيث تشكّل هذه الدول منطقة عازلة أساسية لروسيا، تفصل البلاد عن المناطق غير المستقرة في الشرق الأوسط وتمنع العناصر الإرهابية، كما تشعر روسيا بالقلق من أن تمتد التأثيرات الإرهابية والمتطرفة إلى حدودها الجنوبية وإلى القوقاز عبر آسيا الوسطى؛ ما يهدد بزعزعة استقرار مناطقها الجنوبية والشرقية.

التأثير الاقتصادي

من وجهة نظر اقتصادية، تنظر روسيا إلى آسيا الوسطى كمنطقة ذات إمكانات، وترى آسيا الوسطى كطريق رئيسية يمكن من خلالها توفير الطاقة والسلع الأخرى للأسواق المتنامية مثل الهند والصين وباكستان، والتي قد تواجه، في الوقت الذي تواجه فيه حالة عدم استقرار متزايدة من العقوبات والحرب التجارية الأمريكية، مستهلكين رئيسيين للصادرات الروسية. غير أن موسكو تواجه منافسة متزايدة من بكين في مجال نفوذها التاريخي، وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008، بدأت بكين في الاستثمار بنشاط أكبر في دول آسيا الوسطى والتجارة فيها.
 
إن أهم مصالح الصين في آسيا الوسطى اقتصادية؛ حيث تَعتبر بكين هذه الدول سوقًا متنامية للمنتجات الصينية، وبها أهم طرق التجارة لمبادرة الحزام والطريق، ومصدرًا للموارد الطبيعية اللازمة، فيما تنتج الشركات الصينية نحو 20٪ من نفط كازاخستان، كما تشغل الشركات التي تتلقى رأس المال الصيني أكثر من 80% من ودائع الذهب الطاجيكية، وأكثر من 700 شركة في أوزبكستان تتلقى التمويل الصيني. كما موّلت الصين تطوير حقل غالكينيش للغاز في تركمانستان، وإنشاء خط أنابيب للغاز عبر كازاخستان، وتتجاوز التكلفة الإجمالية المقدرة لهذين المشروعين 8 مليارات دولار.

وتدين دول آسيا الوسطى الآن بمليارات الدولارات للصين، في حين تبلغ قيمة ديون أوزبكستان وحدها 3.4 مليار دولار (21 % من الدين الخارجي للدولة)؛ فيما تدين طاجيكستان بمبلغ 2.9 مليار دولار (48 % من ديونها الخارجية)؛ بينما تدين قرغيزستان بمبلغ 1.7 مليار دولار (42.5 % من الديون الخارجية). ويثير هذا مخاوف أن تصبح دول آسيا الوسطى متورطة فيما يسمى بـ "فخ الديون"؛ ما يضطر هذه الدول إلى الموافقة على تنازلات سياسية أو اقتصادية ضخمة من أجل سداد القروض الكبيرة التي لم تعد قادرة على خدمتها. ففي عام 2011، على سبيل المثال، وافقت طاجيكستان على تأجير 1 % من أراضيها للصين. فيما قدمت تركمانستان الغاز إلى الصين بسعر أقل بثلاث مرات من سعر السوق.

ويمكن للنفوذ الاقتصادي الصيني المتنامي هنا أن يتحدى الدور التاريخي لروسيا باعتبارها الجهة الفاعلة الرئيسية لآسيا الوسطى. فعلى أسس اقتصادية، لا تستطيع روسيا منافسة الصين في واقع الأمر. ومع ذلك، تحتفظ موسكو بدرجة من التأثير الاقتصادي عبر تعزيز التكامل مع آسيا الوسطى، وخاصة من خلال الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي، والذي يتضمن سوقًا موحدة واحدة وسياسات مشتركة بشأن العديد من الصناعات.

وفي النهاية، من غير المحتمل أن تنخرط الدولتان في مواجهة مفتوحة على المدى القصير لسببين: 

أولاً: لا تستطيع روسيا تحمل مواجهة مع الصين، فبعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، باتت الصين القوة الرئيسية الوحيدة التي كانت على استعداد لزيادة العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية مع روسيا؛ لا سيما وأن السياسة الخارجية الروسية، رغم ذلك، كانت منذ فترة طويلة موجهة نحو الشرق. 

ثانياً: كانت روسيا قوة اقتصادية مهيمنة في آسيا الوسطى منذ عقود، غير أن تأثيرها تضاءل إلى حد ما، حيث أدت العقوبات والمشاكل الاقتصادية في الداخل إلى تآكل قدرة روسيا على تمويل المنطقة، لكن آسيا الوسطى والقوقاز لا تزال تعتمد اعتمادًا كبيرًا على موسكو من حيث التجارة والتحويلات النقدية. 

المصالح الاستراتيجية

وعلى الرغم من أن روسيا تواصل تقديم المساعدة الاقتصادية للمنطقة، إلا أن هذه المساعدة تنبع من المصالح الاستراتيجية وليس من الوعد بتحقيق مكاسب اقتصادية. وقد شطبت روسيا مئات الملايين من الدولارات من ديون آسيا الوسطى، بما في ذلك 240 مليون دولار مستحقة على قيرغيزستان في عام 2017، و900 مليون دولار مستحقة على أوزبكستان في عام 2016. وبالنسبة لموسكو، فإن تطوير علاقات جيدة مع تلك الدول ذات الموقع الاستراتيجي أكثر أهمية من المنفعة الاقتصادية المحتملة التي يمكن أن تقدمها. 

ومن ناحية أخرى، تُشكّل هذه الدول منطقة عازلة رئيسية لروسيا، تفصل البلاد عن المناطق غير المستقرة في الشرق الأوسط حيث ينتشر الإرهاب والتطرف. فروسيا لها حدود مترامية الأطراف مع كازاخستان يصعب حمايتها، فالحدود بين دول آسيا الوسطى غير محصنة جيدًا. وقد كشف الهجوم الذي شنّه مقاتلو تنظيم داعش على الحدود الطاجيكية الأوزبكية الأسبوع الماضي أن المنظمات الإرهابية قد اكتسبت موطئ قدم في المنطقة. وهو ما يثير قلق موسكو بشكل خاص؛ لأن الجيوش دول آسيا الوسطى وقواتها الأمنية تعتمد اعتمادًا كبيرًا على روسيا في المعدات والتدريب.

منذ تشكيل منظمة معاهدة الأمن الجماعي عام 1992، كانت روسيا الضامن الأمني الرئيسي لثلاث دول في آسيا الوسطى: كازاخستان، قيرغيزستان وطاجيكستان. (كانت أوزبكستان أيضًا جزءًا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي لكنها انسحبت). ولدى روسيا قواعد ومنشآت عسكرية في طاجيكستان، وقاعدة جوية في قيرغيزستان، وتساعد على تعزيز القدرات العسكرية لهذه الدول. وفي أكتوبر، قدمت روسيا منحة لطاجيكستان بقيمة 320 مليون روبل (5 ملايين دولار) من المعدات العسكرية والأسلحة بما في ذلك محطة رادار لمراقبة المجال الجوي ومركبات استطلاع مدرعة حديثة ومركبات دورية من طراز (BRDM-2M). وفي أكتوبر أيضًا، أعلنت الدائرة الصحفية في المنطقة العسكرية المركزية نقل نظام القذائف المضادة للطائرات من طراز أس - 300 فافوريت إلى الحدود الطاجيكية الأفغانية. 

بالإضافة إلى ذلك، اشترت أوزبكستان عددًا من العربات المدرعة الروسية من طراز تايفون، والتي سيبدأ تسليمها في وقت لاحق هذا العام، وكذلك ناقلات الجنود المدرعة الروسية الصنع من طراز (BTR-82A)، ومركبات تايجر المدرعة ومحطة رادار سوبكا -2. كما تخطط روسيا أيضًا لتزويد أوزبكستان بعدد 12 مروحية نقل من طراز (Mi-35M) بالإضافة إلى حوامات مقاتلة. 

رغم كثرة الحديث حول الوجود العسكري المتنامي للصين في طاجيكستان (فتحت مؤخراً قاعدة عسكرية جديدة على الجانب الطاجيكي من الحدود المشتركة بينهما، على سبيل المثال، كما أجرت تدريبات مع الجيش الطاجيكي في أغسطس)، إلا أن عملياتها الأمنية في آسيا الوسطى يتم تنفيذها – في الغالب – في إطار منظمة شنغهاي للتعاون. 

وفي حين تسعى روسيا لأن تظل اللاعب العسكري المهيمن في المنطقة، فإن الصين راضية بالمقعد الخلفي لتجنب التنافس مع موسكو من أجل التفوق الإقليمي. علاوة على ذلك، تشارك بكين موسكو العديد من مخاوفها الأمنية في آسيا الوسطى، وبالتالي لا تشعر بالتهديد بسبب استعداد روسيا لدعم دول آسيا الوسطى، فالصين لديها بالفعل أسباب للتعاون أكثر من التنافس مع روسيا، على الأقل في المدى القصير. 

وعلى الرغم من تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية للصين، لا ترى موسكو وبكين بعضهما البعض كمنافسين مباشرين في آسيا الوسطى، على الأقل حتى الآن. هناك منافسة غير مباشرة بين الدولتين، لكن مصالحهما وأولوياتهما الحالية نادرًا ما تتداخل بطريقة تدفع بها إلى المنافسة المباشرة. إن مصالح الصين في المنطقة هي مصالح اقتصادية في الغالب، لذلك لن تشارك فيها إلا بقدر ما يمكنها الاستفادة اقتصاديًّا. 

ويرتبط نشر القوات الصينية في طاجيكستان وإجراء تدريبات لمكافحة الإرهاب مع القوات الطاجيكية بمخاوف الصين بشأن أمن استثماراتها في دول آسيا الوسطى ودول أخرى، بَيْد أن لروسيا علاقات أعمق في آسيا الوسطى، ومصالحها أكثر استراتيجيةً منها اقتصاديةً. ولكن في الأوقات الاقتصادية العصيبة، قد تشهد المنطقة تنافسًا متزايدًا على النفوذ، لكن لم تتمكن أي دولة من مضاهاة وجود روسيا وتأثيرها في هذه المنطقة.