الصوفية المعاصرة..

لماذا هجر الشعراء نبرتهم الصوفية في مواجهة وحشة العالم؟

الشعراء ابتعدوا عن الإشراق الروحي (لوحة للفنان وجيه نحلة)

مفيد نجم

في منتصف القرن العشرين ومع انتشار تيارات الحداثة الأدبية والفنية عاد الكثير من الشعراء العرب إلى الصوفية في محاولة لإحياء منهل فكري وروحي ثري، يعتبر من أبرز روافد الثقافة العربية والإنسانية. عودة لم تكن مدروسة أو عن وعي في أغلبها، لكن هناك بعض التجارب التي أسست لخطاب صوفي معاصر مختلف في شعرها، لكن هي بدورها قد خفت بريقها، حيث لم يستمر النهل من الصوفية واستنطاق أفكارها ورؤاها طويلا، وأضحى اليوم غائبا تقريبا عند الجيل الشعري الجديد.

لم ينتبه الشاعر العربي الحديث إلى تراثه الصوفي حتى بدأت الرومانسية ومن بعدها الرمزية في الشعر الغربي تترك ظلالها على القصيدة العربية الحديثة، وستمضي سنوات حتى يبدأ هذا الشعر في ستينات القرن الماضي بتمثل هذا التراث واستلهامه في ضوء وعي جديد فرضته طبيعة الرؤية المعاصرة إليه وحاجات الشاعر الحديث للتعبير عن قضايا زمانه.

التجربة المعاصرة لشعراء الحداثة العربية تختلف من شاعر إلى آخر بحسب الوعي الذي انطلق منه كل شاعر ولذلك يمكن الحديث عن أكثر من صوفية في الشعرية العربية الحديثة.

الصوفية المعاصرة

 

نجد أن صوفية الشاعر عبدالوهاب البياتي مختلفة عن صوفية الشاعر أدونيس وصوفية الأخير ليست هي صوفية الشاعر المصري صلاح عبدالصبور، وإن كانوا جميعهم قد استخدموا كثيرا من الرموز الصوفية في تجاربهم مثل رمزية الحلاج والسهروردي والخيام إضافة إلى العديد من مفرداتها.

وكما أن الصوفية هي تراث إنساني وروحي تشترك فيه جميع الديانات والثقافات الإنسانية، فإن توظيف هذا التراث الروحي في الشعر جاء تعبيرا عن الهواجس والموضوعات التي يتقاطع فيها الشعر مع الصوفية وكونية كل منها، إلى جانب محاولة الشاعر المعاصر إضفاء طابع روحاني على تجربته في عصر المادة وطغيان قيم الاستهلاك. شعراء اليسار على خلاف البياتي اعتبروا العودة إلى منابع الصوفية هو ارتداد وهروب من مواجهة قضايا الواقع والإنسان.

الصوفية جزء من ماضي القصيدة العربية المعاصرة لكننا لا نلمح أي حضور لظلالها في تجارب الجيل الجديد

لكن في هذه التجربة كما سواها من تجارب وموضوعات، تحولت الصوفية إلى جزء من ماضي القصيدة العربية المعاصرة ومن النادر أن نلمح أي حضور لظلالها في تجارب الجيل الجديد من الشعراء العرب، فهل كان هذا الحضور مجرد بحث عن موضوعات جديدة ومعادل روحي ووجداني في مواجهة إخفاقات الواقع العربي، أم كانت بحثا عن الرمز الإنساني في سياق البحث عن ملاذ روحي ورؤية تتجاوز حدود الأشياء والمألوف في اللغة بالاعتماد على الرمز ولغة الإيحاء وتعويضا عن غياب الروابط الوجدانية والعلاقات الإنسانية الحميمة في الواقع؟

قد يكون جزء من هذه الأسباب أو جميعها ما دفع الشاعر المعاصر إلى توظيف الصوفية في شعره، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا لم تواصل هذه التجربة الحفر في روحانيات الصوفية كوسيلة للكشف والاستجلاء من خلال تعميق اتصالها الروحي معها وتوسيع حدود دلالاتها؟

قد يكون عبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور الأكثر مثابرة واستجلاء لهذا الحضور، خاصة وأن الصوفية في التراث الشعري لم تكن لحظة عابرة في تاريخه بل هي جزء أصيل منه، واسع الدلالة الإنسانية وعميق الحضور في روحانيته ومحاولته للوحدة مع الكون من خلال تجاوز الحسي والمرئي فيه.

إن الصوفية التي بحثت عن المعرفة من خلال القلب قد تركت أثرها الكبير والواسع على الشعر العالمي والتيارات المختلفة مثل السوريالية والرمزية وقبلها الرومانسية في حين أن علاقة الشعرية العربية الحديثة بقيت تتقدم وتتراجع دون أن تؤسس تيارا واضح المعالم. لقد كان للمرحلة التي ظهر فيها انتباه الشاعر المعاصر إلى الصوفية تأثيرها إذ كان الفكر اليساري بتياريه القومي والماركسي قد فرض هيمنته على المشهد الثقافي، وأثر بشكل كبير في تكوين الرؤية الشعرية الجديدة وشواغلها، ما جعل الصوفية تتحول إلى تهمة عند البعض بوصفها بحثا عن الخلاص الذاتي، الأمر الذي جعلها تظل عاجزة عن توطيد حضورها في هذه الشعرية وإرساء قيم جديدة يمكن أن تؤسس لتيار متنام فيها.

إيقاظ الروح

الغريب أن الشاعر العربي الحديث الذي اكتشف غربته في الواقع وازداد شعوره بالقلق والضياع بعد انكشاف وهم العبور نحو المستقبل، كما كانت تبشر بذلك أيديولوجيات تلك المرحلة، لم تدفع به تجاه هذا النبع بحثا عن العودة إلى صفاء الأشياء واستعادة علاقة الشاعر الروحية مع الوجود الذي ازدادت وطأة الشعور فيه بالضياع بعد الهزائم التي شهدها في الواقع خلال الربع الأخير من القرن الماضي.

كان الشاعر عبدالوهاب البياتي أكثر هؤلاء الشعراء اتصالا بهذه التجربة ولاسيما في قصائد أعماله الأخيرة التي كانت تبحث عن معادلها الروحي في مواجهة حالة الغربة والضياع والقلق التي كان يعيشها لكنها كانت أيضا تعبيرا عن الرفض والثورة عنده وهو ما يجعله على خلاف في رؤيته مع غيره من الشعراء الآخرين. لم تكن الصوفية مجرد أسماء يجري استدعاؤها وتوظيفها في القصيدة إلى جانب استحضار ظلال روحانياتها وكشوفها لإضفائها على القصيدة فقد شاعت في هذه القصيدة الكثير من المفردات الصوفية والروح الصوفية في إطار الرؤية الجديدة والوعي الجديد بهذه التجربة وما تنطوي عليه من تصعيد روحاني وإشراق ورؤيا.

إن هذا التحول في بنية القصيدة الحديثة التي كانت قصيدة رؤية وإشراق عند شعراء تلك المرحلة ورموزها هو الذي جعل قران القصيدة الحديث والصوفية يتخذ كل هذه الدلالات والأبعاد، ولذلك حاول الشعراء التمييز بين مفهومي الرؤية والرؤيا لتتميز القصيدة ذات البعد الصوفي عن القصيدة الأخرى التي كانت تنطلق من وعي محكوم بخلفيات اجتماعية وأيديولوجية مغايرة.

إن صوفية ابن عربي في الشعر كأهم ينابيع هذا الشعر ومصادره التي تجاوز تأثيرها الثقافة العربية إلى الثقافة الإنسانية نظرا إلى ما تمثله من قيم إنسانية كبيرة ما زالت عابرة للأزمان وللثقافات باعتبارها حاملا كبيرا لقيم المحبة الإنسانية والانفتاح على الآخر والتواصل الروحي الحي، كان يمكن لها أن تكون أكثر تأثيرا في هذه الشعرية وفي تجاربها الجديدة، نظرا إلى الحاجة الكبيرة إلى قيم إنسانية وروحية في زمن تصاعد فيه ظهور النزعات القومية والدينية والعنصرية وتراجعت قيم المحبة والتسامح على الرغم ممّا يشهده العالم من سقوط للحدود الجغرافية ومن تزايد الهجرات في اتجاهات مختلفة، فهل يستعيد الشعر هذه الروح من جديد، ومن خلال رؤية فاعلة جديدة لكي يوقظ روح الإنسان ويدفعها إلى استعادة صفائها وقيمها الأصيلة بدلا من مواصلة هروبها من مواجهة ضياع الإنسان في عصر تسلط المادة وقيم الاستهلاك التي باتت تحكم العالم بتوحش.