ترجمة.

الحرب التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا.. هل تتصاعد من جديد؟

قمة لندن

رؤية الإخبارية

تلقت العلاقات بين الولايات المتحدة وأقدم حليفاتها، فرنسا، ضربتين قويتين يوم الثلاثاء بعد مهاجمة الرئيس ترامب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسبب "تصريحاته البغيضة جدًّا" بشأن حلف الناتو، وذلك بعد ساعات فقط من تهديد إدارة ترامب بفرض رسوم جمركية كبيرة على صادرات فرنسية فاخرة تُقدّر بمليارات الدولارات. 

وبالرغم من بشاعة الحرب الكلامية حول حلف الناتو في قمة لندن، غير أن الصراع على التجارة يمكن أن يطول، مع ردّ ترامب بقسوة على فرض ماكرون ضرائب رقمية ستؤثر سلبًا على شركات تقنية أمريكية كبرى، مثل غوغل وأمازون.

    

إن التوتر المتصاعد حول الضرائب الرقمية والرسوم الجمركية الأمريكية، يعكس خلافًا أساسيًّا بشأن طريقة التعامل مع الشركات الرقمية متعددة الجنسيات العملاقة، وهي في معظمها أمريكية، ويمكن أن يمتد هذا الصراع بسهولة ليشمل دولًا أوروبية أخرى. ومثل فرنسا، تدرس دول عديدة أخرى اتخاذ خطوات لإصلاح ثغرة كبيرة في قانون الضرائب الدولي الذي يسمح بعدم فرض ضرائب على "المنتجات" الرقمية، والذي لم تتوصل الدول لحل توافقي بشأنه لسنوات طويلة. وأشارت الولايات المتحدة إلى أن إيطاليا والنمسا وتركيا ربما تكون الهدف التالي لرسومها الجمركية.

يقول سايمون ليستر، الخبير التجاري في معهد "كاتو": إن "الإدارة ربما تعتقد أنها ينبغي أن تضغط على فرنسا لضمان ألا تسير دول أخرى على خطاها".

يأتي التوتر الجديد أيضًا في وقت أعاد فيه ترامب اكتشاف حبه للرسوم لجمركية بعد توقفه المؤقت عن فرضها في حروبه التجارية المتعددة. في يوم الاثنين، أعطت منظمة التجارة العالمية الولايات المتحدة الضوء الأخضر لفرض رسوم جمركية على منتجات أوروبية أخرى تُقدّر بمليارات الدولارات بسبب دعم الحكومات الأوروبية المتواصل لشركة "آيربص". وفي يوم الاثنين أيضًا، استهدف ترامب البرازيل والأرجنتين، مُعلنًا فرض رسوم جمركية على صادراتهما من الصلب بسبب تلاعب الدولتين المزعوم بالعملة، ما فاجأ مسئولي البلدين ودفعهم للمسارعة لاسترضاء واشنطن. وصرّح ترامب يوم الثلاثاء أنه ليس متعجلًا لإبرام اتفاق تجاري جزئي مع الصين (ما قد يعني رفع بعض الرسوم) وهو ما تسبب في هبوط حاد في أسواق الأسهم.

يقول الخبير "ليستر": إن "ترامب يستمر في استخدام الرسوم الجمركية لأهداف مختلفة، إما لجني عوائد مالية أو كسب ورقة تفاوضية أو لدفع الدول الأخرى لتغيير سياستها". 

كان ترامب قد وصف في وقت لاحق "الضرائب على غوغل" بأنها خلاف بسيط، لكن العلاقات بين واشنطن وباريس وبروكسل متوترة بالفعل، فيما ردّ وزير الاقتصاد الفرنسي "برونور لي مير" على تهديد ترامب الأخير بفرض رسوم، قائلًا: "هذه التهديات لا تليق بحليف، وهي ليست السلوك الذي نتوقعه من الولايات المتحدة تجاه واحده من أبرز حلفائها"، مُحذرًا في الوقت ذاته من أن أوروبا ستردّ على رسوم ترامب. وهذا بدوره سيصعّد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا، والتي شملت بالفعل فرض الولايات المتحدة رسومًا جمركية على صادرات الصلب الأوروبية، واتخاذ الأوروبيين لإجراءات مضادة، فضلًا عن استمرار الخلاف بين الطرفين بشأن الدعم الحكومي لعملاقي صناعة الطائرات "بوينغ" و"آيربص"؛ ما أدّى لفرض رسوم انتقامية من الطرفين على مزيد من البضائع. وقال وزير الاقتصاد والمال الفرنسي إنه يرغب في رؤية حل عالمي لمسألة الضرائب الرقمية، لكنه يعمل في الوقت ذاته مع المفوضية الأوروبية لصياغة ردود على الرسوم الجمركية الأمريكية.

إن تصعيد ترامب الأخير للتوترات التجارية، يأتي في وقت حساس يعيشه الاقتصاد العالمي والنظام الدولي الذي دعم التجارة العالمية في العقود الأخيرة. لقد أثّرت الحروب التجارية بين الولايات المتحدة والصين وأوروبا سلبًا على الاستثمار العالمي، ودفعت جهات متخصصة في التنبؤات الاقتصادية، مثل "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" لتخفيض تنبؤاتها للنمو العالمي لأدنى مستوياتها منذ الأزمة المالية التي وقعت منذ عقد مضى، فيما تلوح في الأفق مخاطر بشأن قطاع التصنيع الأمريكي. في غضون هذا، تواجه منظمة التجارة العالمية، المسئولة عن تنظيم قواعد التجارة العالمية، تهديدًا وجوديًّا: فبفضل عرقلة الولايات المتحدة، سيتوقف نظام الاستئناف في منظمة التجارة العالمية عن العمل في الأسبوع المقبل، وهذا النظام هو المسئول عن الفصل في النزاعات التجارية بين البلاد.        

إن الفصل الأخير من حروب إدارة ترامب التجارية مع أوروبا، يتعلق بفرض فرنسا لضرائب رقمية على شركات تقنية كبرى (وهي في أغلبها أمريكية) تجني الكثير من الأموال في الخارج لكنها تدفع القليل من الضرائب هناك. وقد نشرت إدارة ترامب في وقت متأخر من يوم الاثنين نتائج تحقيقها في القانون الفرنسي، ووجدت أنه "غير معقول وتمييزي ويثقل كاهل التجارة الأمريكية". في حين تُجادل فرنسا بأن القانون، الذي يطال أيضًا شركات أوروبية وصينية، لا يُقصد منه استهداف عمالقة التقنية الأمريكية.

وردًّا على الضرائب الفرنسية، وضعت الإدارة الامريكية قائمة بصادرات فرنسية فاخرة تُقدّر قيمتها بـ 2.4 مليار دولار- بداية من جبنة "غرويير" وحقائب اليد وصولًا إلى الشامبانيا - إذْ يمكن أن تتعرض هذه المنتجات لرسوم تصل إلى 100 بالمائة في مطلع العام المقبل ردًّا على الضرائب الفرنسية. 

ومن غير الواضح ما إذا كانت الأفعال الأمريكية ستدفع فرنسا للتفكير مرتين، ناهيك عن الدول الاخرى. وأكّد مسئولون فرنسيون يوم الثلاثاء أنهم سيمضون قدمًا في فرض الضرائب الرقمية بالرغم من التهديدات الأمريكية، كما أن دولاً أخرى، مثل المملكة المتحدة وتركيا وإسبانيا وإيطاليا وكندا، جميعها لديها خطط أو اقتراحات لفرض ضرائب رقمية. لكن فرنسا قد تكون غير قادرة على الصمود وحدها في وجه الاقتصاد الأمريكي القوي، بالرغم من تعهدها السابق بالمقاومة، كما أن الدول الأخرى ستراقب الوضع.

 

يقول "جوليان نوكيتي"، وهو زميل مساعد في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية: إن "الدول الأخرى قد تفكّر مرتين قبل المضي قدمًا في إقرار مسودات قوانينها"، مضيفًا: "لو رأت هذه الدول فرنسا تسحب مشروعها، فإنها ستتراجع بالتأكيد".

بالنسبة لمراقبين آخرين، فإن أفعال ترامب تفتقد إلى قوة رادعة. ويقول الخبير التجاري "ليستر": إن "هناك العديد من الأفعال الأحادية الجانب، لكن لا أحد يرغب في التراجع". 

وفي الوقت الراهن، لا تُعد التهديدات الأمريكية بفرض رسوم على فرنسا قاطعة ونهائية، فإدارة ترامب قد ترسل شكوى ضد فرنسا إلى منظمة التجارة العالمية التى ستُصاب بالشلل قريبًا، أو تستخدم التهديد بفرض رسوم لبدء محادثات دولية لإيجاد حل دولي بشأن كيفية فرض ضرائب على شركات رقمية لديها عمليات حول العالم لكنها تدفع القليل من الضرائب. يقول "نوكيتي": إن هذه المحادثات حققت تقدمًا كبيرًا؛ ما يعني أن التوصل لتوافق عالمي هو أمر محتمل. 

الأمر الملفت أن الحرب التجارية مع فرنسا ليست هي النزاع الوحيد الذي بدأته إدارة ترامب في هذا الأسبوع؛ إذ سادت حالة من الفوضى والقلق في البرازيل والأرجنيتن بعد تغريدة ترامب المفاجئة صباح يوم الاثنين، والتي أعلن خلالها فرض رسوم جمركية "فورًا" على هذين البلدين، بحجة أن البلدين خفّضا عمدًا قيمة عُملتيهما لتحقيق ميزة تجارية. وبذلت البرازيل تحديدًا جهدًا كبيرًا لاسترضاء إدارة ترامب، وبدت تلك الدولة مصدومة من استهدافها بهذه العقوبات، لا سيما أن عملتها عائمة ولا تخضع لأي تلاعب حكومي بأي شكل من الأشكال. 

هذه ليست المشاكل الوحيدة مع تلك التهديدات بفرض رسوم (ومايزال من غير الواضح ما إذا كانت ستُفرض بالفعل أم لا، وذلك بالرغم من تغريدة ترامب). إن التبرير الرسمي لتلك الرسوم على الصلب والألمونيوم، وهو التبرير الذي طُرح لأول مرة في عام 2018، هو الشعور بالقلق على الأمن القومي الأمريكي، لكن شواغل الأمن القومي كقاعدة عامة لا تتضمن قيمة عملات الدول الأجنبية. 

علاوة على ذلك، فإن نافذة استخدام حجة الأمن القومي لفرض ضرائب على الصلب أُغلقت بالفعل، كما قضت مؤخرًا محكمة تجارية أمريكية؛ لهذا السبب يرى العديد من الخبراء التجاريين أن الرسوم الجمركية على البرازيل والأرجنتين غير قانونية.

     

وبغض النظر عن قانونية الرسوم المقترحة، فإنها قد تخلق أيضًا مشاكل لعلاقات أمريكا التجارية الأخرى، مثل المحادثات المتواصلة مع الصين للوصول لصفقة جزئية تُبعد شبح تصاعد التوتر الجمركي بين أكبر اقتصادين في العالم. يقول الخبير التجاري "ليستر": إن هجوم ترامب على البرازيل والأرجنتين تراقبه دول أخرى تحاول التوصل لاتفاقيات تجارية محدودة مع الولايات المتحدة، وأن هذا الانتقام الأمريكي ضد حلفاء لن يمر دون أن يلفت الأنظار.

ويستكمل "ليستر" حديثه بالقول: "هناك خطر. وأنا لست متأكدًا كيف يمكن لأي طرف الوثوق في التزام إدارة ترامب باتفاقياتها". 

هذا لا يعني أن الولايات المتحدة والصين كانتا على وشك توقيع "المرحلة الأولى" من اتفاقهما في أي وقت قريب، فقد شدّد ترامب يوم الثلاثاء على أنه قد يؤجل أي اتفاق كهذا - والذي كان منذ بضعة أيام على بُعد "مليمترات" - إلى ما بعد انتخابات العام المقبل. هذا يعني عامًا آخر من عدم اليقين للأعمال التجارية، وزيادة التكاليف للشركات والمستهلكين الأمريكيين الذين سيضطرون لدفع رسوم، وتقلّص أسواق التصدير للمزارعين الأمريكيين الذين يرون أن دولًا أخرى، مثل البرازيل والأرجنتين تنزع نصيبهم عبر بيع منتجاتها للصين. لكن بالنسبة لترامب، الذي وصف نفسه ذات مرة بـ "رجل الرسوم الجمركية"، فإن هذا مجرد عمل معتاد.