ثورة ثقافية تقودها المدينة الاعلامية..

رؤية 2030.. خطوات نوعية وناجحة على طريق التغيير في السعودية

الرياض تتهيأ إعلاميا لتلعب دورا يليق بالطموحات السعودية الكبرى

الرياض

قطعت المملكة العربية السعودية خطوات نوعية وناجحة على طريق التغيير الذي رسمته رؤية 2030. وبدأت تسرع الخطى نحو تحقيق المزيد متسلحة بدعم شعبي لافت يتطلع إلى سعودية جديدة تستغل مواهبها وشبابها وطاقاتها، وتستفيد من مؤهلاتها وكفاءاتها التي غادرت في العقود الماضية البلاد بحثا عن آفاق لم تكن متوفرة في السعودية. ولعل المجال الإعلامي من أكثر المجالات مفارقة في هذا السياق حيث تعتبر السعودية رائدة صناعة الإعلام والترفيه في العالم العربي، منذ أن أطلقت أول محطة تلفزيونية فضائية مفتوحة يمتلكها القطاع الخاص (مركز تلفزيون الشرق الأوسط، أم بي سي)، كما ريادتها في الصحافة المكتوبة، لكن الانفتاح عل الخارج كان يصاحبه انغلاق في الداخل، ولم يكن النجاح الذي تحققه أم بي سي، ومن جاء بعدها من شبكات، يحسب للسعودية التي تعمل اليوم على استعادة كفاءاتها المهاجرة واستقطاب الكفاءات العربية والأجنبية وإرساء استراتيجية إعلامية تواكب التحولات، تترجمها على أرض الواقع مدينة الرياض للإنتاج الإعلامي.

 يسلط المراقبون المجهر على “الثورة” التي أطلقتها السعودية في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز داخل كافة قطاعات البلد في مجالات الاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية، ناهيك عن الخطط الواعدة التي تعمل على النهوض بكافة المدن السعودية وإحداث تحولات لافتة في يومياتها كما في مسارات مستقبلها.

وفيما يلاحظ الزائر للعاصمة السعودية كما لبقية مدن المملكة بسهولة ذلك التحول الهام في السلوك الاجتماعي العام، لجهة انتشار المطاعم والمقاهي على نحو يطبّع حياة الناس بالحياة في أيّ مكان في العالم، فإنه إذا ما بحث أكثر من ذلك، فسيكون يسيرا عليه استنتاج عقلية الأعمال التي بات البلد يعمل وفقها على نحو يسعى من خلالها إلى التخلص نهائيا من الارتهان إلى قطاع النفط.

ويرشح خبراء الرياض لتلعب دورا هاما يليق بالطموحات السعودية الكبرى، على نحو يجعلها مركزا إقليميا رائدا لا يمكن إلا أن يكون الأكبر في الشرق الأوسط.

قطب رائد في الشرق الأوسط

تنقل وكالة بلومبيرغ عن روني فروهليش، وهو رجل أعمال ألماني، أن شركته للتجارة الإلكترونية، ومقرها دبي، وشارك في تأسيسها مع صديق سعودي قبل خمس سنوات، ستباشر نقل موظفيها إلى الرياض وتوظيف المزيد في العاصمة السعودية. وقال “إذا كنت تريد أن تكون كبيرا في الشرق الأوسط، فعليك أن تكون في السعودية”. وعلى هذا يجري “حج” جديد لكبريات الشركات العالمية صوب الرياض ومدن المملكة الأخرى لمواكبة التحولات التي تشهدها البلاد بإيقاعات سريعة، واسعة وشاملة، على النحو الذي يسهر على تحقيقه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

وبعد أن كانت صورة السعودية مرتبطة في الإعلام الغربي، إلى وقت قريب بالتشدد وبرجال الهيئة الذين يلاحقون المواطنين في الشارع، صارت وكالات بحجم بلومبيرغ تتحدث بإعجاب عن خطط الأمير محمد، ورؤية السعودية 2030، وعن نجاحات المملكة في الانفتاح على السياحة وتخفيف القيود المفروضة على النساء بشكل كبير، وإعادة تشغيل دور السينما وقاعات العرض بحيث بات الترفيه الذي تشرف على تنظيمه هيئة حكومية متخصصة عاديا وطبيعيا وجزءا من حياة السعوديين.

وفيما اشتهرت السعودية خلال العقود الأخيرة بإطلاق إمبراطورية إعلامية، ورقية ومرئية، من خارج حدود المملكة، يشهد قطاع الإعلام السعودي نهضة جديدة تستعيد من خلالها المملكة إعلامها بحيث يتركز النشر والبث داخل حدود البلد.

وكان لافتا استعداد مجموعة أم بي سي الشهيرة، وهي أول وأشهر القنوات السعودية الفضائية، لنقل كثير من أنشطتها إلى الرياض، على نحو يروي من خلال مسار هذه القناة، التي انطلقت من لندن وانتقلت لاحقا إلى دبي وشروعها في بناء مقر رئيسي لها في الرياض، التحول الحقيقي الذي حصل في السعودية والذي بات الإعلام علامة من علاماته.

وكان رئيس مجلس إدارة مجموعة أم بي سي وليد بن إبراهيم آل إبراهيم، قد أعلن أن المجموعة تسعى من خلال تأسيس مقرها الرئيسي الجديد في الرياض إلى مواكبة التطورات في المملكة، والاستفادة من البيئة الحاضنة المنفتحة والمتطورة والداعمة لقطاعيْ الإعلام والترفيه وصناعة المحتوى.

وقال آل إبراهيم، عقب توقيع اتفاقية مع الأمير بدر بن فرحان، وزير الثقافة ورئيس مجلس إدارة مشروع المدينة الإعلامية، “نعمل على تعزيز ريادتنا واستمرارها في هذا القطاع الحيوي، على امتداد المنطقة بأسرها، خصوصا في ظل التطورات الهائلة التي نتجت وتنتُج باستمرار عن الإصلاحات والخطوات التطويرية في المملكة، منذ الإعلان عن رؤية 2030”.

ويعيد جميل الذيابي، رئيس تحرير صحيفة عكاظ والمشرف العام على صحيفة سعودي غازيت، التذكير بأن قنوات أم بي سي هي “قنوات الأسرة العربية بلا منافس، واكتسبت هذه الريادة بمهنيتها وقاعدتها الجماهيرية العريضة منذ انطلاقتها في مطلع التسعينات في لندن، بروح عربية خالصة”.

ويرى الذيابي أنه بات لزاما البحث عن مقر رئيسي لهذه المجموعة في المملكة، وهذا ما تحقق بإنشاء مقر لها في الرياض، وهذا “لا يعني بأن مقرها في دبي لم يكن ناجحا، بالعكس فقد كانت دبي منطلقا وركيزة أساسية لها بعد العاصمة البريطانية لندن”.

ويعتبر أن الرياض “في ظل التوجه السعودي ورؤية المملكة 2030 وانفتاحها على العالم واستقطابها للشركات والمؤسسات أصبحت تشكل ركيزة أساسية وهدفا للمستثمرين ورؤوس الأموال. كما أن البيئة الاستثمارية الجاذبة في السعودية وفعالياتها المستمرة على المستوى العربي وفي العالم أيضا ستنعكس بالإيجاب على استثمارات القناة والقائمين عليها، خصوصا أن السوق الإعلامية والإعلانية جاذبة ونشطة”.

ويلفت الذيابي إلى أن “الجانب الثقافي للسعودية ومشاريعها العملاقة سواء نيوم، أو المهرجانات والفعاليات في مختلف المناطق تحتم على أيّ وسيلة أو جهة إعلامية أن تتواجد بصورة مستمرة وفي جميع الأوقات”.

ويؤكد أن “الرياض أصبحت حاضنة للعديد من الجهات والشركات، ولا شك أن أم بي سي ستضيف لها الكثير وسيصبح لها رونق ومكانة خاصة تليق بها وبمكانتها وسمعتها وتأثيرها المهني”.

في ذات السياق، يرى فهد العرابي الحارثي، رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام، أن “ما يجري في الرياض اليوم هو التهيؤ المفعم بالثقة للاضطلاع بأدوار مرموقة على مستوى المنطقة للنهوض بها ودفعها إلى الأمام في مواجهة الانهيارات التي نشهدها مع الأسف في كل مكان”.

وبالحديث عن العاصمة السعودية يقول الحارثي “ما الانفتاح الثقافي والسياحي، وما الإمساك بزمام صناعة الإعلام إلا وجه واحد من وجوه الرياض الجديدة التي ستلج بها إلى المستقبل الذي لم يعد يسمح بالتسويف وإضاعة الوقت، بل إنه المستقبل الذي يقوم على الإبداع والابتكار وبالتالي ينشد التأثير إيجابيا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسة للسعودية نفسها ولمحيطها”.

بريق المدينة الإعلامية

يشمل مشروع المدينة الإعلامية، التي يقع مقرها في حي السفارات غرب الرياض، قطاعات في الثقافة والإعلام والتقنية تؤثر بشكل مباشر على الصناعة الإبداعية المستقبلية، كالنشر والبودكاست والأفلام ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلان الرقمي والتعليم الرقمي والواقع المعزز وتطوير المحتوى والتصوير والتصميم والأزياء والصحف والمجلات والإذاعات والمحطات التلفزيونية، وغيرها.

وكان رئيس مجلس إدارة مشروع المدينة الإعلامية، الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان أعلن عن توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم في المجالات الثقافية والإعلامية والتقنية في مشروع المدينة الإعلامية، التي ستكون وجهة متميزة عالميا ومتعددة اللغات، بالإضافة إلى كونها مركزا إعلاميّا وثقافيّا وتقنيّا رائدا في المنطقة، حيث وقع اتفاقيات مع مجموعة أم بي سي الإعلامية، وشبكة العربية والحدث التلفزيونية، والمجموعة السعودية للأبحاث والتسويق، لإنشاء مقرات جديدة لها في نطاق المشروع. كما وقّع مذكرة تفاهم مع الصندوق الاستثماري لشركة علي كلاود التابعة لمجموعة علي بابا الصينية، لتأسيس مقر إقليمي فيها.

كبرى الشركات العالمية تولّي وجهها شطر الرياض والمدن الأخرى في المملكة لمواكبة التحولات التي تشهدها 

ويعلق رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام بالقول إن “السعودية اليوم تعيد اكتشاف نفسها، لتعكف على مشروعات كبرى في الثقافة وصناعة الإعلام”. ويضيف أن “السعودية تحوّل الثقافة إلى مصدر مهم ومعتبر من مصادر الدخل القومي فضلا عن ثمار القوة الناعمة الأخرى المتعددة”.

ويعتبر الحارثي أن “السينما، المسرح، الترفيه، الآثار، السياحة، المؤتمرات، المعارض، ومدينة الإعلام المنتظرة هي أذرع السعودية الجديدة لاحتضان المنطقة والعالم”، وأن “انتقال مجموعة أم بي سي إلى الرياض هو عودة الحق إلى نصابه لتكون المجموعة أحد مرتكزات هيكلة المستقبل السعودي المختلف الذي سيدهش الجميع”.

يعتبر الأمير بدر بن فرحان، أن مشروع المدينة الإعلامية يأتي ضمن سلسلة مشاريع كبيرة “تحظى برعاية القيادة الرشيدة للاستفادة من الإمكانات السعودية”، مشيرا إلى أن المشروع لا يمكن حصره في قطاع بعينه، “بل ذهبنا إلى فضاءات لا محدودة في كل قطاعات المستقبل والمعرفة والتقنية والإعلام والثقافة”.

ويتحدث سليمان العقيلي، وهو كاتب ورئيس تحرير سابق لصحيفة الوطن، عن ظاهرة الرياض عاصمة للإعلام، فيكشف أن المدينة الإعلامية التي تؤسس في الرياض “ستصبح منصة للمحطات التلفزيونية والإذاعية التي تبث من المملكة وعددها كبير جدا. كما ستنتقل لها المجموعات الصحافية العربية (غير المحلية) ومؤسسات وشركات الإنتاج التلفزيوني والسينمائي”.

وستواكب هذه المدينة، حسب العقيلي، الهيئات الثقافية الجديدة التي أطلقتها وزارة الثقافة مثل هيئة المسرح والفنون الأدائية، وهيئة الأفلام وهيئة الفنون البصرية وهيئة الموسيقى، وهي هيئات لها ارتباط مباشر وغير مباشر بالإعلام المرئي والمسموع.

ويقول العقيلي إنه بعد توسع مجموعة أم بي سي في السعودية بعد تعيين محمد التونسي رئيسا لها في السعودية “أصبح إنتاج كثير من برامجها يتم في الرياض وغدت هناك حاجة ماسة إلى أستوديوهات ضخمة للشبكة تواكب هذه التحولات”. ولا يستبعد أن تقوم شراكات إنتاجية وفنية بين الهيئات الثقافية والفنية الجديدة ومجموعة أم بي سي في المستقبل القريب، خاصة أن “هذه الهيئات تحتاج إلى الخبرات الفنية أثناء التأسيس وبعده”.

مواكبة التحولات

يسعى الإعلام في السعودية إلى الاجتهاد لمواكبة التحولات الكبرى التي تجري في العالم وتلك التي تشهدها السعودية على جميع الأصعدة. ويقول الصحافي السعودي غازي الحارثي إن “المملكة عملت وتعمل بشكل حثيث منذ إعلانها عن رؤيتها لعام 2030 وفرعها خطة التحول الوطني على إحداث نقلات نوعية في القطاعات الأساسية للتنمية والإعلام فهي ذراع مهم في هذا الإطار، وأخذ أهميته من أهمية هذه الخطة، كما أن ما تتعرض له المملكة في المرحلة الأخيرة أثبت الحاجة إلى العمل ليس على الرد على هذه الحملات، وإنما تغيير الطرق التقليدية السابقة في تقديم الصورتين النمطية والذهنية عنها”.

ويضيف الحارثي أن إنشاء المدينة الإعلامية في الرياض يأتي “تأكيدا على هذا التوجه باعتبار أن هذه المدينة ستضم عددا لا محدودا من المؤسسات المرئية والمسموعة والمقروءة سواء المحلية أو الخاصة، وقد نرى مكاتب لوسائل إعلام دولية كبرى، وستجذب هذه المدينة العديد من الأسماء الكبرى والمشاريع الإعلامية المهمة إلى الرياض على طريق صناعة ‘ماركة’ عالمية مسجلة باسم الرياض مثل تلك التي سُجلت بأسماء مدن عربية مجاورة مثل دبي، علاوة على كون الرياض تحظى اليوم باهتمام عالي المستوى على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي وأصبحت وجهة جاذبة للسياح والمستثمرين ويلزم هذا التغيير عمل إعلامي ممنهج يُنتظر أن تكون هذه المدينة نواته الأولى”.

ويلفت هشام الغنام، كبير الباحثين في مركز الخليج المتخصص في الاستراتيجيات والعلاقات الدولية، إلى مسألة الاحتضان القانوني المتعلق بقرار انتقال أم بي سي إلى الرياض ويعتبر أنه “أهم من الجغرافي وسينعكس هذا الاحتضان بإنشاء مقر رئيس على محتوى البث لا شك، وستكون هناك نقلة وتحول كبيران في قدرات القناة على التقاط نبض الشارع والتفاعل الأكبر مع التغيرات المجتمعية الكبرى في المملكة”.

ويرى الغنام أن “الإعلام المهاجر عموما وهو يبث من الخارج يشبه القروي الذي يقطن بالخارج وينظّر على أقاربه بأمور متخيلة ويعطيهم دروسا غير واقعية لا تمس حياتهم بشكل مباشر. هم مشغولون بهموم حياتهم اليومية والأساسية وهو يحدثهم عن فضائل الكماليات”.

وينوه الغنام “بأن التغير لن يقتصر على الأثر والمحتوى الفكري والثقافي بل سيتعداه إلى الأثر الاقتصادي وصناعة وظائف للشابات والشباب السعوديين ويمثل تطويرا للمواهب والاستفادة من الطاقات السعودية الخلاقة والمبدعة وهي كثيرة”.

ويضيف أن دبي “ستبقى مهمة لقناة أم بي سي وتبث مادة إعلامية مختلفة من الصعب منافستها في نقاط قوتها وهي كثيرة على المدى المنظور أو حتى البعيد، لكن وجود المركز في الرياض يجب أن يعطينا انطباعا أن هذا ما سيكون عليه حاضر الرياض ومستقبلها وما يجب أن تكون عليه مدينة مثل الرياض، مدينة كوزموبوليتانية ومدينة عالمية ومركزا مهما في النظام الاقتصادي العالمي والمنطقة، بل أهم مراكز المنطقة على الإطلاق لما يتوفر لها من إمكانات بشرية واقتصادية لا تتوفر لغيرها”.

تنافس بين المدن

تنقل بلومبيرغ عن مايكل بيج، وهي وكالة توظيف دولية، أنها لاحظت طفرة في عدد المديرين التنفيذيين، وخاصة في قطاع العقارات، يتطلعون إلى الانتقال إلى المملكة، حيث تتحدث عن مشاريع لمدن جديدة بأكملها يمكن أن تتفوق على مدن شهيرة كبرى في المنطقة.

ومع ذلك، وفي مقابلة في عام 2017، رفض الأمير محمد بن سلمان الحديث عن التنافس بين المدن، وقال “لا أعتقد أن هونغ كونغ أضرت بسنغافورة أو أضرت سنغافورة بهونغ كونغ (…) إنهم يخلقون طلبا جيدا حول بعضهم البعض”.

وعلى هذا يبدو منطقيا تحول الرياض إلى المدينة المركز التي باتت مساحة حتمية للإعلام كما للمستثمرين في العالم للإطلالة على كل المنطقة. وفيما تكثر الأسئلة حول قدرة العاصمة السعودية على توفير الطاقات البشرية والتي كانت توفّرها دبي لمجموعة أم بي سي، فإن المدينة باتت مستعدة في ما تختزنه من كفاءات وفي قدرتها على اجتذاب كفاءات من الخارج، لتقديم منصة جاذبة ستجعل من الرياض مدينة إعلامية كبرى لن تسهل منافستها