عدوّ للمرأة أشد شراسة..

المرأة والمستبد وحارس الكهف

شقائق الرجال في مواجهة عواصف التغيير والعنف الديني

نوري الجراح

برهنت الأحداث العاصفة التي وقعت في العراق خلال الأشهر الأخيرة، لاسيما في جوانب من تعبيراتها الثقافية، على مدى فاشية الأصولي في موقفه من المرأة. فهي ليست للشارع، لكونها ليست صنوا للرجل، وليست للمشاركة، لأنها ليست أهلا للمساواة، إنها الـ”ناقصة عقلا وديناً”، وهي في الوقت نفسه، مستودع الشرف الذي لا بد من أن يحتفظ به في ذلك الكهف المرتب النظيف الذي بناه الرجل، وجعله بلا نوافذ، وسمّاه البيت. فلا وجود لكيانها المؤنث إلا في الظل.

هذه ليست صورة استشراقية، ولكنها حقيقة سارية، فكلما وجد الأصولي مساحة أكبر تُهدى إليه، أو ينتزعها بنفسه، من منظومة الاستبداد، نجد لهذه الصورة ترجمات مبتكرة تطال كيان المرأة بأبشع السبل، وأكثرها بهيمية.

على أن العدوان على كيان المرأة، لا يعبّر عن نفسه خلال موجات العنف الموجه ضدها عندما تسود المجتمع أخلاق القطيع ويتحول المواطنون إلى ماشية طائشة في حظائر الاستبداد ومسالخه، وحسب، بل وفي تلك التداعيات المدمّرة للأسر في ظلال القلاقل والاضطرابات والانتفاضات على الاستبداد التي تندلع هنا وهناك في شرق يخضع لأشكال متعددة من السلط الغاشمة، وأشكال من الحكم القروسطي، حتى وإن تقنّعت بمظاهر العصر وأزيائه الحديثة. فالانتفاضات العادلة لم تنشب لتتمكن على الفور من إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية ونظام القيم، ولكنها صيرورة تحكمها الفوضى ومظاهر العنف، سرعان ما يتداركها الملهمون والحالمون بالتنظيم، ويوجّهونها نحو الأهداف التي تلبّي تطلعات المنتفضين.

لكن ما حدث في المشرق العربي كان شيئاً آخر، فقد انتقلت الانتفاضات السلمية، بفعل عناد النظم المستبدة إلى مستنقعات الدم والعنف الذي يردّ على السلاح بالسلاح وعلى الدم بالدم. وعندما تتلكأ الصيرورة السلمية وتفشل الانتفاضات في إنجاز ما يتطلع المنتفضون إلى إنجازه، تسفر بدورها، كما رأينا في التجارب السورية والليبية واليمنية وغيرها، عن أخطاء وخطايا وجرائم غالبا ما تطال أول ما تطال الحالمين الأنقياء والنساء معا، وكل من لم يخضع ويندرج في السوية الاجتماعية، لدولة الاستبداد وظهيرها الأصولي المتسلل إلى ساحات الاحتجاج بعقل مستبد وعين حارس للكهف.

الأصولي والمرأة

هناك مثال ساطع قدمته لنا الوقائع الأخيرة ممثلاً برجل الدين مقتدى الصدر، وهو شخصية حربائية متقلبة في المواقف السياسية، لكنها ثابتة في عدائها للمرأة، فقد طالب هذا المعمم مؤخراً بإخلاء ساحات الاحتجاج من النساء، فالساحات مكان مفتوح للتواصل، واختلاط النساء بالرجال ليس وحده الـ”حرام” في عرف رجل الدين الذي فخّخ ساحات الاحتجاج بأنصاره، وتركهم يوجهون الإهانات للفتيات انطلاقا من مفهوم وضيع لفكرة الشرف. فما هو أكثر عرضة لأن يوصف بـ”الحرام”، وينظر إليه باستهجان منقطع النظير أن ترفع المرأة صوتها “العورة” بين رجال يملؤون الساحات، وقد غادرت الكهف بإرادتها وأخذت تظهر في دائرة الاحتجاج، والتمرد على المنظومة التي ساهم الأصولي في حراستها.

ولئن كان وجود الأصولي في هذه الدائرة ضربا من الظهور “المراوغ” بفعل الحاجة إلى “الاستثمار السياسي”، فهو لن يقبل أبدا في أن تظهر المرأة في منطقة التمرد حتى لا تنتزع من هناك ما يمكن أن يشكل رصيدا لها في مستقبل تشارك في صنعه.

ما من عدوّ للمرأة أشد شراسة من المستبد سوى شريكه الأصولي، بل إنهما معا وجها عملة القمع للمجتمع، وللنساء على وجه خاص. وهذه الحقيقة لم تتوقف عن ترجمة نفسها إلى وقائع خلال موجات الاحتجاج في عقد الربيع العربي بينما هي تواجه بأمواج كاسحة من العنف. لعب الأصولي دوره الكامل في قمع انتفاضات الربيع العربي بوصفه جزءاً من منظومة الاستبداد، وكان من بين مهماته الجليلة قمع النساء. والأصوليون يملكون، مجتمعياً، القدرة على النصح والزجر وتوجيه الإهانات للكيان الأنثوي.

في المجتمع الواقع تحت الهيمنة الذكورية تتعدد أوجه قمع المرأة ومحاولات تحجيم حضورها الاجتماعي، فهو قمع مصدره الأخ والأب، وحتى الأم، قبل أن يكون المعلم ورجل المخابرات. لكن الأصولي هو كاهن العداء للمرأة لكونه يملك تفسير النص وتأويله، واستخراج الصيغ الدينية الأنسب لمحاصرتها وقمعها وإخضاعها اجتماعياً.

والواقع أن الأصولي يخشى المرأة، وتكاد أعماقه المظلمة أن ترسم لها صورة الشيطان الحبيس، وفي الأدبيات التراثية العربية، الكلاسيكية والشعبية. ولا يقتصر الأمر على كتاب “ألف ليلة وليلة”، هناك خطاب يعبّر عن الخشية الذكورية من المرأة إلى درجة الذعر. فهي في عرف هذا الخطاب كائن نمرود، صامت إنما غير مذعن، فهو خطر لأنه حبيس، ويمكن أن يفلت من الحبس الذي أجبر على الإقامة فيه. وهو، غامض وماهيته الأنثوية مربكة وعصيّة على الفهم. وهو شرير لكونه يحيك المكائد، ولا مناص بالتالي من إخضاعه للمراقبة الدائمة، ولا حاجة بي، هنا، إلى التذكير بالمظان والمراجع العربية التي تسلل إليها هذا الخطاب، وقد احتفظت به المدونة الثقافية بوصفه جزءاً أساسيا من التراث العربي. بل إن عنوان أحد المؤلفات للإمام الأبوصيري هو “الاحتراز من مكائد النسوان”.

المرأة تكتب التاريخ

الواقع أن هذه الخطابات لم تلق الاهتمام الكافي من القراءة الفاحصة والتفكيك النقدي. بل إن بعضها لم يؤخذ من قبل المدافعين عن حقوق المرأة مأخذ الجدّ. فتركت في خزائنها تتحين الفرص للانقضاض على خطاب تحرّر المرأة، وإعادة احتلال المساحة التي حررها هذا الخطاب من جسد الثقافة العربية لصالح صوت المرأة ومكانتها في الثقافة والاجتماع.

من البدهي أن المرأة في العالم العربي، لاسيما بعد قرن كامل من حركات التحرّر المجتمعي والسياسي، وعلى الرغم من الفشل الذريع في بناء دولة القانون، حققت شيئا من لائحة حقوقها. وفي السنوات العشر الأخيرة أظهرت المرأة استعدادا لمواصلة كفاحها جنبا إلى جنب مع الرجل هذه المرة، في الساحات والمواقع المتقدمة من الاحتجاجات في تونس، مصر، بداية، ثم في سوريا واليمن، والسودان والجزائر، وأخيرا في العراق ولبنان. بل

إن النساء ظهرن فاعلات متميزات في التجربتين السورية واليمنية في المواقع الأكثر خطورة، في المشافي الميدانية لساحات التظاهر أولا، ثم في المشافي الميدانية للمدن والبلدات التي أخذت تتعرض للقصف بالطيران بقصد التحطيم والإبادة.

في العقد الأخير ضربت المرأة أمثلة باهرة على قدرتها غير المحدودة على المشاركة والمخاطرة والتحمل، والتضحية بالنفس، إلى درجة جعلت من بعض النساء العربيات أيقونات حقيقية.

هناك أمثلة لا تحصى تشاركت فيها النساء مع الرجال المهمات الكبرى في لحظات كان التاريخ يكتب نفسه من خلالهن، وقد عبّرن عن ذواتهن ووجودهن المجتمعي بكفاءة منقطعة النظير، لنتذكر المدونة والمصورة والأكاديمية التونسية لينا بن مهني التي واجهت الدكتاتورية والظلاميين معا في تونس، وقضت شابة، والممثلة مي سكاف التي قالت من قلب الشارع الدمشقي في “جمهورية الصمت”، كانت تقول “لا أريد لابني أن يحكمه حافظ بشار الأسد”، معبرة عن ضمير جمعي يرفض فكرة تحويل كيان جمهوري إلى مملكة عائلية. ولنتذكر الممثلة والشاعرة فدوى سليمان التي رفعت صوتها من قلب المدينة المحطمة بالبراميل المتفجرة، منادية إلى التظاهر السلمي بالأغنية والهتاف وقصيدة الشعر. وكلتاهما مي وفدوى رحلتا عن عالمنا في المنفى الباريسي شابتين أهلكتهما الأمراض التي ضربت القلب والرأس.

الأصولي هو كاهن العداء للمرأة لكونه يملك تفسير النص وتأويله، واستخراج الصيغ الدينية الأنسب لمحاصرتها وقمعها وإخضاعها اجتماعياً

ولنتذكر السبّاحة السورية سارة مارديني التي أنقذت مع شقيقتها السباحة الأولمبية يسرى قارب مهاجرين من الغرق، وقادته براكبيه الهاربين من الموت، سباحة لثلاث ساعات في المتوسط وصولا إلى شاطئ الأمان. والفتاة اللبنانية التي واجهت بحركة رياضية بارعة من قدمها أحد حراس الوزير الفاسد الذين شهروا مسدساتهم في وجه زملائها المتظاهرين، وباتت أيقونة غرافيتية للشجاعة على جدران بيروت. ولا ننسى إسراء عبدالفتاح، التي شاركت في تأسيس حركة 6 أبريل في مصر واختارتها مجلات عربية ضمن أكثر 100 امرأة عربية تأثيرا، وكانت هي وبن مهني من بين الأسماء المرشحة لجائزة نوبل للسلام عام 2011.

ولا بد أن نشير هنا إلى المخرجة السينمائية السورية وعد الخطيب التي نالت مؤخرا أرفع جائزة سينمائية بريطانية هي “البافتا” عن فيلمها “من أجل سما” ورشح فيلمها للأوسكار، وهو فيلم مذهل يروي يوميات وعد وزوجها الطبيب المتطوع في مشفى ميداني وطفلتهما سما التي ولدت في المشفى في ظل ظروف تراجيدية.

هذه محض أمثلة معدودة على كوكبة متعاظمة من الإناث العربيات المبدعات في ميادين شتى وفي ظروف وأحوال محفوفة بالمخاطر والأهوال.

في العام 2015 ساهمت الفنانات التشكيليات العراقيات المنضويات في إطار “رابطة الفنانات التشكيليات” في تشكيل تجمع “نساء لعراق مدني” وهدف التجمع إلى “إبعاد الدين عن السياسة وإطلاق الحريات”.. لم تخضع النساء العراقيات من كاتبات وفنانات وصحافيات ومرشحات في انتخابات البرلمان وناشطات في الشأن العام لما حاول الأصوليون إملاءه على المرأة، ودفعها إلى الانسحاب من الحياة العامة، وملازمة البيت في حالة من العطالة والتعطيل، فقد قاومت المرأة كل تلك الضغوط والدعوات والتهديدات، ولم تتراجع حتى عندما وضعت أسماء الناشطات على لوائح الاغتيال وبات الموت يترصدهن.

التجربة العراقية


هناك اليوم لائحة متعاظمة من أسماء الإناث من صحافيات وفنانات ممن قضين اغتيالا بالرصاص والذبح في الشارع على أيدي جماعات مسلحة في سياق خطة مبرمجة للقتل، نذكر منهن الناشطة المشهورة سعاد العلي، والصحافية طبيبة التجميل رفيف الياسري، وقبلهن الإعلامية أطوار بهجت، ممن ذهبن ضحايا العنف الأصولي والطائفي ضد النساء العاملات في الحقل العام في العراق، وكذا اغتيال العارضة العراقية المشهورة تارة فارس، والتي لقيت مصرعها في بغداد سنة 2018 وذنبها الكبير أنها كانت محبوبة ويتابعها نحو 2.7 مليون متابع على إنستغرام، والواضح أن رشقة الرصاص التي تلقتها فارس كانت وراءها محاولة من الميليشيات الدينية للحدّ من اتساع نطاق تأثيرها في الفتيات العراقيات اللواتي أريد لهن الانزواء بعيدا في بيوت الطاعة الأبوية، لا أن ينطلقن في التعبير عن ذوات أنثوية تاقت إلى الحرية.

هناك اليوم لائحة متعاظمة من أسماء الإناث من صحافيات وفنانات ممن قضين اغتيالا بالرصاص والذبح في الشارع على أيدي جماعات مسلحة في سياق خطة مبرمجة للقتل

الإعلام الاجتماعي في العراق يحفل اليوم بأخبار وحكايات، هي وثائق لا تنتهي عن تدخل الجماعات الدينية في حياة النساء، وبالمصائر الأليمة التي آلت إليها كوكبة من أشجع النساء الناشطات في مختلف جوانب الحياة العراقية، وقد اتسع نطاق القائمة العراقية لميليشيات الموت بقصد الترهيب بالخطف والإخفاء والقتل على إثر الحركة التي وجهها الزعيم الأصولي مقتدى الصدر، عندما دعا عبر “تويتر”، المتظاهرين إلى “مراعاة القواعد الشرعية والاجتماعية وعدم اختلاط الجنسين في خيام الاعتصام”، وكان ذلك بمثابة الضوء الأخضر لأنصاره باستهداف الفتيات بقصد إرهابهن وإخراجهن من ساحات التظاهر، وهي الدعوة التي تزامنت مع وضع الإناث في مختلف ساحات التظاهر على “لائحة المسيئات إلى الواجب”، في حملة تشويه ممنهجة وغير مسبوقة عبر صفحات جلية الهوية على مواقع التواصل الاجتماعي، مارست الطعن في شرف البنات والنيل من سمعتهن اجتماعيا في محاولة يائسة لإبعادهن عن ساحات التظاهر، والهدف في النهاية كما عبّرت الفتيات العراقيات، مرارا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كان إخماد المظاهرات وإفراغ الساحات وإسكات صوت المرأة.

لا عودة إلى البيت
إن مصطلح “المسيئات إلى الواجب” إنما يضمر الكثير ضد المرأة، وما الواجب، في الخطاب الأصولي، ولدى ضحاياه من الغوغاء الذين يتبعون المتشدقين به سوى رعاية الأطفال، وخدمة الرجل في البيت، والخرس التام عن المساوئ الاجتماعية والتمييز ضد المرأة.

ويحضرني، أخيرا، في حيز الحديث عن حال المرأة العراقية، كتاب “النساء والجندر في العراق: بين بناء الأمة والتشظي” الذي وضعته بالإنجليزية الباحثة العراقية زهراء علي، ونشرته جامعة كامبريدج سنة 2018، وهو ثمرة أبحاث ميدانية قامت بها الكاتبة في بغداد وأربيل والسليمانية والنجف وكربلاء والناصرية ومناطق أخرى ما بين 2010 و2017، وتصدت فيه لجملة من القضايا التي تتعلق بحياة النساء وأوضاعهن الاجتماعية القاهرة والمزرية في ظل انفلات ذكوري جامح للميليشيات وهيمنة الخطاب الديني على مختلف أوجه الحياة العراقية.

وبالرغم من ذلك الشعور الجمعي للنساء، الذي ينقله لنا الكتاب، من أنهن واقعات في ما يشبه المصيدة الكبرى، إلا أنهن لم يستسلمن أبدا. وما نراه اليوم من حضور أنثوي في ساحات التعبير الرافض للواقعين السياسي والاجتماعي، إنما يؤكد على هذه الحقيقة ويبرهن في الوقت نفسه على نضج الوعي الاجتماعي للمرأة ودورها في معركة التغيير للخلاص من العنف الديني والاستبداد السياسي وفساد الطبقة الحاكمة وميليشياتها الخارجة على المجتمع. ولو نطق ضمير النساء العراقيات لقال لأصحاب الخطاب الأصولي: العراق هو البيت