رواية «المادة السوداء» للأميركي بليك كراوتش

ملاذ أسري من خطر الوباء

أرشيفية

وكالات

تعيد رواية «المادة السوداء» التي كتبها الروائي بليك كراوتش، عبر الاتكاء على كثير من الرموز، التأكيد على أهمية إعلاء قيمة الأسرة والبيت والعائلة في المجتمع الأميركي، وتشير إلى أنه رغم كل ما حققه من تقدم علمي، أدى إلى زحزحة وإبعاد روح الترابط والحميمية بين أفراد العائلة، فإن هناك من يتمسكون بتلك القيم ويعرفون أن خلاصهم وسعادتهم ونجاتهم من الضياع والمخاطر تكمن في التشبث بها.

وتحذر الرواية التي تدور أحداثها في أجواء سريالية غرائبية من خطر عدوى شديدة، تتشابه أعراضها وما يدور حاليا في العالم، في جائحة كورونا، حيث الحمَّى، والصداع العنيف، وألم العضلات. ولمحاصرة الوباء تنبه الشرطة عبر رسالة تبثها بالتزام المنازل، بعد أن قامت بفرض حظر التجوال، ودعت المواطنين لوضع قطع قماش حمراء وسوداء في النوافذ حال وجود مرضى في بيوتهم، وأن الحرس الوطني سوف يقوم بمتابعة سلامة كل الأحياء، وتسليم حصص الطعام، وتوفير النقل إلى مراكز السيطرة على المرض بمناطق الحجر الصحي.

تدور أحداث الرواية المنشورة عام 2016. حول حادث اختطاف عالم فيزياء كمية وأستاذ في كلية صغيرة، يدعى جيسون ديسن، قام به مجهول، تربص له، وأجبره على قيادة سيارته، وظل يصوب مسدسه إلى مؤخرة رأسه حتى ألقى به في حظيرة طائرات، بعد حقنه بعدد من الأمبولات جعلته يدخل في حالة من التشويش قبل أن يلتقطه عاملون في محطة علمية تقوم بأبحاث عن اختيارات الإنسان، تحمل اسم «فيلوسيتي»، وهناك يستعيد وعيه ويدرك أنهم يحاولون أن يلبسوه شخصية وحياة شخص آخر، فيرفض، ثم يقرر الهروب بصحبة طبيبة المحطة، ويبدأ رحلة مليئة بالمخاطر والبؤس والتشرد للعودة لأسرته.

الرواية صدرت نسختها العربية حديثاً ضمن مطبوعات دار المحروسة، وترجمها الكاتب عبد الرحيم يوسف، وتنتمي إلى الخيال العلمي، وتتكون من 15 فصلاً، وصاغها المؤلف عبر حركة عدد من الشخصيات المستمدة من عالم الفيزياء، تتشابه معه بالاسم،، لكنها لا تشبهه في القناعة بحياته، فهي شخصيات ترفض الواقع الذي تعيش فيه، ولا يعجبها الوضع الذي وصلت إليه، وتطمع في الحصول على ما في يد غيرها من ممتلكات.
وعبر حركة السرد تتفاعل أحداث الرواية، وتتحرك هذه الكائنات المتشابهة غير المحدودة، متوهمة أنها تعيش في شخصية عالم الفيزياء، المثال الهارب منها. جميعهم يبدون غير سعداء، يطمعون في حياته ووظيفته، حتى أسرته، التي كونها عبر 15 عاماً بعد أن تنازل عن طموحاته العلمية والمجد والثراء، يريدون الاستيلاء عليها أيضاً.

ولا تتشابه الشخصيات الروائية فقط، بل المدن والأماكن والفنادق والبارات أيضاً، ويظهر بعضها خرباً وبلا حياة، ينعدم فيها الإحساس بالأمان، فالمؤلف يريد أن يقول إن الخراب حينما يعم نفوس البشر يلقي بظلاله على البلاد التي يسكنونها والأماكن التي يتحركون فيها أيضاً.
ولا يوجد لهذه الحالة من الخراب التي تشيع على امتداد فصول الرواية من استثناءات سوى ريان هولدر، زميل عالم الفيزياء القديم، وهو الوحيد الذي أكمل طموحاته العلمية وحصل على جائزة مرموقة، لكنه لا يظهر في فضاء العمل القصصي إلا في مناسبتين فقط، إحداهما قبل اختطاف صديقه والثانية بعد اختفائه، وفي هذه المرة يحاول إقامة علاقة غرامية مع واحدة من شبيهات دانييلا زوجة عالم الفيزياء. شخصيات النساء تتشابه أيضاً.

في هذا العالم الملتبس الغامض تتعدد الرموز مثل الصندوق المظلم الموجود داخل مؤسسة فيلوسيتي، وهو متعدد البوابات، كل منها يذهب بمن يفتحه في طريق ويلقى به في مكان غريب لم يره من قبل، وربما قصد به المؤلف مصائر الشخص الممكنة، والتي عليه فقط أن يختار واحدة منها.

لكن كيف سارت الحياة بـ«جيسون آشلي ديسن» عالم الفيزياء الذي اكتفى بالأسرة عن سواها؟ الأحداث تقول إنه رفض ما عرض أمامه من مغريات وقرر الهروب بمساعدة «آماندا» طبيبة المحطة العلمية التي وجد نفسه بداخلها عقب اختطافه، إنه الوحيد الذي نجا من متاهة المسارات المتشابكة.

في الرواية الكثير من العناصر المفتاحية التي يمكن عبر متابعتها وتحليلها وفك ألغاز الأحداث، لكن أهمها تلك الجمل التي جاءت على لسان بطل الرواية وهو يلج حجرة الطعام: «تقع نظرتي على النجفة المكعبة رباعية الأبعاد فوق مائدة الطعام. قدمتها إلى دانييلا في عيد زواجنا العاشر. أفضل هدية على الإطلاق»، هذا هو المشهد الهام الذي يريد المؤلف من القارئ أن يثبته في بؤرة ذاكرته بمحاوره ودلالاته لفك بنية الرواية وعالمها الملتبس المراوغ والسريالي. ويعود إليه وهو يطالع القسم الثاني من حياته البطل في «فيلوسيتي»، ليشير إلى أن حياة الإنسان تتوزع في أربعة أبعاد: «ندرك محيطنا في ثلاثة أبعاد منها، لكننا لا نعيش بالفعل في عالم ثلاثي الأبعاد.

علينا أن نضيف بُعداً رابعاً لنبدأ في وصف طبيعة وجودنا، لا يضيف الضلع الرابع بُعدا مكانياً. إنما يضيف بُعداً زمنياً. وهذا هو تفسير العوالم المتعددة الذي تقدمه ميكانيكا الكم، ويفرض أن كل نسخ الواقع الممكنة موجودة. وأن كل شيء لديه إمكانية الحدوث، يحدث بالفعل. لكن في كون آخر».

أما عن تكنيك الكتابة الذي اعتمده المؤلف فقد استفاد كثيراً من كونه كاتب سيناريو، فقام بتقطيع المشاهدة، عبر تقنية المونتاج، التي زادت من حالة التشظي التي تسيطر على أجواء العمل، وقد تنوعت لغة السرد بين الراوي الواصف للأحداث، الذي يتجول في الأماكن والمدن بعين كاميرا، راصداً ما يراه، وبين ضمير المتكلم، وقد اعتمد ذلك الأسلوب، خاصة في الحالات التي يكون فيها حدثاً خاصاً بالبطل، عندها كان يترك له المؤلف مهمة الحديث عن نفسه.

المؤلف بليك كراوتش هو كاتب وسيناريست أميركي من مواليد 1978، وهو واحد من الأسماء التي ترد غالباً في قائمة أكثر الكُتَّاب مبيعاً، وصدرت روايته «المادة السوداء» عام 2016، ويعمل حالياً على تحويلها إلى سيناريو فيلم سينمائي سيتم إنتاجه قريباً.