قصة قصيرة..
مأساة ارملة
البيت غرفة واحدة ..
الضوء ينبعث من سراج واحد ..
يكاد يضئ مساحة الغرفة ..
و صمت لا يعلوه سوى الصمت ..
خمسة اجساد خاويه ، تتلوى على فراش في الارض نايمين ، مثل قناديل متوهجة ، يندفع الهواء نقيا من النافذة من ريح البحر البارده ، وهي تتوسطهم بجسدها الفارع النحيل ، مثل شجرة ذابلة هوت بها الرياح مسجية ، تحت ثوبها الاسود وطرحة سوداء يلف سواد شعرها ، الذي لم تعد تغسله منذو وفاة زوجها ، وعينان غارقتان تحتهما ظلال بقع سوداء بوجه شاحب اصفر من أثار الحزن ، كان الصمت ولاشئ غير الصمت ، يحرسها بين هذه الجدران الاربعة ..
كانا يعيشان ، في هذه الغرفة الصغيرة ، وكل شئ حدث ويحدث بسرعة ، وهو كما يحدث انه الحب ، وكما قالت صباح في اغنيتها البساطه ، البساطة في كل شئ ، وكان الحب .. وللحب سلطان الذي لاحكم عليه .. لم تعيش مثل الاميرات في أحلام القصص والروايات ، ولا مثل بطلات الافلام الا انها وجدت مالم تعشه الاميرات ، انها وجدت الحب ، والمتعة ، التى حلمت بها ، الحب الصادق في زوجها احمد ، كان زوجا مرحا وقلب نقيا طيبا ، والحب هو ما حدث بيننا ، بل اجمل ما حدث لنا ، كان جزء من كيانها ، ولكنه لم يستمر طويلا ، او لم تستمر المتعة التى اعترتها ، والشغف الذي احتواها ، حتى بعد مجئ الاطفال ، كانت راضيه ومقتنعه ، ان الزواج قد يفسد الحب احيانا ، الا أن الحال كان مستورا ، مايكسبه احمد زوجها من عمله في النجارة كان يكفيهم ، ويستر حالهم ، كان يكفيها أن تشعر بالامان ، تحت سقف بيتها وفي ظل رجل احاطها بالحب والحنان ، وكانت راضيه ولم تطمع الى رغد العيش ، أومايملكه غيرها من نعم الحياة ، لكن الحياة احيانا تتغير وتتغير معها الأشياء ، فتزيد الغني اموالا فوق ماله غنى ، وتاخذ من الفقير شهية الفاقة ، قتل احمد زوجها في معركة لا معنى لها ، حينها توقف كل شئ وتوقف العطاء ، بل اعدمو شهية الحياة والبقاء ، واعدمو البهجة ان تستمر ، انها قلوب لاتعرف الحب ، فهنيئا لنا عرفنا كيف نزرع الخوف فينا بدلا من الحب ، بعد وفاته او كما يقولون ، استشهد في حرب عابثة لا طائلة منها ، ولم تفهمها ولاتعرف معناها ، و لا متى ستنتهي ، وما الفائدة منها ، سوى الموت ، الذي اكتسح كل المدينه ، الموت الذي التهم الشباب ، شبح الموت الذي سكن كل بيت ولم يغادر ، لم تعد تستوعب ماحدث ، ولكنها تسأل نفسها كيف لفتاة في السابع والعشرين ، ان تتحمل هذا المعاناة ، وشظف العيش ، والعوز والفقر الذى اعتراها ، الذي لم تحسب له يوما ما ، دون أن يحمي ظلها رجل ..
الحرب .. انها الحرب.. من سرقت حياتها وسعادتها .. اصبح القتل حديث الصباح والمساء ، مثل تحية جارك ، يخبرك بها أن فلان قتل هذا الصباح ، لقد اصبح الارهاب اغراء وهدف للقتل ، ارهاب الناس بشبح القتل والموت ، دون سبب او شئ ، الا لجلب الخوف الذي اعترى في اعين الناس ، الخوف من كل شئ ، الخوف من القتل الخوف من الذل وانكسار النفس ومهانتها ، الخوف من الجوع من الاسعار المتزايد في ظل الحرب ، و لصوص الحرب وامراء الحرب ، الذين اعتلوا المدينة امراء يعبثون يسرفون في القتل ، وينهبون ولا يشبعون ، يخطفون اللقمة من فمك ، ثم يضعون ايديهم في جيبك ، يسرقون ولايستحون ، ثم يتكلمون عن الوطن و عن الحرية ، وانهم حراس الارض ، انهم يمارسون الضلالة في كل شئ بلا رحمه . .
غسلت وجها قبل انبلاج الصباح ، بوجه غير مشرق ، ولم تتغير ملامحه ، وهي تسمع صوت الاذان ،من المساجد المجاورة لها ، يعلن صوت الردة والجهاد . انهم يتوارثون الحرب كما يتوارثون سلالة ابائهم واجدادهم ، لم يعد القتل يوجعهم كما يوجع الثكالى والاطفال ، لم يعد الوطن يخجل منهم ، وحدها القبور من تشعر بالخجل ، حتى الرفاق القدامى الذين استباحو كل شئ في زمن التيه ، غربان تنعق من المنفى ، بأن هذه الحرب لاتعنيننا ، ولكنهم يدفعون الثمن بجثث الموتى الى المقابر ..
حضنت أطفالها الصغار بأيديها ، وضمتهم الى صدرها ، وبحسرة مكتومه وهي وتتم بكلمات في جوفها ، من سيطعم هولاء الصغار، في مدينة اصبحت محروقة ، لم تعد قابلة للعطاء ، كل شئ فيها اصبح جاف ولم تعد تنبض ، لا وجود للمنطق فيها .. انتهى فيها زمن الحب للحب ، ومامعنى الحياة ان لم يكن الحب هدفها ، مدت يدها الى ثيابه المعلقة ، مازال طيفك لم يغادر الغرفة ، وريح جسدك لازال يحكى قصص الحب ، تحت هذا النور الخافت ، قصة حب لم يمهلها القدر ان تكتمل ، حيث كنا قلبين في جسد واحد ، كما كنا في اروع مدينة ، شعبين في في وطن واحد ، لكن المدن تتغير كما تتغير أصحابها، انها كالمرايا تعكس وجوه أصحابها، هل يمكنني ان اقول لك أن كل شئ انتهى .. لا ادرى ولكن كل ذكريات الماضي ، باتت تتلمس الجراح ، كما تنهش الذئاب جسد الفريسه ، وهي خاضعة راضية لقدرها .. لم يكن اختيارها ، ان تكون فريسة ذئب ينهش جسدها .. لم يعد لكل شئ معنى .. ولم يبقئ لاحلامنا معنى ، سوى الحنين الى الماضي بذكريات مؤلمة نتوجع كلما لاحت لنا بين لحظة واخرى ..
لاحت برأسها قرب النافذة ، لترى البحر القريب من بيتها ، هاجس الطفولة ، ومرساة احلامها ، مثل السفينة التى تتهيأ للابحار ، كانت تقول البحر موطني ، كان اغنيتها المفضلة بصوت فيروز ، حين كان البحر يتنفس ، كانت تلعب فوق الرمال وتغتسل من طرشات موجاته البارده ، كما تغتسل العذارى عند نبع الغدير ، لماذا صوت البحر حزينا كئيبا ، هل يحزن البحر للثكالى ، والاطفال اليتامى ، وللتعساء الذين ورثوا العدم ..
ثم نهضت من فراشها ..
أطفأت ضوء المصباح ..
فساد الظلام في الغرفة .. فعم الصمت ..
فلم يبقئ الا الظلام.. ولاشى سوى الظلام .