تحليل عشرات النماذج القصصية من مختلف البلدان العربية..

"قَـنّاصُ الغـَرَابَة".. يلقي الضوء على إنجازات القاص العربي

تناول يحرص على تقديم القصة القصيرة العربية المعاصرة بوصفها مَشْغلا مفتوحا

محمد الحمامصي

قليلة هي الدراسات النقدية التي تتناول القصة العربية القصيرة في مختلف تجلياتها الراهنة، والتي شهدت تطورات مهمة على مستوى التشكيل وتقنيات الكتابة والرؤى الفنية والجمالية، الأمر الذي يجعل دراسة الشاعر والناقد المغربي عمر العسري "قَـنّاصُ الغـَرَابَة.. دراسة في القصة القصيرة العربية المعاصرة" ذات أهمية خاصة كونها ألقت الضوء إنجازات القاص العربي من خلال تحليل عشرات النماذج القصصية من مختلف البلدان العربية.

حلل العسري قصص "الحرباء" لأحمد يوسف عقيلة، و"كوكب تفاح وأملاح" لمحمود الريماوي، و"طعم الكرز" لأحمد المديني، و"بيت النعاس" لإدريس الخوري، و"حقول الظلال" لإلياس فركوح، و"أريج البستان في تصاريف العميان" و"مصحة الدمى- فوتوغرام حكائي" لأنيس الرافعي، و"مزيدا من الوحشة" لبسمة النسور، و"شبابيك زيانة" لبشاير حبراس، و"درس البيانو" و"كتاب الألسنة" لحسن إغلان، و"الأميرة سنو وايت" لخديجة اليونسي، و"تشبه رسوم الأطفال" و"جزيرة زرقاء" لسعيد منتسب، "الارتطام" لسمير بن علي، "سعادة السوبر ماركت" لضحى عاصي، و"حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة.. مات فيها" لطارق إمام، و"سرقات صغيرة" لطالب الرفاعي، "نوارس جيفارا" لمريم الساعدي، و"عسل النون" لمحمد رفيع، وأعمال محمد عز الدين التازي القصصية الكاملة، وقصص عبدالرحمن مجيد الربيعي، ومحمد خضير، ومحمد أحمد عثمان، ولقمان ديركي، ومحمد زفزاف، ومحمد رفيع، ووجدي الأهدل.

وأكد خلالها أن القاص العربي استطاع أن يفتح معابر بين مختلف الآفاق، جامعا بين قنص اللحظات والغوص في الجماليات، والانفتاح على الأسناد المعرفية والفنية والعلمية. وقال "إننا نلفي في هذه القصة استعدادا غير مألوف خارقًا للمعهود، فإذا بالمكونات والعناصر والمعارف والتقنيات وغيرها تتعايش في حيز نصي قصير، لا ينقل الواقع كما هو، وإنما يعيد صياغته وفق شروط تابعة لهوية كل مشغل قصصي على حدة. والنتيجة المتحصل عليها؛ قصة قصيرة مثقلة بهم التجديد، واجتراح طرق للإبداع وليدة انخراط غير مشروط مع متغيرات الحياة الحضارية. وكان الكاتب يتغيا ترتيب علاقته بالعالم في عصر يشهد انحسارا من جميع الجهات. كما أكسب تلازم القصة القصيرة وسؤال الكتابة تمثل دور الإبداع في التغيير والحث على الطرق الجديدة للتعبير، وتخليص القصة القصيرة أحيانا من بعدها السردي، وجعلها حكاية من دون مقومات، ولكن البدائل التي تبدت كانت أقرب إلى الهم الكتابي منه إلى الشغل الموضوعي. ورغم ذلك، لم تفتقد القصة القصيرة خصائصها، وإنما انصهرت في أنماط سردية جديدة تشدها وتقويها وتطوعها لبلوغ مقاصد فنية أخرى.

انطلق العسري في دراسته الصادرة عن مؤسسة أروقة على مسلمة مفادها أن أشكال البناء القصصي العربي المعاصر على وجه التخصيص، هي تنويعات وتمثلات لشكل الكتابة بخرق ثوابتها التي أرساها رواد هذا الجنس الأدبي، ومظهر لنزعة الانفلات من القيود والأعراف والتمركزات في الكتابة الأدبية المعاصرة. ولا تُخفي أيضا، محدوديتها التي ترتبط بالرهان الموجه إليها لتأسيس قاعدة قرائية تسمح بمقاربة حدود المهيمن والخافت، الذي به تتحدد بنية القصة القصيرة العربية المعاصرة. ولهذا لم يكن ممكنا التعامل مع القصة الجديدة إلا بمفهوم الكتابة الذي اخترق عدة مفاهيم؛ لأنه يرفض مفهوم الجيل، والحساسية، والجماعة الأدبية... إلخ، وإن اشترك كتاب القصة القصيرة في الانتماء إلى زمن واحد، أو تقاربت منطلقاتهم القصصية، فهذا ما يحمي كل تصور حول هذا المتن من الهشاشة المنهجية والرؤيوية المبتغاة.

ورأى العسري أنه زمنيا، مر على ميلاد القصة القصيرة العربية أكثر من قرن تقريبا، وهي فترة مهمة رافقتها طفرة مثيرة ظهر فيها العديد من الأعمال، وكتاب القصة الذين وسموا هذا الفن بميسم خاص، كان له امتداد عند بعض القاصين دون غيرهم. ثم تحول هذا الاهتمام إلى تجارب أخرى لا تقل أهمية عند المؤسسين والمؤصلين، وبقيت القصة القصيرة العربية دينامية تروم في كل تجربة وحقبة تاريخية إعادة خرق كتابة سائدة، وخلق أفق سردي جديد.

وقال "لا تؤسس الكتابة القصصية العربية لمدرسة أو اتجاه في الكتابة، بقدر ما تستنبت خصوصيات كتابية ذاتية، كما أنها لا تؤسس لصوت فردي يُعد تعبيرا متفردا يأبى على التصنيف أو الإدراج داخل نظام كتابي معين. ويبدو هذا جليا من خلال النماذج المستدعاة، والتي تنزع إلى كتابة مفارقة تستدرج أسنادا وبنيات أحيانا ما وراء سردية. فالجوهر التأليفي والكتابي الذي تستدعيه هذه النصوص أصله وعي القاص الذاتي، واشتغاله على إنجاز عمل سردي بانشغالات فنية وبشروط كتابية خاصة جدا. وهناك مسألة مهمة تلح على القاص المعاصر وتشكل هاجسا ومنطلقا له، وهي البحث عن الجديد الذي لا يكرر تجارب سابقة أو مستهلكة، بل يستشرف آفاقه الخاصة، ويرسم تفرده وتميزه.

وأشار العسري إلى أن القصة القصيرة العربية المعاصرة تبدو من خلال رؤية استقرائية، وأيضا من خلال نماذج مختارة، سؤالا مفتوحا ينطوي على قضايا متشعبة تنتظر تجريبا تأويليا يقترب من عوالمها ورهانها. ولعل هذا السؤال المفتوح يحتاج إلى بناء وتأمل جديدين يحتضنان صرخة القاص المعاصر احتضانا عالما، يؤمن بسلطة النص القصصي بوصفه المنطلق الموجه لبوصلة التلقي والتأويل، وبوصفه بنية تنطوي على دلالات متنوعة لا تقبل القراءة الواحدة. ومن ثمة، باتت الحاجة ملحّة إلى "نقد قصصي" مُنصت ومواكب يصل صداه إلى أبعد الحدود.

ولقد اتخذت الدراسة من السرد القصير نموذجا كتابيا، باعتبار أن القصة القصيرة نظام سردي مضغوط يتحرك فيه الكيف السردي وفق طرق مختلفة وأداءات متنوعة. وتبقى الغاية من هذه الدراسة استكناه خصوصيات هذا الجنس الكتابي في بعض نماذجه النصية التي أنصتنا إليها على سبيل التمثيل لا الحصر.

وحرص العسري على تقديم القصة القصيرة العربية المعاصرة بوصفها مَشْغلا مفتوحا، وسؤالا كتابيا ينطوي على قضايا ومكونات ومستويات تنتظر تجريبا نقديا قرائيا يقترب من مقاصدها قدر المستطاع. ومن ثم، فإن سعينا إلى الإسهام في بناء تصور حول مداخلها، من خلال نماذج تحرّض على الفعل القرائي والإنصات إليها. بالإضافة إلى أن القصة العربية قد ولدت لدينا قناعة بكونها متنا يحتاج إلى النظر وإعادة النظر في الممارسة الكتابية، عبر اختبار نصي ونظري.

وأوضح أنه من الصعب عقد صلات بين التجارب التي مثلنا لها في سياق التحليل، لأن الفعل الكتابي والخصوصية الجمالية تظل كامنة في تلك المنطقة المتمركزة بين الواقعي والمتخيل، وذلك لأن القصة القصيرة مشروع فردي، وهي في كل تجربة تستنبت أصولا جديدة. ولا يمثل المتن المبحوث فيه نسيجا واحدا، فكل قصة تمثل حجرة فريدة بلون وطعم مختلف، وكل نص يسرد أحداثا من وجهة شخصية معينة.

ورأى إن تعدد الأسئلة والإشكالات في راهن القصة القصيرة العربية المعاصرة قد بدا أخطر زاوية للنظر في هذا الجنس الكتابي الزلق، وهي منطقة وليدة الصلة بين الكتابة والخصوصية السردية؛ فكيف نعيد النظر في صلة القصة القصيرة بالأشكال الكتابية؟ لا شك أننا عندما قاربنا القصة القصيرة أدركنا حجم التنوع والاختلاف، وتعدد المداخل والمستويات، وتلاشي المكونات السردية أحيانا. والتفات هذا الجنس الكتابي إلى معارف غير كتابية، وحوامل بصرية قد تكون ثابتة أو متحركة. وإذا بدت القصة القصيرة العربية المعاصرة مشروعا مختلفا، كما تجلت ملامحه في تجارب موغلة في أقاصي اللحظة الإنسانية المنفلتة، و سردا في مغامرة الإبداع القصصي، فلأنها كتابة لا تبحث لها عن جذور المحكي الأول، وإنما تتقصد تجاوز النماذج منذ مغامرة التجريب إلى بلورة أساليب وأنساق مختلفة تروم الصناعة والبلاغة القصصية.

ماهي اللغة التي يتعين التحدث بها عن قصة تتجاوز اللغة والسرد؟

وخلص العسري متسائلا: ماهي اللغة التي يتعين التحدث بها عن قصة تتجاوز اللغة والسرد؟ هل نحتاج إلى إواليات عميقة تقف عند حدود البرزخ القائم بين اللغة والسرد؟ وهل تُحد تجريبية القصة القصيرة العربية المعاصرة بمدى تحققها المزدوج الكتابي والبصري؟ . وقال "أسئلة تتيح إمكانية أخرى لتحليل النص القصصي المعاصر، والتوقف عند منظوراته السردية، ومصادره التي هي في الغالب مؤسسة ببناء، ومحكومة بمنظورات وما يتصل بها من إيحاء ورمز موغل السرد في عوالم صعبة الالتقاط والإحساس".

يشار إلى أن الدراسة جاءت في ثلاثة مباحث الأول ركز على "أسئلة النقد والشكل القصصي" وذلك برصد نسبة التحقق النصي والشكلي للخطاب القصصي، سواء من زاوية التلقي النقدي، أو من جهة مفهوم الكتابة، فبينا أن في ذلك قدرا من التنافذ الناتج عن التلاقح بين اللغة السردية التي تتعامل مع الوظيفي في الأداء وفي اللغة، وبين شعرية اللغة السردية التي تتعامل مع الجوهري فيها. وهذا يظهر جليا من خلال عمليات بناء القصة القصيرة ومعماريتها. وعمل المبحث الثاني "تشظي الزمن والهوية المكانية"على الكشف عن العائدات الدلالية التي تتوفر للقصة القصيرة في حال استثمارها لبعض المكونات السردية، وتوظيفها في مجال الأداء السردي، لأنها تفتح مجال التأويل أوسع أمام فعاليات القراءة، وهي تستجلي وظيفية الأبعاد الزمنية والمكانية، وترسم جغرافيات الأحداث والشخصيات.

وبيّن المبحث الثالث "الطفولة وتمثل المألوف والغريب" كيف تدعم بعض المهيمنات داخل الخطاب القصصي اشتغال السرد وفق عملية تحديد القصد السردي من استدعاء مكون الطفولة والواقع باعتبارها شاهدا لحظيا، وتبين حدود اشتغال الرمز والإيحاء اللذين يدعمان تشكيل العالم القصصي. بينما بيّن المبحث الرابع والأخير "تحولات العجائبي وغواية التجريب" ما تمنحه القصة المعاصرة للمتلقي من خرق للبنية السردية وفتح أفقها سواء على مستوي خلق الإدهاش وخرق المعهود، أو من خلال الاشتغال على اللغة والالتفات المعرفي والانفتاح البصري.