تقارير وتحليلات
هندسة معمارية تجسد الهوية
المغرب: مراكش القديمة تلبس حللا جديدة
يعد برنامج التأهيل الحضري لأحياء المدينة القديمة لمراكش الذي انطلق في 6 يناير 2014 مشروعا طموحا يروم تثمين الإرث المعماري والثقافي لهذه الحاضرة، التي حملت على مر القرون إشعاعا تاريخيا ساهم في تشكيل تراث حضاري ذي إشعاع عالمي.
ويكتسي هذا البرنامج أهمية خاصة من أجل صيانة التراث الإنساني لهذه المدينة العريقة ورد الاعتبار لها، لجعلها قادرة على تحقيق الإشعاع الحضاري والثقافي والإنساني، وذلك من خلال ترميم المواقع التاريخية، وتحسين ظروف عيش السكان، وتطوير البنيات التحتية، وتعزيز النسيج الحضري والتقليدي للمدينة القديمة.
ويشكل تنفيذ هذا البرنامج، الذي يندرج في إطار تنفيذ المخطط التنموي “مراكش.. الحاضرة المتجددة”، آلية مثلى لتأهيل المواقع التاريخية للمدينة بشكل متناسق ومتناغم مع بنيتها العمرانية وتطوير إشعاعها بالنظر إلى موقعها كإحدى الوجهات السياحية الأكثر زيارة بالمملكة المغربية.
ويهم هذا المشروع أساسا معالجة البنايات المهددة بالانهيار، وتأهيل الأزقة والفنادق والمحال، وإعادة بناء بعض المحلات التجارية، وإعادة تهيئة الساحات العمومية، وتجديد الأسقف الخشبية، وتعزيز المدارات السياحية، وتزيين الواجهات.
حي السلام أو الملاح
من شأن إعادة تأهيل المواقع التاريخية التي خضعت للترميم في إطار الشطر الأول من مشروع التأهيل الحضري لحي “الملاح” الذي أضحى يحمل اسم “حي السلام” بالمدينة الحمراء، أن يسهم في تعزيز الجاذبية السياحية لعاصمة النخيل والنهوض بموروثها الثقافي باعتباره مكونا تراثيا وحضاريا زاخرا بعبق التاريخ.
وتجدر الإشارة إلى أن حي السلام بمراكش، الذي كان يعرف بحي “الملاح”، يعود تاريخ بنائه إلى القرن السادس عشر، في عهد الدولة السعدية، وتحديدا عهد السلطان عبدالله الغالب، الذي أمر بتجميع اليهود المغاربة بالحي المذكور.
وحسب بعض المصادر التاريخية، فإن حي الملاح بمراكش، كان ثاني حي يهودي تم إنشاؤه بالمغرب بعد الحي اليهودي بمدينة فاس، الذي أنشئ في عهد الدولة المرينية، حيث تم تجميع اليهود المراكشيين فيه، والذين كانوا يتوزعون ما بين أحياء القصبة، أسول، القصور والمواسين.
هندسة معمارية تجسد الهوية
وكان يقطن في حي الملاح أكثر من 6 آلاف يهودي مغربي، إضافة إلى المئات من اليهود الذين كانوا يتوزعون بين أحياء القصبة، قصيبة النحاس، عرصة المعارش، رياض الموخة، وحي جليز، قبل عملية الهجرة التي تمت في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي. إذ لم يتبق بحي الملاح ومحيطه سوى بضع مئات، قبل أن يتقلص العدد
حاليا إلى بضع أسر يهودية موزعة ما بين حي السلام، وجليز ومناطق متفرقة من مراكش.
وسيتم ترميم جميع المنازل والعمارات اليهودية الآيلة إلى السقوط، والرموز الدينية بالحي، خاصة البيعة (الخاصة بإقامة صلوات اليهود)، والمعارة (المقبرة اليهودية)، والبرج (مخزن للحبوب)، والفندقين العتيقين “التازي” و”صولوبان”، وإعادة بناء الحمام اليهودي المغلق حاليا، وترميم الواجهات الأساسية للحي ذات الهندسة المعمارية اليهودية.
ويأتي مشروع التأهيل الحضري لحي الملاح، أيضا في إطار المحافظة على المكون اليهودي للهوية المغربية، وهو ما يعكس قيم التسامح والانفتاح التي ميزت على الدوام المملكة المغربية.
وقال رئيس الطائفة اليهودية بمراكش والصويرة، جاكي كادوش، الأربعاء، حول إعادة التأهيل الحضري لحي الملاح، إن “الطائفة اليهودية بمراكش ونواحيها جد فخورة بالأشغال المنجزة في إطار هذا المشروع وترميم المواقع التاريخية”.
وحسب المحاور الأساسية للمشروع، فإن جميع الساحات المحيطة بالحي والمتواجدة بداخله ستتم إعادة تأهيلها، حيث سيتم ترحيل أصحاب المحلات التجارية المتواجدة بحي “القزادرية”، وتوسيع الطريق المؤدي إلى المدخل الرئيسي لحي السلام، عبر عرصة المعاش، خاصة المقطع الفاصل بين ساحة “القزادرية” وساحة سيدي أحمد الكامل، إضافة إلى تأهيل ساحة المعارة والسوق المجاور لها، مع فتح طريق يمتد من المعارة إلى قصر البديع، فضلا عن خلق فضاءات خضراء بالمنطقة.
المدينة القديمة
يتوخى مشروع “مراكش.. الحاضرة المتجددة”، الارتقاء بالمدينة القديمة إلى مستوى قطب سياحي متميز، لا سيما وأنها تتوفر على مؤهلات مهمة تجعل منها رافدا سياحيا وثقافيا قادرا على تعزيز مكانتها ضمن خارطة التراث العالمي الإنساني.
ويستهدف هذا المشروع إعادة الاعتبار لتاريخ هذه المدينة العريقة، من خلال تحقيق إشعاع اجتماعي واقتصادي وثقافي يمكن من تحسين جودة عيش سكانها، وبالتالي تحقيق التنمية المستدامة في بعدها الشامل.
أما مشاريع إعادة تأهيل المدار السياحي لعدد من الساحات التاريخية وتأهيل الفنادق العتيقة بقلب المدينة القديمة لمراكش، فتتوخى ضمان استدامة الموروث الثقافي للمدينة القديمة والمحافظة عليه وإعادة الاعتبار لتاريخها العريق والمساهمة في تثمين المواقع السياحية التي يعبرها هذا المسار.
وتتوخى هذه المشاريع التي تشكل هي الأخرى جزءا من برنامج “مراكش.. الحاضرة المتجددة”، الإسهام في الحفاظ على الطابع التراثي والمستدام للمواقع التاريخية بالمدينة العتيقة، بالنظر إلى كونها تزاوج بين صيانة الموروث الثقافي وبعث دينامية جديدة في القاعدة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية المحلية.
ويستهدف مشروع إعادة تأهيل الفنادق العتيقة، الذي يتماشى مع أهداف المبادرة المغربية للتنمية البشرية، من قبيل محاربة الهشاشة والإقصاء الاجتماعي، النهوض بالمنتوجات المحلية للصناعة التقليدية، من خلال إعادة إنعاش الحرف التقليدية وتثمينها والحفاظ على بعض المهن المهددة بالاندثار، فضلا عن الإسهام في رفع مداخيل الصناع التقليديين، وتحسين ظروف عملهم.
ومن شأن مشروع تأهيل المدار السياحي لساحة “بن يوسف” في اتجاه “جامع الفنا” مرورا عبر ساحة “بن صالح”، المساهمة في تثمين المواقع السياحية التي يعبرها هذا المسار، لا سيما المسجد والمدرسة العتيقة بن يوسف، وفنادق زنيبر، لحبابي، الخادي، زيات، سلهم، ولدعلال بقشاش، مولاي عبدالله، سلاس، مولاي حفيظ، بن عبدالله، سيدي إسحاق، بلعيد، القباج، وبن شبابة.
كما سيتيح هذا المشروع تثمين الساحات العمومية “الموقف”، و”مارستان”، و”الرحبة القديمة”، وستعرف هذه الساحات أشغال إعادة تأهيل جد هامة، وذلك طبقا لمقاربة تراثية غايتها الحفاظ على أصالتها وطابعها التاريخي. ويتعلق الأمر، أيضا، بترميم الأسقف الخشبية، وتكسية الأرضية، وتقويم أبواب الأحياء، ومعالجة مشاكلات الربط بالشبكات التقنية، والارتقاء بالمشهد الحضري، وتحديث شبكة الكهرباء العمومية وغرس نباتات وأشجار للزينة تتلاءم مع طابع المدينة القديمة.
وقالت منسقة المبادرة المغربية للتنمية البشرية، السيدة نديرة الكرماعي، “إن إعادة تأهيل الفنادق العتيقة بالمدينة القديمة لمراكش مشروع حيوي يستهدف تحسين دخل الصناع التقليديين”.
وأوضحت الكرماعي بمناسبة انطلاقة مشروع إعادة تأهيل ثلاثة فنادق عتيقة بالمدينة القديمة؛ هي “سلهم” و”الزيات” و”سيدي عبدالعزيز”، أن “هذا المشروع، سيعود بالنفع على عدد كبير من الحرفيين والصناع التقليديين، بالنظر إلى كونه سيتيح لهم الاشتغال في ظروف جيدة، سواء تعلق الأمر بظروف الإنتاج أو بالسلامة الصحية أثناء مزاولة عملهم”.
المدينة الحمراء العتيقة
وأضافت أن هذا المشروع سيمكن، أيضا، فئة الصناع التقليديين من التعريف بنشاطهم الحرفي وتسويق منتوجاتهم بشكل مباشر على نحو جيد، دون الحاجة إلى الاستعانة بالوسطاء.
يذكر أن مشروع ترميم المدينة القديمة سيعود بالنفع على 125 معلما حرفيا و300 صانع تقليدي في مهن النجارة، والحياكة، وصناعة الجلد، والنحاس.
يشار إلى أن المخطط التنموي “مراكش الحاضرة المتجددة” الذي يمتد على مدى أربع سنوات (2014 - 2017) يروم الارتقاء بالمدينة الحمراء إلى مستوى الحواضر العالمية الكبرى.
ويقوم هذا البرنامج على مقاربة مجددة وخلاقة في ما يتعلق بأفقية واندماج وتناسق التدخلات العمومية، ومواكبة النمو الحضري والديموغرافي الذي تشهده المدينة وتعزيز جاذبيتها الاقتصادية، ودعم مكانتها كقطب سياحي عالمي، وتحسين بنياتها التحتية الأجتماعية والثقافية والرياضية، وتطوير مؤشرات التنمية البشرية بها.
ويتمحور هذا البرنامج حول خمسة محاور رئيسية، هي تثمين الموروث الثقافي، وتحسين التنقل الحضري، والاندماج الحضري، وترسيخ الحكامة الجيدة، والمحافظة على البيئة.
عموما فإن ترميم المواقع التاريخية للمدينة العتيقة لمراكش، وتأهيل ساحاتها العريقة وفنادقها العتيقة، يتناغمان بشكل جلي مع الجهود الرامية إلى صيانة التراث الوطني والإنساني بكافة حواضر المملكة.