الأدب والفن
تاريخ مترابط..
رواية تؤكد علاقة مصر باليمن منذ قديم الزمان
تقول الروايات إن مواد التحنيط هي عامل مشترك بين اليمنيين والمصريين، وربما أن تلك المواد مصدرها اليمن، فإلى جانب ذلك فقد كان البخور واللبان ينقلان إلى مصر عبر الرحلات، وكانا يستخدمان في المعابد لإضفاء رائحة عطرة على الآلهة التي كانت في المعابد المنتشرة في أرجاء مصر أيام الحضارة الفرعونية.
أضف إلى ذلك الهجرات الأولى التي توالت أهمها ما بعد انهيار سد مأرب، وهنا يعبر الكثير من الصعايدة ويفخرون بأصولهم اليمنية، قليل منهم من يتحدث في ذلك من باب المجاملة.
لذا تجد العديد من اليمنيين والمصريين يسخرون من الأصوات النشاز والتغريدات التي تنبعث من هنا وهناك، ممن جبلوا على جهل التاريخ وقياس الأمور بمقياس ضيق.
شارع إيران
يلعب القدر في هذه الحياة إلى جانب الصدفة أدوارًا بطولية في أوقات كثيرة، ففي لحظات عصيبة تتجسد هذه الأدوار لتصل إلى ذروة المشهد الأخير.
فعلى أحد الأرصفة وأمام أقدم المطاعم اليمنية، يجتمع اليمنيون من كل الأطياف، هنا في "شارع إيران" بالقاهرة، وكأن القدر يقول "المنحوس منحوس"، لكن ذلك لا يبدو غريباً ولا ملفتاً، فالشارع يتسع للجميع؛ ولا وجود لإيران هنا على الأرض أبدًا، إلا بما خلفته مليشياتها من أوجاع: جرحى، ومعاقين، ومشردين، ومهجرين، سواءً أكانوا سياسيين أم فنانين أم أدباء ومثقفين ورجال أعمال وعسكريين، وأطباء، وآخرين وجدوا أنفسهم فجأة أمام غول كبير ومخيف على كل الأصعدة فقرروا الرحيل.
في كل تلك الجروح يتوحد اليمنيون، ومن كل مناطق ومدن اليمن ستجد هنا في القاهرة صوتاً ووجهاً وأمنية.
الأم في حدقات العيون
اليمنيون على كثافتهم ملتزمون بقوانين البلد، ويكنون لمصر كل الحب والتقدير، يظهر ذلك ليس من تاريخ العلاقة بين البلدين وحسب، وإنما من الانسجام والاختلاط مع الشعب المصري، هناك حالات فردية نادرة أو تجاوزات تحدث هنا أو هناك لا يمكن قياسها على البقية.
كما أن أي دعوة لزعزعة الأمن في هذا البلد من أصوات النشاز اليمنية المعروف توجهها تقابل بالرفض والاستهجان، فمثل هؤلاء المغردين الذين لم يلتفتوا لضياع بلد فيه 30 مليون نسمة فإنهم لن يأبهوا بأن القاهرة وبقية مدن مصر فيها أكثر من مليون يمني.
وقد أظهرت بعض التصريحات غير المسؤولة والساذجة مدى غباء هؤلاء الذين لم يعوا الدرس بعد، والذين تم برمجة عقولهم وأفكارهم وأصواتهم أيضا على أثير واحد هو أثير الإخوان وتركيا وقطر.
الكثير هنا في مصر من اليمنيين يدركون ويعرفون أهمية هذا البلد وعمقه الاستراتيجي والحضاري، وموقعه الريادي، وتاريخه السياسي والفني والأدبي، والتنوع الرهيب داخل المجتمع، وإدراك المصريين لحجم المؤامرة وحجم الدسائس التي تحاك، وتربص الآخرين وحساسية الصراع العربي الإسرائيلي.
الجميع أيضاً مطلع على الإعلام الذي أصبح خدعة وصانعاً للحدث أكثر منه إظهار الحقيقة، لكن بالمقابل لدى المصريين أدواتهم ومؤسساتهم التي تستطيع الوقوف أمام كل هذا الغثاء، ومواجهة كل تلك الفقاعات من خلال منظومة ومؤسسات متكاملة ومتماسكة.
البحث عن هوية
ليست المأكولات اليمنية وحدها من تأتي بهؤلاء إلى هذا الشارع الممتد على مد النظر، بقدر ما هو بحث عن هوية جامعة، عن وطن مصغر يذكرهم بما فقدوه ذات نزوات حرب وصراعات مريرة.
أيضا تبادل النظرات وتشابه الوجوه، أو كما يقول البردوني "يعرف اليمني في تلفته"، فاليمني يريد أن يرى ما فقده كله هنا في هذه الأماكن. لذا تعتبر منطقة الدقي وشارع إيران وشارع مصدق جزءاً من هذه المنطقة وملتقى اليمنيين من كل الأعمار والأنواع.
ففي المنطقة مجموعة مطاعم تمثل نموذجاً مصغراً أو كوكتيلاً للوحة فنية تقدم عشرات المأكولات الشعبية والتقليدية، حيث يجد الوافد نفسه أمام سباق حميمي وتنافس كبير في اصطياد الزبائن والتميز.
في مربع صغير تجد المطعم اليمني، وكافتيريا الريان، والرومانسية، وخطوة، والبيت اليمني، والزيني الشيباني، وباب اليمن، ووليمة، ومطاعم الكباب والعصيد، وخبز الطاوة، ومحلات البهارات، كل شيء هنا يقول بأنك في اليمن ما عدا اسم المكان.
إيران.. تاريخ شائك
الشارع يبدو مألوفاً، فهو جزء من منطقة الدقي، أشهر الأحياء وأقدمها وكانت الأرقى بداية إنشاء القاهرة الحديثة، فإلى جانب شارع إيران يوجد شارع مواز له اسمه شارع مصدق، وللشارعين قصص وحكايات انعكست على السياسة وتوتراتها، هذا إن دل على شيء فإنما يدل على تاريخ العلاقات الإيرانية "الشائكة" بينها وبين دول المنطقة والعرب عموما من أقصاه إلى أقصاه.
وقد شهدت فترة السبعينيات والثمانينات والتسعينات خلافات شديدة بين العرب وإيران لنفس الأسباب التي تحدث اليوم، انعكس ذلك الصراع حتى على تسمية الشوارع، ولم تفلح محاولات التهدئة ففي كل مرة يحدث التقارب سرعان ما تعود العلاقات إلى التوتر والتدهور.
اليوم إيران تعبث في جزء كبير من المنطقة العربية، ولو أتيحت لها فرصة لعبثت ولعبت دون تحفظ في جميع البلدان بأدواتها وأذرعها العقائدية التي زرعتها في كثير من الدول العربية والإسلامية.
حي الدقي
حين تكون في ناصية المكان يبدو الأمر طبيعياً، حتى يقبل جريح على عكاز، أو آخر فوق عربة وقد تداخلت أسياخ الحديد في ساقيه، أو شاب بلا يدين، ستجد وجوهاً من كل الأطياف والأعمار والألوان، وحينها فإن معظم القرائن سوف تشير ناحية إيران وذراعها الأول والأخطر في الجزيرة العربية والخليج أنصار الله "الحوثيين".
بعض ضحايا الطيران أيضاً موجودون على هذه الأرض، كثير من الجرحى يتلقون عناية خاصة، لكن البعض يشكون من إهمال الجهات المعنية بهم.
جلسات سياسية فنية
لا تخلو الجلسة في باحة المطعم من الخوض في السياسة وأوضاع البلد، يصاحب ذلك عوادون وعازفون، فبصوته الهادئ يدندن الرائع (محمد شبيلي) أحد أبناء تهامة الطيبين، يغني الأغاني القديمة لفريد الأطرش وعبد الحليم وسيد درويش وفيروز، (محمد الهجام) الطائر الأسمر مهاجر آخر من أبناء تهامة التي عبث بها غزاة الكهف، وأشبعوا أرضها فسادا وألغاما وضحايا، فهو يجيد اللون الصنعاني واللحجي والحضرمي، حيث يتنقل بين الحارثي والسنيدار والآنسي والسمه وأيوب طارش عبسي ومحمد سعد عبد الله والمرشدي وفيصل علوي والقمندان وأبو بكر ثم ينتقل شرقا نحو الخليج.
يلتقي الجرحى الجدد بالقدامى، والمحاربين الكبار بشباب في سن الزهور، أحدهم فقد ساقيه والآخر أصيب في عموده الفقري، وثالث أصيب في رأسه وفقد صوته، وآخر فقد سمعه، وآخر بصره، وهناك من يعيش بنصف جمجمة أو مشلول منذ سنوات ولا فائدة من عودته للحياة الطبيعية.
في شارع إيران يلتقي اليمنيون، صاحب المطعم هو علي صالح العيسي، وهو أول من بعث الروح في هذا الشارع حتى صار اليوم مزاراً، هو من يافع يظهر من وقت لآخر مسروراً بهذه التجمعات في ظل منافسة كبيرة مع خمسة مطاعم على الأقل في الجوار، له علاقة طيبة مع الجميع، وهو رئيس الجالية اليمنية في القاهرة.
الوطن البديل
في عاصمة كالقاهرة لا شيء غير الجرحى من يعبرون بصدق، ويعكسون وجع البلاد الذي طال، وهناك أناس تقطعت بهم السبل يعكسون بؤس الغربة، ووجع استمرار الصراع بلا أفق، وبجاحة المليشيا في المضي قُدماً نحو التخلص من شعب بأكمله.
في شارع إيران بالقاهرة أو في جزء بسيط منه يتوافد اليمنيون لتناول وجبات الطعام وشراء حاجياتهم من البهارات وبعض المواد التي تذكرهم باليمن، مثل بسكويت ماري وأبو ولد، سمن القمرية، تونة الغويزي والراقي، بعض المعلبات من البقوليات مثل فاصوليا الهنا، حلبة الرجوي، حمر "تمر هندي"، حليب بيبي، وحليب الممتاز، وسمن القمرية.
اليمني لا يتخلى بسهولة عن هويته التي تتجسد في الشكليات فما بالك بالهوية الوطنية، هكذا تقول الشواهد، سيبعث اليمني من جديد وسينتصر رغماً عن أنف الكهف وإيران.