الأدب والفن
الفيلم دعوة إلى التفاؤل..
يوم جميل في الحي يختتم مهرجان روتردام السينمائي
فلسفة خاصة ذات طابع أخلاقي
تختتم مساء السبت الدورة التاسعة والأربعون من مهرجان روتردام السينمائي بالفيلم الأميركي “يوم جميل في الحي” للمخرجة مارييل هيللر وبطولة النجم توم هانكس.
"يوم جميل في الحي" A Beautiful Day in the Neighborhood للمخرجة مارييل هيللر، أحد تلك الأفلام التي يتوق لمشاهدتها الجمهور من الكبار والصغار، وتجعل الجميع يخرجون بعدها أكثر إحساسا بجمال الدنيا وبأن فيها ما يستحق أن نعيش من أجله، وأننا يجب أن نتخلص من شعورنا بمرارات الماضي إذا استطعنا مواجهة الذات بشجاعة.
الفيلم يعتمد على تفاصيل وردت في مقال نشر في مجلة “اسكواير” الأميركية عام 1998 بعنوان “هل يمكن القول.. إنك بطل”. والفيلم يقوم على العلاقة التي ستنشأ بين كاتب المقال الذي يمنحه الفيلم اسم لويد، وبين مقدّم برامج الأطفال الأسطوري الشهير فريد روجرز الذي كان يشغل اهتمام الملايين من الأطفال (بل والكبار أيضا) في عموم الولايات المتحدة، طوال الفترة من أواخر الستينات حتى بداية الألفية الثالثة.
وقد عرف روجرز مبتكر سلسلة برامج “حي مستر روجرز” التي كان يقدّمها للأطفال بعد الظهر، أي بعد عودتهم من المدرسة، بتناول الكثير من القضايا والمواضيع الشائكة التي تعتبر “غير مألوفة” أو ليس من المستحب طرحها على الأطفال مثل ما يتعلق بالموت والطلاق والقتل والغيرة والمنافسة بين الأشقاء، وما يشعر به الأطفال عند مجيء طفل جديد في العائلة، وغير ذلك، ولكن من خلال أسلوبه الخاص الذي يتميز بالرقة والبساطة والصدق وكأنه يعبر عمّا يشعر به شخصيا، وكأنه لا يزال طفلا، يحلم ويتأمل ويندهش.
كان روجرز يكتب ويقدّم برامجه، يؤلف الأغاني ويغني ويعزف على البيانو. وكان صاحب فلسفة خاصة ذات طابع أخلاقي، تتلخص في أننا لا يجب أن نشغل الأطفال دائما بما يجب أن يصبحوا عليه في المستقبل، بل أن نتركهم لأنفسهم ليكونوا أنفسهم فقط من دون ممارسة أي ضغوط نفسية عليهم. وهو يردّد في الفيلم أن الكبار يريدون قولبة الصغار ودفعهم دفعا ليصبحوا مستقبلا كما يريدهم المجتمع، قوة استهلاكية.
جوهر الدراما
ليس من الممكن تخيل فيلم “يوم جميل في الحي” دون وجود الممثل الشهير توم هانكس الذي يعيش داخل جلد الشخصية ولا يؤدي الدور من الخارج، بل يمنح نفسه له ويترك ذاته تعبر عن مكنونها، ويكشف عن مشاعره من خلال تلك الشخصية المليئة بالعاطفة، ومن خلال نغمة صوته الرتيب الهادئ، وابتسامته الواثقة التي تمنح الطرف الآخر أي لويد وهو جالس أمامه، الثقة بالنفس ليفتح صدره له. وهذا الجانب تحديدا هو المدخل الحقيقي إلى جوهر دراما الفيلم.
صحيح أن لدينا مستر روجرز، وبرامجه التي يُعاد تجسيدها في الفيلم ببراعة من خلال نفس ما كانت تظهر عليه من ديكورات داخلية، وحركة أمام الكاميرا، واستخدام الأغاني التي اشتهر بها روجرز، واستعادة النماذج العديدة للدمى التي كانت تظهر في البرنامج وكان يقلّدها بصوته، يخاطبها وتخاطبه، مع اختيار الألوان المباشرة البسيطة التي تبدو مثل ألوان الماء التي تتميز بها رسوم الأطفال.
رغم ذلك فشخصية فريد روجرز ليست هي أساس الدراما في الفيلم. صحيح أن دوره بارز وأساسي، ولكن في المقابل، هناك شخصية لويد الصحافي الشاب اللامع في مجلة “اسكواير” المعروف بكتاباته الانتقادية اللاذعة التي تمس الشخصيات العامة.
روجرز كان يردد في الفيلم أن الكبار يريدون قولبة الصغار ودفعهم ليصبحوا مستقبلا كما يريدهم المجتمع، قوة استهلاكية
وعندما يُكلف بكتابة “بروفيل” عن شخصية روجرز لا يتحمّس كثيرا، ولكنه يذهب على مضض إلى الأستوديو الذي يقدّم النجم فيه برنامجه الشهير لإجراء مقابلة معه قد تساعده على تكوين صورة أكثر دقة عنه لمساعدته في كتابة المقال المطلوب.
يستغرق الأمر بعض الوقت، زيارتين أو أكثر، إلى أن يجلس الاثنان معا وجها لوجه، وحينها ستنقلب الأدوار، فبدلا من أن يكون لويد هو الذي يوجه الأسئلة، يجد نفسه في مرمى نيران أسئلة روجرز. إنه يسعى بكل رقة وكياسة إلى أن يدفع لويد للتعبير عمّا يقلقه ويزعجه ويسبّب له الشعور بالكآبة والإحباط والتشاؤم والغضب.
نحن نعرف من البداية أن لويد متزوج من امرأة طيبة القلب أنجبت له طفلا مازال رضيعا، لكن لويد يعاني من آثار علاقة شائكة مضطربة مع والده. أما الوالد جيري فهو يطارد لويد، يريد أن يتحدّث معه من أجل تصفية الماضي، ولكن الماضي راسخ في ذاكرته. فقد تخلى الأب عن ابنه وابنته (شقيقة لويد التي تتزوج زوجها الثالث في بداية الفيلم)، أثناء وجود الأم على فراش المرض في انتظار النهاية المحتمة.
نهاية سعيدة
روجرز سوف يساعد لويد على التخلّص من شعوره بالغضب والمرارة، ويستخرج من داخله القدرة على الغفران والفهم والتسامح، خاصة عندما يصبح الأب نفسه في انتظار نهاية رحلته في الحياة. كما يؤكد الفيلم على أهمية العائلة والحفاظ على الروابط العائلية والتضحية من أجل شريك الحياة، وينتهي نهاية تدخل السعادة على قلوب الملايين من المشاهدين الذين يعشقون هذا النوع من الأفلام البسيطة التي تفيض بالمشاعر.
يكشف الفيلم أن روجرز ليس قديسا كما يتخيل الآخرون، وليس شخصا مثاليا، فهو على سبيل المثال لم ينجح تماما في علاقته بابنيه، وكما تقول زوجته للويد فهو أيضا “يفقد أعصابه أحيانا وينفعل”، ولكنه يتمكن من إبراز الجانب الأصيل في الإنسان الذي يراه في “طفولته”، لذلك يصرّ على أن يحدّثه لويد عن لعبته المفضلة في طفولته، وكيف كان يراها ويتعامل معها. وكلها تفاصيل قد تحيّر المشاهدين ولكنها تصبح مفهومة عندما ندرك أن فلسفة روجرز تتلخص في أننا جميعا أطفال ونظل أطفالا مهما كبرنا.
الفيلم مصنوع بمهارة ورقة، باستخدام الموسيقى والغناء والتعليق من خلال كلمات الأغاني على المواقف المختلفة، مع تغيير حجم الصورة من المقاس الذي كان يحصرها كما كانت تظهر عبر شرائط الفيديو على شاشات التلفزيون شبه المربعة في التسعينات، إلى الصور المستطيلة التي نعرفها في السينما اليوم. كما يعتمد السرد على التداعي الحر الذي ينطلق من ذاكرة لويد، في استعادته لحظات من الأيام الأخيرة في حياة أمه وهي على فراش الموت.
لا شك أن توم هانكس تفوّق كثيرا في أداء دور روجرز بحيث ضمن ترشيحه لجائزة أفضل ممثل في مسابقة “الأوسكار” التي ستعلن نتائجها في التاسع من فبراير الجاري، يوازيه تفوق الممثل ماتيو ريس في دور لويد الذي ينجح في التعبير عن الحزن والكآبة والقلق والتوتر من خلال نظرات التشكّك والريبة وعدم الارتياح التي ترتسم على وجهه، ورغم ذلك يمكننا أيضا أن نكتشف أنه يريد أن يخرج ما في داخله وأن يزيح عن كاهله ذلك العبء النفسي المدمر الذي يحول بينه وبين التطلع إلى ما يوجد في الحياة من أسباب كثيرة للعيش والابتهاج.