الأدب والفن

"شاعر سوري"..

نزار قباني لو امتد العمر به هل كان سيبقى أسطورة؟

معظم شعراء اليوم يقولون ما لا يصلح أن يصبح فعلا

حسونة المصباحي

الدكتور عبدالعزيز قاسم شاعر وناثر تونسي من طراز رفيع، وهو كذلك ناقد مرموق، وأكاديمي لامع درّس في الجامعة التونسية وفي العديد من الجامعات الأوروبية. كما تقلد مناصب رفيعة، فكان مديرا للإذاعة والتلفزة التونسية، ومديرا للمكتبة الوطنية، ومستشارا لدى الوزارة الأولى وغيرها. وله مؤلفات باللغتين الفرنسية والعربية. “العرب” كان لها هذا الحوار مع عبدالعزيز قاسم حول الواقع الثقافي والحضاري اليوم في تونس والعالم العربي.

الحقيقة أن الجلوس إلى الدكتور عبدالعزيز قاسم متعة لا تضاهيها متعة. فالرجل ليس أنيقا في لباسه فقط، وإنما هو أنيق أيضا في كل كلمة ينطق بها، فلا ينتقي إلاّ ما هو مفيد ومعبر وبليغ. ثم إنه ملم بالتاريخ التونسي المعاصر فلا يكاد يفوته منه أيّ شيء. ويعود ذلك إلى أنه عايش أحداثه الصغيرة والكبيرة عن كثب، وكان فاعلا في جلها. كما أنه كان قريبا من كبار الشخصيات السياسية والفكرية والثقافية بحكم المناصب التي شغلها على مدى خمسين عاما.

وخلال السنوات الماضية، دأب الدكتور عبدالعزيز قاسم على كتابة مقالات عن الوضع السياسي والثقافي في تونس، منبها النخب التونسية بجميع تياراتها إلى المخاطر التي تتهدد تونس في هذا الزمن العصيب الذي استفحلت فيه الفوضى، والرداءة على جميع المستويات.

كورونا والتغيير

نبدأ حديثنا مع الدكتور عبدالعزيز حول عزلة الكورونا، كيف يعيشها وماذا يقرأ أو يكتب خلالها. ويقول “أقرأ وأكتب بالتأكيد. أقرأ قبل كل شيء ‘أدب الكورونا‘. لا حديث في وسائل الإعلام والتواصل كلها إلا عن الوباء فلا مناص من قراءة ما يكتب. وأكثره لخبطة وتناقض. ولا أتحدث هنا عما يقوله العوام بل العلماء والأطباء أنفسهم وكأن أهل الذكر قد فوجئوا تماما وكأن الفايروس قد نزل من المريخ ولم يخرج من مختبراتهم. ولكن مثلي يجد لنفسه، ولحسن الحظ، مطالعات أخرى. وقد تكون الصورة المتبادرة لذهني الآن مجازية ولكنها في الواقع تعبر عن حالتي النفسية”.

ويضيف “أنا طوال حياتي المهنية، في مجال التدريس والإعلام وعبر إسهام فكري مكثف محليا وخارجيا، مشغول عن حياتي الداخلية وعن إنتاجي. كنت أختلس الوقت اختلاسا وتحت وطأة إلحاح الإبداع لأكتب قصيدة وما شابه. فأنا شاعر، أساسا، اختطفتني إدارة الشأن الثقافي واهتمامات سياسية اضطلعت بها مكرها. ولكن الحجر الصحي فرض عليّ خلوة طالما تهيبتها مع الذات. وأنا اليوم أعيش، بعمق، مقولة الشاعر بول فاليري ‘يجب على المرء أن يدخل ذاته مدججا بالسلاح‘. ولكني مدرب على الحوار والمفاوضات. من الناحية العملية أقرأ المؤجل من الكتب التي تنتظر على طاولة الفراش وأعيد قراءة الروائع من شعر ونثر. وألمّ المخطوط من أوراقي المبعثرة وأراجعها بنية إعدادها للنشر. ولقد خصصت الشعر بحيز لا يستهان به من وقتي”.

تونس انخرطت منذ البداية في النهضة العربية لكن اليوم بسبب الديمقراطية المغشوشة تسلل أعداء الحداثة والحريات الفكرية

بحسب بعض الخبراء والمفكرين قد يفضي وباء كورونا العالمي إلى تحولات كبيرة على أصعدة متعددة، نسأل قاسم حول رؤيته لهذه التحولات، فيجيبنا “كل المفكرين في مجالي الاقتصاد والاجتماع يقولون إن ما بعد الوباء لن يكون كالذي قبله. فنحن نعيش تجربة شمولية قصوى لم تعش مثلها أجيالنا الحية. كل البشر في الهوى سواء والعالم أصبح بالفعل قرية. مرة أخرى يتبين أن الإنسان الذي غزا الفضاء وبدأ يستعمر القمر ونفذ إلى أسرار ما كان له أن يعرفها أصبح شريكا في الألوهة دون أن يصبح إنسانا سويا. وإني لأحس بأن الأنفس، حتى عند الكبار، أصغر مما كنت أتوقع. ستتغير، حتما، أشياء كثيرة. وليس بالضرورة في الاتجاه الصحيح”.

ويتابع “لن تمس هذه التغييرات خساسات الإنسان. أنا لا أصدق أن السيد دونالد ترامب، مثلا، سيصبح أرجح عقلا وأقل تهورا في علاقاته الدولية. كما أني لا أتصور أن القتلة سيصبحون ملائكة، ولا أن بعض العرب سيستبدلون روح الخيانة والتخاذل بقيم الحمية والشرف، ولا أن الإسلام السياسي سينفتح على الفلسفة والعلوم الإنسانية ولا حتى على المتنبي، ولا أن الذين يعزون الأوبئة إلى الغضب الإلهي داعين إلى التوبة وكثرة الدعاء سيدركون ارتباط النتيجة بالسبب. في المقابل، لا أفقد الأمل في أن قواعد العولمة المشؤومة ستتغير وربما قويت منزلة روسيا الاتحادية والصين في مواجهة الغول الأميركي الذي لم يعد له ما يقدم للبشرية عدا الغطرسة والاستهتار بكل القيم المتعارفة، ربما انكفأت سلطة الدولار، ربما اضطرت الرأسمالية إلى أن تستحي قليلا. وهذه بالطبع تطورات إيجابية بالإمكان أن تحدث وأن تعود بالفائدة على الجميع. كل ما نتمناه أن تصبح القوة الناعمة بديلا عن وسائل الدمار”.

وعلى صعيد اجتماعي وفني وأدبي، يتساءل قاسم في شيء من القلق حول حميمية العلاقات البشرية في مستوى الأفراد. فلقد تأكد أن الإنسان حمّال جراثيم، فهل انتهى زمن الحفاوة والعناق والتباوس؟ هل سيخرج الحب خاسرا من هذه المحنة؟

الحداثة في خطر

قال الدكتور قاسم ذات مرة “قرن ونصف من التنوير التونسي تبخر فجأة” نسأله ماذا يعني بذلك؟ وكيف يفسر الردة التي نعيشها راهنا على المستوى السياسي والثقافي والديني؟

مرجعية التنوير هي عصر النهضة الذي يشمل المشرق والمغرب العربيين، وهما ما أسميه الجزء المفيد أو القابل للاستثمار الثقافي والاقتصادي في الوطن العربي. وقبل الحديث عن إسهام تونس يجب أن نذكر أن العالم العربي أدرك باكرا أن همومه مشتركة متداخلة: عصور انحطاط واحدة، استعمار عثماني متخلف واحد، استعمار أوروبي استغلاليّ واحد، ظلامية دينية واحدة. هناك من يشتم هجمات الدخلاء دونما تمييز، متناسيا أننا كنا في حالة قابلية للغزو. والحقيقة، وبصرف النظر عن الوطنيات المراهقة التقليدية، فإن حملة بونابارت على مصر، نهاية القرن الثامن عشر، تختلف تماما عن غيرها من الحملات. فالرجل جاء إلى مصر ليقطع الطريق عن الاستعمار البريطاني المُجهّل وجاء مصحوبا بجيش من العلماء من مختلف الاختصاصات ثم إن الحملة لم تدم إلا ثلاث سنوات، طرفة عين بالنسبة إلى التاريخ، مثلت بالنسبة إلى الشعب المصري وبالتالي إلى الشعب العربي أكبر صدمة ثقافية قبل قرون”.

ويتابع “عاد الغازي إلى فرنسا وخلف مؤسسات وأسئلة كبيرة لم نتوصل إلى الآن إلى طرحها طرحا صحيحا. كان ذلك أول لقاء بين العرب والغرب بعد سقوط الأندلس، الغرب اللاتيني الذي لنا معه مد وجزر عبر الأزمنة، فرنسا الثورة بالذات. كانت الأسئلة البديهية التي طرحت نفسها بقوة، بصرف النظر عن الجانب الأخلاقي، هي: من أين لهؤلاء ‘الكفار‘ بكل هذه القوة؟ بكل هذه العلوم وتقنيات التحكم في الطبيعة؟ لماذا تخلفنا؟ وهل من سبيل إلى تدارك ما فات؟ كان الرأي السائد منقسما إلى وجهتين آنذاك. هناك من رأى أن العودة إلى المنابع والأصول الحضارية هي الكفيلة بتجديد عصورنا الذهبية وهناك من رأى أن الأخذ بأسباب القوة لا يتأتى من الماضي أيا كانت إشراقته فلا غضاضة في الذهاب إلى دار الكفر للارتواء مباشرة من منابع المعرفة ولقد جاء في الأثر ‘اطلبوا العلم ولو في الصين‘. وكان أن أرسل محمد علي أول بعثة طالبية إلى فرنسا احتضنها العلماء الذين رافقوا الحملة البونابرتية العابرة”.

وبالعودة إلى السؤال في ما يتعلق بتونس، لا بد من الإشارة إلى أنها انخرطت منذ البداية، على غرار بلاد الشام وبلاد الرافدين كعنصر نشط في عصر النهضة العربية. يذكر قاسم أن رجال الإصلاح كثر ومنهم في القرن التاسع عشر الشيخ محمود قابادو (1812 – 1872) وكان معاصرا لرفاعة الطهطاوي وله خبر بأعماله ودعا هو أيضا إلى الاقتباس من الحضارة الأوروبية، ومحمد بيرم الخامس (1840 – 1889) الذي توفي بالقاهرة وفي ذلك دليل على وثوق صلته بالحركة الإصلاحية في مصر، وخيرالدين التونسي (1823 – 1890) وهو الذي أنشأ معهد الصادقية الشهير الذي احتضن العلوم الحديثة ومنه تخرجت نخب تونسية نشرت الوعي والمعرفة بين الناس. وفي القرن العشرين تواصلت حركة الإصلاح على يد رجالات الحركة الوطنية التحريرية وعلى رأسهم الشيخ عبدالعزيز الثعالبي والحبيب بورقيبة. وكما هو الحال في كافة أنحاء المشرق والمغرب بشر المصلح الطاهر الحداد بضرورة تحرير المرأة وفكها من براثن الفقهاء. ونستطيع أن نؤكد أن البند الأول من مشروع الإصلاح العربي هو النهوض بالمرأة وهو ما توفق إلى تحقيقه الرئيس بورقيبة بالقانون عبر سنه لمجلة الأحوال الشخصية وإقراره لإجبارية تعليم المرأة.

ويضيف “كان لا بد من هذه المقدمة الموجهة للقراء الشبان ليفهموا ما كنا فيه وما سعينا لإنجازه ولماذا انتكسنا. نحن نتباهى بأننا ثرنا على الاستبداد وهذا صحيح وأرسينا أسس الديمقراطية، ولكنها ديمقراطية مغشوشة فعن طريق صناديق الاقتراع تسلل أعداء الحداثة والحريات الفكرية وأستطيع أن أؤكد أننا تراجعنا عما كنا فيه من تقدم. ما زالت القوانين جارية ولكن المرأة التونسية أجبرت على التنازل عن كثير من حقوقها المعنوية. لقد تعطلت المسيرة نحو الحرية والتقدم. في العقود السابقة كانت حواراتنا تحوم حول التنمية والإقلاع. اليوم شغلنا الشاغل هو ثنائية الحلال والحرام أو الخلافة وعورة المرأة. لقد أجهضت النهضة أو أنها أصبحت قابلة للإجهاض غداة أسس حسن البنا جمعية الإخوان المسلمين ولم تستطع العلمانية العربية تحصين المشروع بدروع عقلانية قوية”.

عبدالعزيز قاسم شاعر، نسأله ما هي مهمة الشاعر راهنا فيقول “معظم شعراء اليوم يقولون ما لا يصلح أن يصبح فعلا. نزار قباني آخر شاعر جماهيري. وأعتقد أنه لو امتد به العمر لتقلص أثره وتأثيره. لم يعد باستطاعة الشعراء تحريك الجماهير. والمسؤولية لا تقع على عاتق الشاعر وحده. فالجموع أصبحت عصية على التعبئة خارج الإطار الظلامي. يضاف إلى ذلك غياب الخطباء ذوي الكاريزما الذين كانوا يتقنون فن الكلمة. ضرب العِيُّ أطنابه واستوى عند الناس باقل وقس بن ساعدة. إن شاعرا كبيرا كأدونيس ما زال يحتفظ بموقعه بسبب مواقفه الفكرية التقدمية في نثره أكثر من شعره. الظاهرة مع الأسف عالمية. ولكن وقعها أشد إيلاما بالنسبة إلينا نحن العرب أحفاد المتنبي والمعري. ولكني لا أيأس من عودة الوعي ويقظة حاسة الذوق وحس الجمال. لذلك أستمر في كتابة الشعر وأومن بما قال الشاعر: وصحيحٌ أني ناظمُ أشعارْ/ بالشِّعْرَى تربطني أسطورةُ حسنِ جوارْ/ أتحدَّى جهلَ العصْر وفي نظري من ليس يحبُّ الشعرَ حمارْ”.

ترامب في السعودية: استثمارات تاريخية وتحول في سياسة الشرق الأوسط


الولايات المتحدة ترفع العقوبات عن سوريا: خطوة نحو إعادة الإعمار والاستقرار


الكونغرس الأمريكي يصوت لصالح دعم الديمقراطية في إيران وإدانة قمع الملالي


القمم الخليجية-الأمريكية: تنسيق استراتيجي لمواجهة التحديات الإقليمية