فجر العدوان الإسرائيلي على غزة أول مواجهة بين فرنسا والولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، في أول أزمة مفتوحة بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ تولي وصول الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض ووعده بإعادة الانخراط في الدبلوماسية متعددة الأطراف بعد أن أحدث سلفه الجمهوري دونالد ترامب شروخا عميقة بين ضفتي الأطلسي.
وبعد ثمانية أيام من فشل مجلس الأمن الدولي في اعتماد إعلان يدين العنف في الشرق الأوسط، تقدمت فرنسا الثلاثاء بمشروع قرار يدعو إلى "وقف العمليات العسكرية وإيصال المساعدات الإنسانية" خصوصا إلى قطاع غزة المحاصر.
ولم تقترح باريس موعدا للتصويت، فهل تلك وسيلة لتعزيز الضغط على الولايات المتحدة لتشديد موقفها تجاه إسرائيل؟ الشيء الوحيد المؤكد هو أن الرئيس الأميركي دعا الأربعاء إلى وقف التصعيد بين إسرائيل والفلسطينيين "اليوم"، لكن إعلان البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة برفض المشروع الفرنسي أعطى إشارة واضحة على تباين في المواقف ومواجهة بيم الحليفين في مجلس الأمن.
وتقليديا كان مجلس الأمن ساحة مواجهة بين واشنطن من جهة وموسكو وبكين من جهة أخرى، لكن يبدو أن باريس التحقت بالركب وإن كانت على خلاف مع روسيا والصين في ملفات كثيرة.
والولايات المتحدة هي أحد الأعضاء القلائل في المجلس الذين أُطلعوا على فحوى المقترح الفرنسي،وفق ما أفاد دبلوماسي، ولم يتأخر ردها القاطع وتلميحها إلى استعمال حقّ النقض (الفيتو) في حال المضي قدما فيه.
وقالت البعثة الأميركية بالأمم المتحدة إنها "لن تدعم أي تحركات تعتقد أنها تقوض جهود التهدئة" بين إسرائيل والفلسطينيين، وذلك في معرض ردها على سؤال اليوم الأربعاء بشأن مبادرة فرنسية لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي في هذا الصدد.
وقال متحدث باسم البعثة "كنا واضحين وثابتين على موقفنا وهو أننا نركز على الجهود الدبلوماسية المكثفة الجارية لوضع حد للعنف ولن ندعم أي تحركات نعتقد أنها ستقوض جهود التهدئة".
وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان خلال جلسة استماع في الجمعية الوطنية إن "الموقف الأميركي سيكون حاسما صحيح أننا رأينا الولايات المتحدة متحفظة قليلا إزاء كل ذلك".
وأضاف أن "إطالة العمليات لا يفيد أحد. من الضروري للغاية تجنب هجوم بري إسرائيلي سيفتح مرحلة لا يمكن السيطرة عليها"، مشددا على أن "أول خطوة يجب تنفيذها هي وقف العمليات العسكرية في أسرع وقت. نأمل حقا أن تتخذ تدابير إنسانية بسرعة كبيرة".
وتتبع واشنطن، أكبر حلفاء إسرائيل، هذه السياسة منذ عشرة أيام، إذ رفضت ثلاثة إعلانات اقترحتها الصين وتونس (ممثلة العالم العربي في المجلس) والنرويج.
كما ماطلت في تنظيم أربعة اجتماعات للمجلس منذ 10 ماو/ايار، حتى أنها تسببت في تأجيل أحدها قبل أن يعقد أخيرا الأحد بصيغة مفتوحة.
ويعجز حلفاء واشنطن الأوروبيون التقليديون عن فهم أسباب ذلك. وقالت جيرالدين بيرن ناسون، سفيرة ايرلندا العضو غير الدائم في مجلس الأمن، الثلاثاء إن "أعضاء المجلس يتحملون مسؤولية جماعية عن السلم والأمن الدوليين. حان الوقت لكي يتدخل المجلس ويكسر صمته ويتحدث".
وقال سفير أوروبي آخر طلب عدم كشف اسمه "نحن ببساطة نطلب من الولايات المتحدة دعم بيان لمجلس الأمن يقول أشياء مماثلة لتلك التي تقولها واشنطن على الصعيد الثنائي".
وقال سفير آخر طلب عدم الكشف عن هويته "إنه أمر غريب بعض الشيء بسبب تطلعنا جميعا لعودة الأميركيين إلى الدبلوماسية متعددة الأطراف"، مضيفا "اعتقدنا أيضا أن الولايات المتحدة ستكون حريصة على إظهار أهمية مجلس الأمن في مثل هذه المواقف".
وقد يترك التوتر الملموس بين فرنسا والولايات المتحدة آثارا على ملفات أخرى.
وفي الأمم المتحدة، ظهر خلاف كبير الثلاثاء بين البلدين بشأن تقديم المساعدة إلى القوة المناهضة للجهاديين في منطقة الساحل الإفريقي.
وباريس المنخرطة سياسيا وعسكريا بشدة في المنطقة، تقوم منذ سنوات بحملات لتوفير دعم مالي ولوجستي وعملياتي عبر الأمم المتحدة للقوة المؤلفة من 5 آلاف عسكري يعانون من سوء التجهيز ويتحدرون من النيجر وتشاد وموريتانيا ومالي وبوركينا فاسو.
وكانت إدارة الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب ترفض رفضا قاطعا المساعدة. وكانت فرنسا تأمل في أن يحدث تحول مع خلفه الديمقراطي جو بايدن.
وعبّرت واشنطن في وقت سابق هذا الأسبوع عن موقف سلبي تجاه الفكرة، وقالت إنها على غرار الإدارة السابقة تفضّل تقديم مساعدات ثنائية بدلا من الالتزام بتمويل عبر الأمم المتحدة قد يكون بلا نهاية.
عزلة أميركية واستثمار صيني
ويقول دبلوماسيون إن العزلة الأميركية في الأمم المتحدة بسبب الجهود المبذولة لإنهاء العنف المتجدد في الشرق الأوسط دفعت الصين إلى اغتنام الفرصة لإبراز أوراق اعتماد قيادتها المتعددة الأطراف بعد أشهر فقط من إعلان الرئيس جو بايدن أن "أميركا عادت".
وخلال الأسبوع الماضي عارضت الولايات المتحدة، وهي حليف قوي لإسرائيل، مرارا وتكرارا إصدار بيان عن مجلس الأمن الدولي المؤلف من 15 عضوا بخصوص القتال بين إسرائيل والمسلحين الفلسطينيين في غزة مما دفع وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى أن يكشف علنا أن واشنطن "عرقلت" إصدار بيان.
وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أمس الثلاثاء إنه لو كان إجراء الأمم المتحدة "سيعزز الهدف بشكل فعال فسنكون معه". ورفضت البعثة الأميركية لدى المنظمة الدولية التعليق بشكل مباشر على تصريحات وانغ التي أدلى بها يوم الأحد.
وقال ريتشارد جوان مدير قسم الأمم المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية "صراحة.. يعتبر موقف الولايات المتحدة هدية للصين"، مضيفا "الولايات المتحدة تحاول الضغط على الصين لدعم تحرك الأمم المتحدة بخصوص مواقف مثل ميانمار، والآن تمنع واشنطن مجلس الأمن من التحدث بخصوص الشرق الأوسط. هذا أمر يضر بسمعة فريق بايدن في الأمم المتحدة ويجعل الصين تبدو وكأنها القوة التي تتسم بالمسؤولية".
ويأتي مأزق الأمم المتحدة بخصوص الشرق الأوسط بعد مرور أسبوع على إغضاب دول غربية وجماعات حقوقية بكين بعقدها فعالية في المنظمة الأممية بشأن اتهامات للسلطات الصينية بقمع مسلمي الويغور في إقليم شينجيانغ. وتنفي الصين الاتهام.
وتضغط بكين من أجل نفوذ عالمي أكبر في الأمم المتحدة في تحد للقيادة الأميركية التقليدية، واستعرضت قوتها متعددة الأطراف حيث سحب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، واشنطن من منظمات دولية واتفاقيات للتركيز على سياسات "أميركا أولا".
ومنذ توليه المنصب في شهر يناير/كانون الثاني، شدد الرئيس الديمقراطي بايدن على أهمية عودة الولايات المتحدة للعمل مع المنظمة الدولية التي تضم 193 دولة من أجل تحدي الصين، لكن دبلوماسيين يقولون إن اعتراض بلاده على بيان مجلس الأمن بخصوص إسرائيل وغزة، والذي صاغته الصين وتونس والنرويج، ترك الكثير من الدول في حالة إحباط.
وقال دبلوماسي ثان في مجلس الأمن الدولي "واضح أن الصين ترغب في الاستفادة من عزلة الولايات المتحدة بسبب غزة وتضع نفسها في وضع قيادة غير معتادة بخصوص القضايا الفلسطينية".
وقال متحدث باسم بعثة الصين لدى الأمم المتحدة لرويترز "معظم أعضاء مجلس الأمن يأملون في أن يروا أن المجلس يلعب دورا في دعم وقف إطلاق النار وإنهاء العنف. يجب أن تفي الصين بمسؤوليتها كرئيس للمجلس".
وفي الآونة الأخيرة، كان لبكين موقف مغاير في ما يتعلق بعمل مجلس الأمن عندما كانت مع روسيا، حذرة من مشاركة المجلس في الصراع بمنطقة تيغراي الإثيوبية. وبعد عدة مناقشات خاصة تحدت الولايات المتحدة صمت المجلس. وتم الاتفاق في النهاية على بيان.
وتتركز تحركات السياسة الخارجية لبايدن إلى حد بعيد حتى الآن على الصين وروسيا وإيران، لكنه مضطر حاليا إلى التركيز على الصراع في الشرق الأوسط.
وقال دبلوماسي آسيوي كبير، تحدث بشرط عدم كشف هويته، "الصين تلعب ذلك بشكل جيد. يقدمون أنفسهم كطرف في الشرق الأوسط ولسبب وجيه أيضا هو أن مشاركة الآخرين أقل".
وحاولت بكين أن تكون صديقة للجميع في الشرق الأوسط، لكن كان عليها أن تتحسس خطاها، فهي تقيم علاقات وثيقة مع إسرائيل والفلسطينيين وكذلك مع إيران والسعودية.
وقد حاولت مرارا أن تقوم بدور وسيط للسلام في صراعات الشرق الأوسط ولكن بتأثير محدود، إذ أنه ليس لها تأثير في المنطقة كالأعضاء الدائمين الآخرين في مجلس الأمن الدولي، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا.