تطورات اقليمية
إحلال العناصر العقائدية في جبهات القتال..
الحوثيون بين الضغط الداخلي والتصعيد العسكري: قراءة في خريطة الجبهات الجديدة
الحوثيون شمال اليمن
مع تزايد الضغط الداخلي على جماعة الحوثيين في صنعاء، اتجهت المليشيا إلى إعادة توزيع قواتها على جبهات القتال والدفع بعناصر جديدة ذات ولاء عقائدي متشدد وتدريب عسكري مكثف. يأتي هذا التحرك في سياق استعدادات حوثية لتصعيد عسكري واسع النطاق، وفي ظل تحديات داخلية غير مسبوقة تواجه الجماعة المدعومة من إيران على الصعيدين العسكري والتنظيمي.
إحلال مقاتلين متطرفين في خطوط التماس
تشير المعلومات الميدانية إلى قيام مليشيات الحوثي بإحلال مجاميع جديدة من المقاتلين المتشددين في عدد من جبهات القتال داخل اليمن بدلًا من بعض الوحدات السابقة. فقد أفادت مصادر عسكرية يمنية أن الحوثيين دفعوا بتعزيزات كبيرة من العناصر العقائدية المتطرفة إلى الجبهات الحدودية بين محافظتي لحج وتعز منذ يوم الإثنين الماضي. وقد حلّت هذه التعزيزات مكان مجاميع سابقة شاركت في معارك سابقة وبقيت فترة في خطوط التماس قبل أن تغادر على دفعات متفرقة. امتدت عملية الإحلال هذه أيضًا إلى جبهات أخرى، من حدود لحج جنوبًا وصولًا إلى جبهات شبوة على تخوم محافظة البيضاء، ما يعكس خطة شاملة لإعادة انتشار القوات الحوثية في مختلف محاور القتال.
خصائص القوات الجديدة: تتميّز العناصر التي تم الدفع بها مؤخرًا بولاء أيديولوجي صارم وتلقّيها تربية دينية متشددة. وبحسب المصادر، فإن نحو نصف هذه المجاميع الجديدة عبارة عن قوات لم يسبق أن خاضت معارك من قبل، لكنها خضعت لتدريب عسكري مكثف يؤهلها للمشاركة الفعالة في القتال. هذا يشير إلى أن الحوثيين يعوّلون على مقاتلين عقائديين شباب كوقود جديد للحرب، ويتم إعدادهم ذهنيًا وقتاليًا لرفع جاهزيتهم وصمودهم في ساحات المعركة.
دوافع داخلية: ولاء عقائدي لمواجهة خطر الانشقاقات
يأتي هذا التحول في تركيبة المقاتلين على الجبهات في ظل مخاوف حوثية متصاعدة من حدوث انشقاقات داخل جناحها العسكري، بما في ذلك بين المقاتلين والقادة المتواجدين في الخطوط الأمامية. فمع طول أمد الصراع وتزايد السخط الداخلي، تخشى القيادة الحوثية من تآكل تماسكها التنظيمي ومن احتمال تمرّد عناصر من صفوفها أو انشقاقها لصالح أطراف أخرى. لذلك تغلّب المليشيا الاعتبارات العقائدية عند اختيار المقاتلين للجبهات الحسّاسة، لضمان أعلى قدر من الولاء الأيديولوجي والثبات في القتال. ويرى مراقبون أن إحلال العناصر المؤدلجة يأتي كمحاولة من الحوثيين لصبغ تصعيدهم العسكري المرتقب بلون عقائدي طائفي، بما يخدم دعايتهم بأن المعركة وجودية ضد "أعداء العقيدة". بهذا الأسلوب تأمل الجماعة في تحصين صفوفها من الداخل ضد أي تشقق، من خلال ربط ولاء المقاتلين بالفكر والعقيدة التي تتبناها.
تصاعد التوتر مع حزب المؤتمر (جناح صنعاء)
بالتوازي مع هذه التحركات الميدانية، يواجه الحوثيون تحديًا داخليًا آخر يتمثل في تصاعد الصراع مع شريكهم في الانقلاب، حزب المؤتمر الشعبي العام (جناح صنعاء). فقد شهد شهر أغسطس 2025 تطورات دراماتيكية في صنعاء، حيث فرضت جماعة الحوثي ضغوطًا كبيرة على قيادة المؤتمر الشعبي العام وصلت إلى حد اعتقال قياداته وإلغاء فعالياته بالقوة. ففي 20 أغسطس اعتقلت المليشيا الأمين العام لحزب المؤتمر في صنعاء، غازي أحمد علي محسن الأحول، مع اثنين من مرافقيه واقتادتهم إلى جهة مجهولة. وجاء ذلك بعد أقل من 24 ساعة من اضطرار حزب المؤتمر إلى إلغاء حفل الذكرى الـ43 لتأسيسه الذي كان مزمعًا إقامته في مناطق سيطرة الحوثيين، تحت مبرر معلن مرتبط بالتضامن مع غزة. غير أن مصادر مطلعة أكدت أن قرار الإلغاء جاء نتيجة ضغوط حوثية مكثفة هدفت لمنع أي ظهور مستقل للمؤتمر ككيان سياسي، وإجبار قياداته على العمل ضمن إطار فعاليات الجماعة فقط.
التوتر بين الحوثيين والمؤتمر لم يتوقف عند هذا الحد؛ إذ صعّد الحوثيون حملتهم ضد قيادات المؤتمر عبر إجراءات قمعية غير مسبوقة. ففي 31 يوليو الماضي أصدرت محكمة حوثية حكمًا غيابيًا بالإعدام بحق نائب رئيس المؤتمر أحمد علي عبدالله صالح (نجل الرئيس اليمني الراحل) بتهمة الخيانة والتخابر. تُفسَّر هذه الخطوات التصعيدية على أنها محاولة من الحوثيين لتحجيم نفوذ المؤتمر الداخلي والذي باتوا يخشون أن يشكل تهديدًا سياسيًا وشعبيًا قد يُقلب الطاولة عليهم من الداخل. كما تعكس حالة القلق والخوف التي تعيشها المليشيا في ظل تزايد عزلتها داخليًا وخارجيًا، وفق ما صرّح به قيادي مؤتمري تعقيبًا على تلك الأحكام. هذا المشهد يوضح أن جبهة الصراع الداخلي بين الحوثي وحليف الأمس (المؤتمر) باتت مشتعلة، مما يضيف بعدًا جديدًا لأزمة الجماعة ويدفعها أكثر نحو التشدد أمنيًا وعسكريًا.
تحشيد عسكري وتصعيد على عدة جبهات
على الصعيد العسكري، تُجمِع التقارير الميدانية على أن جماعة الحوثي تقوم بـتحشيد واسع للقوات والعتاد في مختلف الجبهات استعدادًا لجولة جديدة من التصعيد. فمنذ أواخر يوليو/تموز 2025، رصدت مصادر عسكرية استمرار إرسال تعزيزات حوثية ضخمة إلى جبهات القتال، كجزء من مخطط لإشعال الحرب مجددًا بعد فترة هدوء نسبي. وشملت هذه التحركات إعادة ترتيب أوضاع المقاتلين في الساحل الغربي (الحديدة)، ودفع تعزيزات إلى جبهات تعز، وكذلك تكثيف الوجود العسكري في محاور محافظة مأرب الغنية بالموارد، في مؤشر إلى نية الحوثيين شن هجمات واسعة ومتزامنة على ثلاث جبهات رئيسية هي الحديدة وتعز ومأرب. ويهدف الحوثيون من ذلك إلى الضغط على الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا واستغلال زخم التصعيد لتحقيق مكاسب ميدانية وسياسية.
كما رُصدت تحركات عسكرية كثيفة للحوثيين نحو محافظة صعدة (معقل الجماعة أقصى الشمال) خلال الأسبوعين الأخيرين، حيث نقلت المليشيا مجاميع بشرية وكتائب قتالية كبيرة إلى صعدة قادمة من صنعاء ومحافظات أخرى. تزامن ذلك مع إعلان الجماعة حالة تعبئة واستعداد قتالي وأمني وتنظيمي قصوى منذ أسابيع في مناطق سيطرتها. هذه التعبئة الشاملة تشير إلى أن الحوثيين يعدّون العدة لاحتمالية انهيار المسار السياسي والعودة إلى الحرب المفتوحة، خاصة مع انهيار الثقة بينهم وبين خصومهم، واحتدام التوتر الإقليمي (كما تجلّى في مواجهاتهم مع إسرائيل مؤخرًا على خلفية الحرب في غزة).
ووفق مراقبين دوليين، فإن تصاعد حدة المواجهة بين الحوثيين وإسرائيل منذ أواخر 2023 – والتي بلغت ذروتها بشن الحوثيين هجمات بطائرات مسيرة وصواريخ على سفن ومواقع إسرائيلية، ورد تل أبيب بضربات جوية مكثفة على ميناء الحديدة – ساهم في تقويض الهدنة الهشّة ودفع الأمور مجددًا نحو التصعيد. وقد حذّر المبعوث الأممي إلى اليمن مؤخرًا من خطورة "التدهور السريع للوضع" مع تزايد الأعمال العدائية وانكماش مساحة الثقة بين الأطراف، مؤكدًا أن نافذة الحل السلمي تضيق بشكل خطير إذا ما استمر التصعيد العسكري على هذا المنوال.
دوافع إستراتيجية: عين الحوثيين على موارد الطاقة
يسعى الحوثيون من وراء هذا التصعيد المخطَّط إلى تحقيق أهداف استراتيجية تتجاوز الاعتبارات التكتيكية المباشرة. فبحسب محللين، تهدف الجماعة إلى توسيع نطاق سيطرتها ميدانيًا باتجاه مناطق غنية بموارد الطاقة لتعويض الخسائر التي مُنيت بها خلال الفترة الماضية. وقد تكبّد الحوثيون مؤخرًا خسائر اقتصادية واستراتيجية مهمة، أبرزها تضرر منافذهم البحرية في الحديدة جراء الضربات العسكرية التي استهدفت البنية التحتية هناك. فميناء الحديدة الخاضع لهم تعرض لغارات جوية متعددة (شنّتها إسرائيل في إطار الصراع الإقليمي) أدت إلى شل قدرته على تهريب السلاح وجني الإيرادات. كذلك يجد الحوثيون أنفسهم في عزلة بعد أن صنّفهم مجلس الدفاع الوطني اليمني "منظمة إرهابية" في أكتوبر 2022 إثر استهدافهم موانئ تصدير النفط في حضرموت وشبوة. هذا التصنيف جرّد الجماعة من أي شرعية سياسية محلية وزاد من الخناق الاقتصادي والدبلوماسي عليها.
في ضوء ذلك، يبدو أن عيون الحوثيين تتجه نحو السيطرة على منابع النفط والغاز في مأرب وشبوة لتعويض فقدان إيرادات ميناء الحديدة وموارده وقد حاولت الجماعة سابقًا استهداف موانئ تصدير النفط بهجمات مباشرة لتعطيل شحنات الحكومة الشرعيةarabic.news.cn، مما يشير إلى أن موارد الطاقة تقع في صلب استراتيجيتها لتعزيز تمويل مجهودها الحربي وإيجاد أوراق ضغط قوية. السيطرة على هذه الموارد – إن تمكنت منها المليشيا – ستمنحها مصدرًا حيويًا للتمويل يخفف من أثر الحصار الاقتصادي، كما سيعزز موقفها التفاوضي مستقبلًا. لذلك لا يُستبعَد أن يشكّل الزحف نحو حقول النفط والغاز أولوية رئيسية لأي هجوم حوثي واسع قادم.
في المحصّلة، تكشف المعطيات الراهنة عن ملامح تصعيد واسع يخطط له الحوثيون يخلط بين الاعتبارات الأيديولوجية والدوافع الاستراتيجية. فالجماعة تسعى لسد الثغرات في صفوفها وتأمين ولاء مقاتليها عبر إحلال عناصر عقائدية متشددة، بالتوازي مع تصفية أي تهديد داخلي محتمل من حليفها السابق (المؤتمر الشعبي العام). وفي الوقت ذاته، تحشد المليشيا قواها لفتح جبهات جديدة أو إعادة إشعال جبهات مجمّدة بهدف تحقيق مكاسب ميدانية نوعية، خصوصًا في المناطق الغنية بالموارد. هذه التحركات تنذر بأنه في حال تعثّر المسار السياسي، قد تجد اليمن نفسها أمام جولة جديدة من الحرب الشاملة تفوق سابقاتها ضراوة واتساعًا.
على المدى القريب، ستشكّل الأسابيع والأشهر المقبلة اختبارًا حاسمًا: فإما أن ينجح الضغط الدولي وجهود الوسطاء في لجم اندفاع الحوثيين نحو التصعيد وإعادتهم إلى طاولة المفاوضات، أو ينفجر الموقف ميدانيًا مع ما يحمله ذلك من تداعيات كارثية على البلاد. القيادة الحوثية تراهن بوضوح على خيار القوة لتحسين شروطها السياسية مستقبلاً، معتبرة أن التصعيد العسكري سيمكنها من فرض أمر واقع جديد. بالمقابل، فإن الضغط العسكري الذي يلوّح به الحوثيون سيواجَه بردود فعل إقليمية ودولية صارمة هذه المرة، خصوصًا مع تزايد الانخراط الإسرائيلي والأمريكي في المشهد اليمني ردًا على تهديدات الحوثيين للملاحة الدولية.
ينبئ اختيار الحوثيين تغليب التصعيد والحلول العسكرية على حساب التسوية بأن آفاق السلام تتراجع في المستقبل المنظور. وإذا ما استمر هذا النهج، فإن الوضع الإنساني المرير في اليمن مرشّح لمزيد من التدهور مع عودة العمليات القتالية واسعة النطاق. وعليه، تبقى الحاجة ملحّة لضغوط دولية موحّدة لثني الحوثيين عن خيار الحرب ودفعهم نحو تسوية شاملة تضمن إشراك كافة الأطراف اليمنية، بما فيها المكونات الموجودة في صنعاء، قبل انفجار برميل البارود مرة أخرى. فالساعات السياسية والدبلوماسية تمضي بسرعة، وكل يوم يمر دون حل يقرّب اليمن أكثر من عودة شبح الحرب بكل ويلاته.