الاقتصاد

العالم في مواجهة صراع ناعم بلا دخان..

الحروب الباردة الجديدة.. التكنولوجيا والاقتصاد في صراع خفي على قيادة العالم

معارك العصر الحديث للسيطرة على مستقبل البشرية

نيويورك

منذ نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، بدا وكأن العالم يخطو نحو مرحلة جديدة من الاستقرار الدولي والتعاون الاقتصادي، مع صعود الولايات المتحدة كقوة مهيمنة بلا منافس. لكنّ رياح الألفية الجديدة جاءت محمّلة بتحولات جذرية أعادت تشكيل موازين القوى، لتنشأ ما يمكن وصفه بـ"الحروب الباردة الجديدة" — صراعات لا تُخاض في الميدان العسكري التقليدي، بل في فضاءات الاقتصاد، والتكنولوجيا، والمعلومات، والسيبرانية.

وبينما نجت البشرية من احتمال مواجهة نووية في القرن العشرين، فإنها تواجه اليوم نوعًا آخر من المواجهة، أكثر هدوءًا، لكنه أكثر اختراقًا لحياة الناس ومصير الدول.

التنافس يعيد إنتاج الحرب الباردة بصيغة رقمية

الحروب الباردة الجديدة لم تعد صراعًا أيديولوجيًا كما في حقبة الشيوعية والرأسمالية، بل تحوّلت إلى سباق نفوذ اقتصادي وتكنولوجي بين القوى الكبرى، في مقدمتها الولايات المتحدة والصين وروسيا، إلى جانب دولٍ صاعدة مثل الهند وإيران التي تحاول استثمار التناقضات لتعزيز موقعها الإقليمي.
ويرى خبراء السياسة الدولية أن التنافس بين واشنطن وبكين تحديدًا بات يشكّل الملف الأكثر حساسية في العلاقات الدولية المعاصرة، إذ يحدد شكل النظام العالمي القادم.

يقول محللون إنّ "الولايات المتحدة تخشى فقدان تفوقها التاريخي في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد، فيما تسعى الصين لتكريس نموذجها الخاص في التنمية والسيطرة التقنية والاقتصادية"، وهو ما يجعل التنافس بينهما صراعًا على قيادة القرن الحادي والعشرين أكثر من كونه مجرد نزاع تجاري.

التكنولوجيا تتحول إلى سلاح استراتيجي

التقدم التكنولوجي هو الميدان الأهم في هذه الحرب الصامتة.
فمن الذكاء الاصطناعي إلى شبكات الجيل الخامس (5G)، ومن صناعة أشباه الموصلات إلى الأمن المعلوماتي، تحولت التكنولوجيا إلى ساحة صراع استراتيجي بين واشنطن وبكين، وامتد تأثيرها إلى بقية العالم.

تقييد الولايات المتحدة لتصدير الرقائق المتقدمة إلى الصين، ومنع الشركات الأمريكية من التعاون مع شركات مثل "هواوي"، كشف عن حجم التوترات، وأبرز كيف يمكن لأداة تكنولوجية أن تصبح ورقة ضغط سياسي واقتصادي في آن واحد.
كما أن السباق نحو الهيمنة على سوق الذكاء الاصطناعي يُنظر إليه على أنه سباق على مستقبل القوة العالمية، إذ تمثل البيانات اليوم ما كان يمثله النفط في القرن الماضي: مصدر الثروة والهيمنة.

ويرى محللون في واشنطن أن "من يمتلك الخوارزميات يملك القرار"، وأن السيطرة على الذكاء الاصطناعي قد تعيد رسم خرائط النفوذ بنفس تأثير القنبلة النووية قبل ثمانين عامًا.

الفضاء السيبراني.. الجبهة غير المرئية

في موازاة الصراع التكنولوجي، برز الفضاء السيبراني كجبهة حرب لا تُرى لكنها حقيقية.
فالهجمات الإلكترونية باتت جزءًا من أدوات الردع والتجسس بين القوى الكبرى.
خلال العقد الأخير، تبادلت الولايات المتحدة وروسيا والصين الاتهامات بتنفيذ عمليات اختراق تستهدف البنى التحتية الحيوية والأنظمة الانتخابية وشبكات الطاقة.

تقرير للبنتاغون وصف عام 2024 بأنه "عام الهجمات الإلكترونية غير المسبوقة"، حيث استهدفت أكثر من مئتي مؤسسة أمريكية بأنشطة منسوبة إلى جهات مدعومة من دول.
من جانبها، ترى موسكو وبكين أن واشنطن تستخدم “الأمن السيبراني” ذريعة لتبرير هيمنتها الرقمية ونفوذها عبر شركات الإنترنت العملاقة.

ويقول خبير الأمن السيبراني “مارك أندرسون” إن "الحروب السيبرانية غير معلنة، لكنها يومية، وهي تجرى في الظل، وتكلف الاقتصادات العالمية مئات المليارات سنويًا".
بهذا المعنى، أصبح الإنترنت ميدانًا مفتوحًا للتجسس، والسيطرة، والتدمير الاقتصادي، من دون الحاجة إلى طلقة واحدة.

الاقتصاد كسلاح في الصراع العالمي

الحروب الجديدة لا تعتمد على القوة العسكرية فحسب، بل على الاقتصاد كسلاحٍ هادئٍ ومدمّر.
فرض العقوبات الاقتصادية والحروب التجارية أضحت أدوات ضغط رئيسية في العلاقات الدولية.
أبرز مثال هو النزاع الجمركي بين الولايات المتحدة والصين منذ عام 2018، الذي انعكس على التجارة العالمية وأسعار الطاقة وسلاسل التوريد، وصولًا إلى تراجع الاستثمارات في عدة قطاعات استراتيجية.

وفي المقابل، استخدمت روسيا ورقة الطاقة كسلاح سياسي خلال الحرب الأوكرانية، حيث أدت قيودها على تصدير الغاز إلى أوروبا إلى أزمة طاقة خانقة، كشفت مدى هشاشة الاقتصاد العالمي أمام أدوات العقوبات والابتزاز.

وتشير تقارير اقتصادية إلى أن حجم الخسائر الناتجة عن العقوبات المتبادلة بين الكتل الكبرى تجاوز 1.5 تريليون دولار في السنوات الخمس الأخيرة.
لكنّ هذه الأرقام لا تعكس سوى وجهٍ واحدٍ من الأزمة، فالحروب الاقتصادية تُعيد رسم مسارات التجارة وتُجبر الدول النامية على الانحياز القسري لأحد المعسكرين.

التحالفات الجديدة تعيد رسم الخريطة الجيوسياسية

في خضم هذا التوتر العالمي، أعادت القوى الكبرى تشكيل تحالفاتها وفق متطلبات الصراع الجديد.
أنشأت واشنطن تحالف "أوكوس" مع أستراليا وبريطانيا لتعزيز حضورها العسكري والتكنولوجي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في مواجهة التمدد الصيني.
كما عززت علاقاتها مع اليابان وكوريا الجنوبية والهند ضمن استراتيجية "الاحتواء الذكي" للصين.

في المقابل، تقود موسكو وبكين جهودًا لخلق توازن مضاد عبر منظمة شنغهاي للتعاون ومبادرة الحزام والطريق، في حين تسعى طهران إلى توظيف هذه التناقضات لتحقيق مكاسب اقتصادية واستراتيجية وسط العقوبات الغربية المفروضة عليها.

ويرى باحثون أن ما يجري اليوم ليس مجرد سباق نفوذ، بل إعادة هندسة للنظام الدولي، حيث تبتعد المراكز الحيوية عن أوروبا والشرق الأوسط متجهة نحو آسيا والمحيط الهادئ، وهو ما وصفه هنري كيسنجر ذات مرة بـ"تحول مركز الثقل الحضاري إلى الشرق".

سباق الفضاء.. البعد الرابع للحرب الباردة

لم تعد الحرب الباردة الجديدة مقتصرة على الأرض، بل امتدت إلى الفضاء الخارجي.
الولايات المتحدة والصين وروسيا تخوض سباقًا محمومًا نحو السيطرة على الأقمار الصناعية، الاتصالات الفضائية، واستكشاف القمر والمريخ، ليس لأهداف علمية فحسب، بل لضمان الهيمنة المعلوماتية والعسكرية في المستقبل.

أنشأت واشنطن "قوة الفضاء" كفرع خامس في جيشها عام 2019، وردّت الصين بإطلاق شبكة أقمارها الاصطناعية الخاصة ضمن مشروع "بيدو"، في حين تعمل روسيا على تعزيز قدراتها الصاروخية المضادة للأقمار الاصطناعية.
ويحذر محللون من أن "عسكرة الفضاء" قد تمثل الخطوة التالية في سباق الردع العالمي.

الدبلوماسية على حافة الخطر

رغم تصاعد هذه التوترات، لا تزال جميع الأطراف حذرة من الانزلاق إلى حرب عالمية جديدة.
يقول الدبلوماسي الأمريكي المتقاعد "ريتشارد بيرنز" إن "ما يميز الحروب الباردة الحديثة هو أنها تُدار وفق معادلة التوازن الدقيق؛ صراع بلا رصاص، وعداء بلا إعلان".
هذا التوازن يجعل الدبلوماسية أداة مركزية لإدارة التنافس، لكنها في الوقت نفسه مرهقة ومحدودة التأثير أمام ضغوط الداخل والتقنيات العابرة للحدود.

الاتحاد الأوروبي، الذي فقد جزءًا من ثقله السياسي بعد أزمة الطاقة الأوكرانية، يحاول لعب دور الوسيط، فيما تبذل دول مثل الهند والإمارات ومصر جهودًا متزايدة للحفاظ على مسافة آمنة بين المعسكرين، مدركةً أن البقاء على الحياد صار أكثر صعوبة من أي وقتٍ مضى.

العالم بين التعاون والصدام

تؤكد المؤشرات الحالية أن النظام الدولي يعيش مرحلة تعدد أقطاب غير مستقرة، فكل قوة تمتلك أوراق ضغط مختلفة:
الولايات المتحدة تمتلك النفوذ المالي والابتكار التكنولوجي،
الصين تملك الأسواق والإنتاج الضخم،
روسيا تمتلك الطاقة والقدرات العسكرية،
أما الاتحاد الأوروبي فيحاول الحفاظ على دوره الاقتصادي كـ"قوة ناعمة".

ومع ذلك، فإنّ هشاشة سلاسل التوريد، وسباق الذكاء الاصطناعي، وتهديد الأمن السيبراني، تجعل من أي شرارة بسيطة أزمة عالمية.
لقد أصبح الاقتصاد العالمي أكثر ترابطًا من أي وقت مضى، لكنه في الوقت ذاته أكثر هشاشة من أن يتحمّل مواجهة مفتوحة بين القوى الكبرى.

نحو عالم بلا حرب.. أم نحو حرب بلا نهاية؟

مع استمرار التوترات الجيوسياسية، يتساءل المراقبون إن كان العالم يسير نحو تعاونٍ اضطراري أم نحو صدامٍ مؤجل.
فالاعتماد المتبادل بين الاقتصادات الكبرى يمنعها من الانفجار، لكنه لا يمنعها من التناحر البارد.
في المقابل، تحاول قوى متوسطة وصاعدة إعادة تعريف موقعها، مستفيدة من هذا التوازن المرهق، في إعادة توزيع النفوذ الدولي.

ويرى خبراء العلاقات الدولية أن "العالم اليوم يعيش أخطر مراحل التوازن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لأن الصراع الحالي لا يملك نهاية واضحة، ولا منتصر محددًا".
إنها حرب بلا جبهات، لكنها تمس كل بيت وكل جهاز وكل شركة، من سيليكون فالي إلى شنزن، ومن موسكو إلى دبي.

خاتمة: عصر الصراع الهادئ

في نهاية المطاف، تُظهر الحروب الباردة الجديدة أن البشرية لم تتعلم من تاريخها بقدر ما أعادت صياغته.
فالحروب لم تختفِ، بل تغيّر شكلها.
تحولت من الدبابات إلى البيانات، ومن الجيوش إلى الخوارزميات، ومن الغزو العسكري إلى الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية.

العالم اليوم يقف على حافة توازنٍ هشّ، حيث الخطر الأكبر ليس في القنابل النووية، بل في انهيار الثقة، وتفكك النظام الاقتصادي العالمي، وانزلاق المنافسة إلى مواجهة غير محسوبة.
وبينما تتبدّل التحالفات وتتعاظم أدوات الردع، يبقى السؤال معلقًا:
هل سيتعلم العالم العيش في ظل حربٍ باردةٍ لا تنتهي، أم سينجح في تحويلها إلى سباقٍ نحو التقدّم المشترك قبل أن يفوت الأوان؟

الفن الشعبي في عمارة يافع.. مقاومة النسيان بالحجر والزخرفة


مؤتمر تاريخي في البرلمان البريطاني يفضح جرائم خامنئي ضد الشعب الإيراني


القوة الناعمة في السياسة الخليجية.. مقارنة بين التجربة السعودية والإماراتية


استراتيجية الساحل الغربي.. كيف يعيد طارق صالح صياغة معادلة القوة في اليمن؟