تحليلات
سياسة الجغرافيا..
حين تُلغى السيادة عن الدول الجارة.. عبدالرحمن الراشد يحاكم «الجنوب» بجرم الجغرافيا (وجهة نظر)
«ما يطرحه عبدالرحمن الراشد ليس نقدًا لمشروع الدولة الجنوبية، بل محاولة لإعادة إنتاج وصاية سياسية تُجرّد الجنوب من حقه وتربط السيادة بالرضا الخارجي.»
عبدالرحمن الراشد، الصحافي السعودي الأبرز والاسم اللامع، هكذا عرفته نخب يمنية، خصوصًا تلك المرتبطة بالإخوان المسلمين، إبّان الانقلاب على نظام علي عبدالله صالح.
لكن الرجل، ومنذ ما يقارب ثلاثة عقود، لم يتوقف عن محاكمة العرب، كل العرب، بتهمة واحدة جاهزة: جمال عبدالناصر.
في اليمن والجنوب تحديدًا، لم تكن مواقف الراشد مجرد آراء عابرة، بل رهانات سياسية واضحة. لا أصفها بالخاسرة، لكن تفكيكها يقود القارئ إلى حقيقة هذه الرهانات وحدودها.
في منطق الراشد، لا قيمة لإرادة الشعوب أمام “قدسية الجغرافيا”. فالجغرافيا – كما ينقل عن نابليون – هي الحقيقة الوحيدة في السياسة، وما عداها وهم.
ولو كان نابليون حيًا وقرأ ما يكتبه الراشد، لربما أُصيب بالصدمة ذاتها التي أصابتني وأنا أقرأ مقاله الأخير في «الشرق الأوسط»، حيث تتحول الجغرافيا إلى حق حصري، وتُختزل الشعوب إلى عبء قابل للمحو أو الترحيل.
يُقنعك الراشد بأن ما يقوله حقيقة مطلقة، لا لأنها قابلة للنقاش، بل لأن “نابليون قال ذلك”.
وربما لو سُئل بعض من يروّج لهذا المنطق: من هو نابليون؟ لتلعثم، رغم تقديم أنفسهم منذ عقود بوصفهم ليبراليين، بل وبلغ الأمر حد تبريرهم لانقلابات الإخوان على الأنظمة، إذا ما استُعيد موقف الراشد نفسه من انقلاب 2011 في اليمن.
الليبراليون، في مواقفهم المعلنة والضمنية، لم يروا حرجًا في التقاطع مع الإخوان، وكانت التهمة الجاهزة دائمًا هي “الناصرية”. تحوّل جمال عبدالناصر من تجربة تاريخية قابلة للنقد إلى فزاعة سياسية، تمامًا كما تحوّل اليمن والجنوب إلى تهمة بسبب “الجغرافيا”. ولو أننا، كنخب سياسية وإعلامية يمنية وجنوبية، نظرنا إلى المشهد من زاوية وفكر عبدالرحمن الراشد، لخرجنا بخلاصة مفادها أن اليمن والجنوب قد أُصيبا بـ«لعنة الجغرافيا». وربما، عندها، لما اختلفنا كثيرًا مع خطاب الإخوان المتكرر عن أن السعودية “لا تريد الخير لليمن والجنوب”، وهو الخطاب الذي أعادت إنتاجه مؤخرًا قناة «يمن شباب» المملوكة لجماعة الإخوان.
في عام 2008، كنت في الثالثة والعشرين من عمري، قرأت مقالة لكاتب يمني في أحد المنتديات الإلكترونية يمتدح فيها عبدالرحمن الراشد.
كشاب في العشرينات كاد يقتنع آنذاك أن الراشد لا يكتب إلا ما يريده البلاط الملكي في السعودية.. بدأت أقرأ مقالاته بانتظام، خصوصًا أن الصحف اليمنية كانت تتسابق على نشرها، في وقت أغلق فيه النظام صحيفة «الأيام» الجنوبية. كانت المنتديات متنفسنا الوحيد.. تمحورت مقالات الراشد آنذاك حول فكرة واحدة: "الحراك الجنوبي فوضى، ومطالب الانفصال مغامرة تهدد الإقليم، والحل الوحيد هو الوحدة".
وفي كل مرة، كان جمال عبدالناصر حاضرًا، حتى خُيّل لي أن الجيش المصري لا يزال في عدن، وأن الراشد كاتب بريطاني وُلد في المعلا، حزين على منزل غادره قسرًا.
في عام 2009، قرأت له مقالًا يوجه فيه نظام علي عبدالله صالح بكيفية التعامل مع “الحراك الجنوبي الفوضوي”.
تساءلت حينها: كيف يقرأ صالح مقالات عبدالرحمن الراشد؟
ثم جاءت الفوضى الحقيقية: انقلاب 2011.. سقط صالح، جاء هادي، ونجحت المبادرة الخليجية.. لكن التهمة لم تتغير: الحراك الجنوبي متهم… والسبب دائمًا جمال عبدالناصر.
استمر الراشد في تسفيه القضية الجنوبية، واعتبارها ملفًا إداريًا صغيرًا، يُحل ببعض القرارات والمساعدات، سخر من حق تقرير المصير، وقلل من عمق المظلومية، لأن المشكلة – في نظره – ليست سياسية ولا تاريخية، بل “وهم ناصري” في مواجهة جغرافيا لا ترحم.
في كل مرة، كان عبدالرحمن الراشد يبرر الحروب، بما في ذلك الحرب الحوثية على عدن، باعتبارها – من وجهة نظره – «دفاعًا عن الوحدة اليمنية». ثم جاءت عملية «عاصفة الحزم»، وظل يكرر الأسطوانة ذاتها: الانتصارات الجنوبية خطيرة، والحل هو الدفاع عن وحدة اليمن باعتبارها مصلحة سعودية وإقليمية.
كانت القوات الجنوبية تحرر مساحات واسعة، وتقدم تضحيات جسيمة، وتقاتل على الحد الجنوبي دفاعًا عن الإقليم، بينما يواصل الراشد التحذير من «الخطر الجنوبي على الوحدة»، ويعيد إنتاج خطاب التخويف من «سيناريوهات الانفصال المدمرة»، رابطًا الطرح الجنوبي دائمًا بالفوضى أو بالمشاريع الخارجية.
مؤخرًا، لم يتغير المشهد بقدر ما اتضحت الأفكار التي ظل الراشد يعمل على تمريرها بوصفها مسلّمات مقدسة، تُستخدم لتجريد شعبين شقيقين من حقهما في السيادة على أرضهما. فحين رأى أن شمال اليمن (الجمهورية العربية اليمنية) قد أصبح فعليًا ساحة نفوذ إيراني عبر الوكيل الحوثي، بدأ يبرر المهادنة بخجل سياسي، قائلًا إن «الحوثيين لن يقيموا دولتهم إلا بعلاقة مع السعودية».
لا يتوقف الراشد هنا ليسأل عن عشر سنوات من الحرب، ولا عن المدنيين السعوديين الذين قُتلوا بصواريخ الأذرع الإيرانية، ولا عن ملايين اليمنيين والجنوبيين الذين دُمرت حياتهم. يتذكر فقط حربًا قديمة لم يبقَ من جيلها اليوم سوى الملك سلمان – حفظه الله – بينما رحل من عاشوا تلك المرحلة.
هذه المرة، يستدعي الراشد نابليون ليمنح نفسه حق الوصاية على حضرموت. الرجل الذي أمضى عقدين مدافعًا عن «مشروع الوحدة اليمنية»، يطرح اليوم مشروعًا آخر: فصل حضرموت، لا باعتبارها إقليمًا له إرادة، بل باعتبارها «حقًا سعوديًا»، والدليل – كالعادة – ما قاله نابليون.
في هذا الطرح، يُجرَّد الحضارم من موقفهم السياسي، ويُختزلون إلى شعب يُفترض به السمع والطاعة. يتجاهل الراشد الممثل الشرعي لحضرموت في مجلس القيادة الرئاسي، اللواء فرج سالمين البحسني، الذي جرى تعيينه بإشراف سعودي، ويُفترض أنه يمثل حضرموت رسميًا وشرعيًا.
يقول الراشد بوضوح إن حضرموت «حق سعودي أولًا»، ويستدرك: «وسلطنة عمان بدرجة ثانية»، بحكم الحدود مع المهرة، لأن «الجغرافيا – كما قال نابليون – هي الحقيقة الوحيدة في السياسة». وهنا، يؤكد لنا ما يسميه «الحتمية الجغرافية» للسعودية.
وبحكم نافذ، من دون مرافعة، يقرر أن الجنوب واليمن، من دون الجارة الشمالية الكبرى، لا يستطيعان إنجاح أي مشروع سياسي، ولم ينجحا – بحسب زعمه – منذ ستينيات التدخل المصري وحتى اليوم.
لا يفسر الراشد كيف صمد المشروع الحوثي عقدًا ونصف، لكنه يزعم أن بقاءه مرهون بالتوافق مع «القوى اليمنية» – وربما الإخوان – وبالعلاقة مع الرياض. وهنا يُفتح دفتر الحسابات المسكوت عنه:
ماذا عن عشر سنوات من القتل والتدمير والتهجير؟
هل تُغلق هذه الملفات بمجرد زيارة مهدي المشاط للرياض، أو وصول محمد آل جابر إلى صنعاء؟.. وماذا عن عدن (العاصمة الجنوبية العربية)، التي دُمرت عن بكرة أبيها؟.. هل عليها أن تدفع الفاتورة أيضًا… «بسبب الناصرية»؟
يقول الراشد حرفيًا إن «الوقت استراتيجيًا في صف الجغرافيا الحدودية الطويلة، وإن مرت سنوات من عدم الاستقرار». وهنا يحق لنا أن نسأله: كيف تُقرأ هذه الجملة؟ ومن أي زاوية؟ وهل المطلوب أن نتبنى، في النهاية، خطاب الإخوان الذي يرى في السعودية مشكلة لا جارة؟
ويضيف أن «أكثر من مليوني يمني يعيشون في المملكة يمثلون شريان حياة لبلدهم».
وهنا السؤال المشروع:هل يُراد لهؤلاء أن يكونوا ورقة ضغط ومساومة؟
وما المطلوب من اليمن والجنوب مقابل بقاء ملايين المغتربين في دول الشتات، يبحثون عن لقمة العيش والأمان المفقود في وطنٍ لم يعرف الاستقرار منذ ستينيات عبد الناصر – كما يقول الراشد، لا كما نقول نحن؟.
ولأن حضرموت ـ وفق هذا المنطق ـ «حق سعودي»، كما قال أحد زملاء عبدالرحمن الراشد بوضوح فاق حتى ما كتبه الراشد نفسه، يرى الأخير أن «المجلس الانتقالي لديه مشروع موازٍ، وهو إعادة إحياء دولة الجنوب المستقلة». وهنا يحق لنا أن نسأل: هل مشكلة الراشد مع إحياء دولة الجنوب نابعة من الجغرافيا؟ أم من عقدة “الناصرية”؟ أم لأن حضرموت ـ في ذهنه ـ ليست أرضًا لشعب، بل حقًا جغرافيًا مُسبق الملكية؟
على أي حال، فإن إحياء دولة الجنوب ليس تهمة، بل مصلحة جنوبية أولًا، وإقليمية ودولية ثانيًا، خصوصًا أن الدولة اليمنية التي يتحدث عنها الراشد بوصفها “الدولة الأصل” انتهت فعليًا في سبتمبر 2014، بسقوط العاصمة وسقوط مؤسسات السيادة. ومن الناحية المنطقية والسياسية، لا يمكن الحديث عن “مشروع موازٍ” في ظل دولة سقطت. فحين تسقط الدولة، تصبح المشاريع تنافسية على الشرعية، لا هامشية حولها.
إلا إذا كان الراشد يرى أن الحوثي قد قبل بـ«الحتمية الجغرافية»، وأصبح مطيعًا ومتقوقعًا تحت عباءتها، وهو ما يناقض الواقع. فالجنوب انتزع الشرعية من بين أنياب إيران وأذرعها، بثمن باهظ: دمار، وتشريد، وتضحيات بشرية هائلة. وهذه فاتورة لا تدفعها الشعوب إلا حين تكون صاحبة مشروع وطني حقيقي، لا مشروعًا “موازيًا” كما يتوهم من يمتلك نصف عقل ونصف حقيقة.
ولكي يمرر الراشد فكرته العقيمة، يرهن بقاء الجنوب في الفقر والجوع والحصار، حتى تُحل “مشكلة الحوثي”، أي حتى ترضى العلاقة مع الرياض. ومن غير المنطقي أن يطالب كاتب يُصنَّف اليوم شاهدًا على أنه من خيرة كتّاب العرب، بأن يرهن أصحاب الانتصار الوحيد مشروعهم الوطني بيد من فشلوا في إدارة الدولة منذ ستينيات عبد الناصر — وهو توصيف أقرّ به الراشد نفسه.
لا أتمنى أن يتحرر عبدالرحمن الراشد من عقليته الوصائية؛ فهذه ليست مسألة نفسية، بل منهج سياسي. منهجٌ يتناقض مع القانون الدولي، وتجارب الاستقلال، وحق تقرير المصير، وتجارب الانفصال السلمي في العالم. هو لا يناقش مشروع الدولة الجنوبية، بل يضع له سقفًا جيوسياسيًا، يجعل السيادة منحة إقليمية، لا نتيجة إرادة شعب.
وبحسب هذا “القانون الجغرافي الراشدي”، تصبح السيادة أشبه بشاحنة تموين تمر من بوابة ميناء الوديعة. وبهذا المنطق، لا ينسف الراشد فكرة الدولة الجنوبية فحسب، بل ينسف فكرة الدولة الوطنية ذاتها، ويحوّل اليمن ـ شمالًا وجنوبًا ـ إلى كيان منزوع السيادة، لا بسبب “الناصرية”، بل بسبب جغرافيا يملك تفسيرها وحده.
يمارس الراشد ابتزازًا سياسيًا ناعمًا: إما القبول بالوصاية، أو اتهام الجنوبيين بتدمير هويتهم. بينما الحقيقة أن الرابطة الهوياتية الجنوبية تشكّلت قبل المجلس الانتقالي، ولم تُخلق بعلاقة مع الرياض، ولا بصراع مع صنعاء، بل من تجربة تاريخية مريرة يعرف الراشد تفاصيلها جيدًا، وإن كان يقف ضد نتائجها.
وبسبب نزعة انتقامية مزمنة تجاه جمال عبدالناصر، يقارن الراشد بين عبدالله السلال والمجلس الانتقالي الجنوبي، في مقارنة غير علمية، ولا سياسية. فالسلال سقط نتيجة صراع إقليمي داخل دولة قائمة، لا بسبب قضية شعب ودولة سابقة. ومع ذلك، يتوعد الراشد المشروع الجنوبي بالمصير ذاته، من وجهة نظره وحده.
ويذهب إلى تقزيم أزمة حضرموت، ووصمها بـ«استعراضات إعلامية»، بينما هي في الواقع عملية أمنية وعسكرية هدفها تأمين الإقليم، وإخراج قوات دخلت حضرموت قبل ثلاثة عقود على ظهر دبابة “مشروع الوحدة”.
أما المقارنة بين مشروع الجنوب ومشروع الحوثي، فهي مقارنة غير سوية، تكشف هشاشة المقاربة لا الفكرة. فالحوثي مشروع مذهبي انقلابي، أما الجنوب فهو مشروع سياسي وطني، له تمثيل رسمي، ويشارك في السلطة، ويمثله في مجلس القيادة الرئاسي ثلاثة أعضاء، أحدهم ممثل حضرموت اللواء فرج سالمين البحسني.
يتحدث الراشد عن “إطار قانوني” لتسهيل الانفصال، متجاهلًا أن الشرعية ذاتها اليوم جنوبية في مركزها، وأن مجلس القيادة الرئاسي الذي يطالب الانتقالي بالعمل داخله، لا يمتلك جيشًا حقيقيًا، ولا سلطة فعلية في مأرب أو تعز أو غيرها.
ويعيد طرح السؤال التاريخي المعلّب: من سيحكم غدًا؟ سؤال يُستخدم فقط ضد حركات الاستقلال، ولا يجرؤ على طرحه على صنعاء، أو مأرب، أو تعز.
ثم يستدعي التجربة البريطانية لا كنقد للاستعمار، بل كنموذج إدارة ذكية، في اعتراف ضمني بأن الجنوب لا يُنظر إليه كدولة، بل كمناطق نفوذ يجب احتواؤها.
ويصف قوات الجنوب بـ«الميليشيات»، في محاولة لنزع شرعيتها، رغم أنها حققت الانتصار الوحيد في «عاصفة الحزم»، وساهمت في تأمين الحدود ومكافحة الإرهاب، وثلاثة من أبرز قادتها أعضاء في مجلس القيادة الرئاسي. وإن كان ينوي نزع هذه الشرعية عبر “إعادة هيكلة” المجلس، فليقل ذلك صراحة. أما الآن، فهذه قوات شرعية ووطنية، تمثل الجنوب من المهرة إلى باب المندب، ولا تُقارن بقوات مأرب التي يقودها أعضاء في جمعيات الإخوان، ولم تحقق سوى تسليم السلاح للأذرع الإيرانية في نهم.
أدرك أنني أطلت، وأشكر القارئ الذي وصل إلى هنا. ولم يتبقّ سوى القول إن ما يطرحه عبدالرحمن الراشد ليس نقدًا لمشروع الدولة الجنوبية، بل محاولة لإعادة إنتاج وصاية سياسية، تُجرّد الجنوب من حقه، وتربط السيادة بالرضا الخارجي، وتحوّل الاستقلال إلى تهمة. وهو في جوهره خطاب يدافع عن إدارة الأزمات لا حلّها، وعن التحكم بالجغرافيا لا احترام إرادة الشعوب.
والمعذرة للقارئ الكريم على الإطالة.