لبنان ضيف شرف مهرجان «مدينة العشاق»..
فيرونا الإيطالية تحتفل بالشعراء وتسبقهم إلى قصائدهم

هنري زغيب يتسلم جائزة كاتولو في فيرونا
عاماً بعد آخر، تجدد الأرض عقدها مع الأمل، عبر موعد مثقل بالإشارات الدالة التي تجعل من مستهل كل ربيع يوماً استثنائياً للاحتفال بانبعاث الطبيعة من سباتها الشتوي، وللاحتفال بطقوس الولادة وتجدد الحياة عبر ثنائية الطفل والأم، وللاحتفال بالشعر بما هو تعبير رمزي عن حاجة الإنسان إلى تجاوز واقعه المحدود المليء بالعثرات، وللإقامة في عالم متخيل تؤثثه اللغة من نثار الوعود وقصاصات الأحلام. وفي ظل هذا السباق المحموم على اقتسام الكوكب المريض، ونهب ما تبقى من ثرواته، وتحويله إلى مكب واسع لسموم الضغائن ونفايات العصبيات المتطاحنة، يبدو الإعلان عن يوم عالمي للشعر نوعاً من التكفير عن عقد الذنب البشرية، وانتصاراً لما تبقى من روح الخليقة المتقهقرة أمام الزحف المتعاظم للشراهة المادية والجشع الغرائزي وخواء الأشكال، وهو بذلك يضاف إلى بقية الأيام العالمية للاحتفاء بالمرأة والعمال والمعلمين واللغات المهمَلة، وبالمرضى والمعوّقين، التي لم تكن لتُعلن بأي حال لو كان كل هؤلاء يجدون في الأيام الكثيرة الأخرى ما ينصفهم، ويحقق لهم أبسط شروط العدالة وحقوق الإنسان.
حين أبلغني الشاعر هنري زغيب بدعوة الأكاديمية الدولية للشعر للمشاركة في دورتها الثامنة التي تقام هذا العام في مدينة فيرونا الإيطالية، لم أفكر ملياً بالأمر قبل أن أجيب بالقبول. ليس فقط لأن اختيار بلد الأرز كضيف للشرف في مناسبة كهذه هو تكريم لمعنى لبنان الأصلي، المتصل بالشعر والمعرفة والإبداع، بعيداً عن السموم والنفايات والفساد السياسي، بل رغبة في المعاينة المباشرة للمدينة التي اقترن اسمها بالشغف والعشق الرومانسي العابر للأزمنة، الذي يفشل الموت نفسه في رسم حدودٍ له.
لم تكن المسافة بعيدة جداً بين حضور فيرونا في المخيلة وحضورها على أرض الواقع. فهذه المدينة التي وضعتها «اليونيسكو» على قائمة التراث العالمي، تُشعر زائرها بالألفة، وهناءة العيش وانسيابيته الشفافة، بحيث تتراءى له الحياة كما لو أنها تعاش في الأحلام، إذ لا مكان هنا للأبنية العشوائية والأبراج الصماء، بل يسود نوع من التناظر الهندسي الجمالي الذي فيما يحملنا تصميمه الروماني على الشعور بمهابة التاريخ، وتنسّم روائح الماضي، تحول نمنمته الرشيقة دون إحساسنا بالوحشة ورهاب الأماكن المفرطة في ضخامتها. ولعل ما ضاعف من شعورنا بالألفة هو ذلك التناغم الناعم بين الفندق الذي نزلنا فيه وما حوله من الحانات والمقاهي والشوارع الخالية من السيارات، والحدائق التي تتوسط الساحات، والمراكز الثقافية والفنية، بما يحول المكان إلى نوع من المقطوعة الموسيقية المشغولة بالحجارة والأشجار والأنامل. وحيث لم تكن المسافة طويلة بين الفندق ومبنى أرينا الروماني، كما منزل جولييت، فقد توجهنا إلى المعلمين الشهيرين سيراً على الأقدام. وإذ أتاح لنا الأول أن نقف على عظمة المبنى الروماني الدائري الذي يتسع مسرحه لمئات المصارعين والمتبارزين، ومدرجاته لآلاف المشاهدين، حملنا الثاني إلى المكان المضاد، حيث شحذ وليم شكسبير المخيلة الإنسانية الجمعية بواحدة من أروع قصص الحب في التاريخ، وأكثرها حضوراً في القلوب والمخيلات. فوراء الأزقة التي تضيق شيئاً فشيئاً كلما توغلنا في أحشائها، ثمة عقد من الأقواس الحجرية ينفرج عن بهو واسع ينتصب عند نهايته تمثال برونزي لجولييت، فيما تطل من الطابق الثاني للمبنى الشرفة الشهيرة التي يقال إن روميو كان يقف تحتها، أو يتسلقها أحياناً، ليتبادل مع حبيبته حديث الحب، ويبثها شجون قلبه الملتاع. واللافت في الأمر أن الزائرين والزائرات كانوا يحرصون على ملامسة التمثال، والتقاط الصور إلى جانبه، بهدف التبرّك وتحقيق الأمنيات المضمرة، كما لو أن التبتل العاطفي الذي يلامس حدود الوله يكفي وحده لرفع العشاق المعنيين إلى رتبة القداسة.
كان أكثر ما ميز «الأصبوحة» الشعرية في اليوم التالي هو انعقادها في القاعة التاريخية التي عزف فيها موزارت إحدى مقطوعاته الموسيقية في مطالع صباه. وقد حرصت بلدية المدينة على وضع لوحة رخامية قريبة من خشبة المسرح، بغية تأريخ الحدث، وإبقائه راسخاً في الأذهان. وفي حين لم يتح لنا، نحن ضيوف المهرجان، أن نتابع مجريات الأمسية الافتتاحية التي شارك فيها عدد من الشعراء الإيطاليين، اقتصرت «أصبوحة» اليوم التالي على اللبنانيين وحدهم، بصفتهم ضيوف الحدث لهذا العام، فيما كان الحضور خليطاً من الإيطاليين والمقيمين الأجانب والمهتمين بالشعر والإعلاميين، وبينهم الإعلامية غابي لطيف والشاعرة ريم السيد، إضافة إلى بعض العرب المقيمين في المدينة، كالمترجم إدريس عميد والإعلامي إبراهيم خشاب. ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن الجهة الداعية حددت للمشاركين إطاراً عاماً لمضامين قصائدهم، يتصل بالسفر والغربة، وتمنت على الجميع الالتزام به. وإذا كان أمر كهذا يتنافى مع طبيعة الشعر، وحاجة الشاعر إلى أوسع مساحات الحرية، فإن ما قلل من مفاعيله السلبية مرونة العنوان، وانفتاحه على شتى التفاسير والتأويلات، واتصاله بجوهر الإبداع الشعري الذي يتطلب هجرة للكلمات من دلالاتها الأصلية باتجاه دلالات جديدة لم تكن لها في الأصل. وكان الشاعر اللبناني حسن عبد الله هو أول من استهل المناسبة، عبر قراءته لنصوص شعرية ونثرية متباينة المناخات، تميزت بقصَرها وبساطتها وطابعها الإنساني. وفي قصيدته «شمال الأشياء»، يقول عبد الله: «هل كان علينا أن نمضي قُدُماً نحو الشرق \ فنخْبط عبر شعابٍ توحي بمشقاتٍ كبرى ومَهالكْ؟ \ أم كان علينا أن نأخذ ذاك الدرب الذاهب غرباً \ حين نهضنا عند الفجر وأمعنّا في السير جنوباً \ ولماذا أهملنا من خطتنا البلهاء شمال الأشياء ْ\ حمقى ونكرر أخطاءً حمقاءْ \ لأناسٍ مروا من هذا الوادي الموحشْ». وقد اقتصرت قراءة هنري زغيب على قصيدة واحدة مطولة بعنوان «علبة التلوين»، يحاول الشاعر من خلالها استرداد ما خسره من براءة العالم وسحره المتواري، وهي تحكي قصة صبي ظل منذ طفولته يحلم بنجمة في علبة التلوين تنقله من قسوة الواقع إلى رحابة الخيال، ليعثر عبر الحب على نجمته المنشودة «وذات كنت ذاهلاً أذوق صوت لهفتي \ توقاً إلى سماءة جديدة \ أرى إليها نجمتي البعيدة \ تحركتْ من حلمي وباركتْني بالحياة نجمتي \ فصرتُ طفلاً أنتمي إليها \ مسترجعاً براءة التكوينْ». أما جمانة حداد فقد آثرت أن تقدم نصوصها في إطار مسرحي متداخل الأصوات. وفيما كانت صاحبة «عودة ليليت» تقرأ النصوص بالعربية، تولت إحدى الممثلات القراءة بالإيطالية. وفي بعض الأحيان، كانت القراءتان تتمان في وقت واحد، وتتخذان أبعاداً طقوسية تركت صداها الواضح في نفوس الحاضرين. ومما قرأته جمانة «أنا ليليت اللبوءة المغوية \ يد كل جارية وشبّاك كل عذراء \ ملاك السقوط وضمير النوم الخفيف \ لا ترياق للعنتي \ من شبقي ترتفع الجبال وتتفتح الأنهر». أما عيسى مخلوف القادم من باريس، حيث يقيم منذ عقود، فقد قرأ بنبرة هادئة عميقة، وصوت أقرب إلى التراتيل، نصاً نثرياً عن السفر، جاء فيه: «نسافر نحو المصائر غير المكتوبة - نسافر لنتعلم لغة الأشجار التي لا تسافر- لنلمّع رنين الأجراس في الأودية المقدسة- نسافر حتى لا نرى أهلنا يشيخون- ولا نقرأ أيامهم على وجوههم».
وقد اختتم الأمسية القاص الشاعر اللبناني ألكسندر نجار بقراءة نص بالفرنسية يتسم بقوة العاطفة والصدق الإنساني. وقد تناول فيه زلزال هايتي الكارثي الذي وقع قبل سنوات، حيث «عند انسدال الليل ارتعد المشردون في العراء \ لذكرى مدفونين أحياء لن ينتقم لهم أحد \ سلخهم عن وجه الشمس جلادٌ لا اسم له». وفي نهاية الاحتفال، فاجأ مؤسس الأكاديمية العالمية للشعر، محمد عزيزة، الحضور بإطلاق جائزة دولية للشعر، وأعلن عن منح الجائزة في دورتها الأولى للشاعر اللبناني هنري زغيب الذي عقب قائلاً إنه يهديها بدوره إلى زملائه الشعراء.
لم يكن لتلك الرحلة، على قصرها، أن تكتمل دون زيارة البندقية التي يعتبرها البعض، بتصميمها الفريد وهندستها الباذخة، إحدى أجمل مدن العالم، وأكثرها غرابة ومثاراً للدهشة. صحيح أن الساعات القليلة التي أمضيناها هناك لم تكن كافية للتعرف إلا على جزء يسير من معالم المدينة التي ارتبط اسمها بعشرات الكتاب والفنانين، بدءاً من شكسبير وكازانوفا وفيفالدي، وصولاً إلى توماس مان وعزرا باوند وسبيلبيرغ وفيليب سولرز وآخرين. ومع ذلك، فإن ما شاهدناه، خصوصاً من كانوا يزورونها للمرة الأولى، كان يكفي لرفد مخيلاتنا بزاد لا ينضب من وجوه الجمال وتجلياته. ففيما كنا نعبر الممر المائي الفاصل بين مداخل المدينة وأحشائها، كنا نحاول جاهدين أن نلتقط بالعين المجردة ما يمكننا التقاطه من القصور والكنائس والأقنية والجسور والأبراج. أما محطتنا الأبرز فكانت ساحة المدينة التي تضم فيما تضمه قصر دوكالو بنمنماته المبهرة، وكنيسة سان ماركو بأجراسها الشاهقة وجدرانها المذهبة المزركشة بالنقوش، إضافة إلى كثير من المعالم الأخرى. وقريباً منها، كنا نعاين عن كثب «جسر التنهدات» الذي يدين باسمه إلى سجناء المدينة الذين كانوا يطلقون من على الجسر المذكور، وخلال نقلهم من غيابة السجون نحو قاعات المحاكمة، سيلاً من التنهدات التي تعكس مكابداتهم النفسية العميقة، وتوقهم اليائس إلى الحرية. لا غرابة إذن في أن تكون البندقية مصدراً ثرياً للإلهام عند كتّاب ومبدعين كثيرين، إلا أن الكاتب الألماني الشهير توماس مان كان في روايته «موت في البندقية» أحد أعمق الكتّاب الذين كشفوا عن الوجه التراجيدي للمدينة، حيث الموت وحده هو مَن يُخرج الكاتب الكهل من مأزق التعلّق المرَضي بالمدن الساحرة، والجمال غير الممتلَك، والصبا الذي تتعذر استعادته.