بين الواقعي والسحري..
رموز فستان الزفاف في الأدب والرسم

عرس الفستان

فترة الربيع، مع بداية موسم الصيف تعج عادة بحفلات الزفاف ونادرا ما نجد أعراسا أو مناسبات زواج تعقد خلال فصل الشتاء لما يضفيه هذا الفصل من أجواء أقرب إلى الحزن منها إلى الفرح.
وخلال هذه الفترة كتبت على صفحتي الفيسبوكية بضع كلمات عن رونق ثوب العروس وأهميته الرمزية بالنسبة لكل أنثى في كل مراحل عمرها، ونشرت بضعة أعمال فنية جسدت العروس بثوبها الساحر مع أو دون عريسها.
وأبلغ تلك اللوحات تلك التي قدمها فن الواقعية السحرية، ثم أوردت ذكر إحدى الصديقات التي كانت تعلق أهمية كبيرة على ارتداء ثوب عرسها والاحتفال به وإن على نطاق ضيق ما لم يتحقق، فكان زواجها فاقدا لبهجته في أول فصل الشتاء. وما لبثت أن انفصلت عن حبيبها وما زالت إلى اليوم تحلم بارتداء “رموز” هذا الفستان الاحتفالي الذي لم يبهت وهجه على كوكب الحياة الأرضية إلى الآن.
جاءت التعليقات على ما نشرته بصدق اعترافي وولعي بسحر فستان العرس، مختلفة أهمها “لا بأس ألا ترتديه العروس على حساب أمور أهم”، و”لم أعط يوما أهمية ما لثوب العرس، فالمهم هو السعادة التي يحملها قلب العروس”.
غير أن القارئ لهذين التعليقين سيدرك مدى الأهمية المُبطّنة لفستان الزفاف، فـ”الأمر الأهم” يعود مرجعه إلى الفستان المُراد تعريته من هالات رموزه المُشعة وعلى الأرجح لاعتبار أن الإصرار على ارتدائه فكرة سطحية وغير دالة على نضوج الفرد.
نضوج مُتلازم مع وعيه البشري بقدر “الفناء” الذي يُكافح وسيظل يكافح ظهوراته المختلفة في حياته “الراشدة”، ومن مظاهر الفناء الأكثر شيوعا هو الملل والروتين والكدّ حتى الفناء.
وفي عالم يغصّ بالسوداوية المُتعاظمة والأحداث المؤلمة نحن في أشد الحاجة لأن نتيح لـ"الخرافة" غير الطفولية فرصة الاحتفال بمرافقتها المشكورة لحياتنا كبشر، ومن هنا تماما يأتي دور فستان الزفاف قادرا “بقدرة قادر” على تغييب أو التخفيف من وطأة الغيوم السوداء التي مُقدّر لها أن تعكّر صفو الحياة الأرضية، لأسباب ما زالت للبعض غير مُقنعة، وإن لليلة واحدة تماما كما حدث في الرواية التي أحبّ أن أسميها الرواية الخرافية/ الواقعية “سندريلا”.
وكيف لا أسمّيها هكذا وليس الواقع أقل خرافة من الخرافية والخرافة لا ترصع بأنوارها الضئيلة مسار حياتنا اليومية؟ كفانا فصلا ما بين الخرافة والواقع! جل الرموز المُعلقة على أطراف الثوب الاحتفالي كجواهر باطنية لم تخيطها “جنيات الغابة”، بل مشاعر الأهل والأصدقاء الصدوقين والأحباب، جلّ تلك الرموز لا يستشعر جماليتها إلاّ من صدّق الواقع ورحّب بالخرافة.
جل تلك الرموز لا يتعلق بعذرية الأنثى وكما ترى الأكثرية الساحقة من البشر، ولاسيما الذكور، جل هذه الرموز يصب في منطق “الصفحة الجديدة”، أي البداية لحياة جديدة -مع أو من دون تجارب سابقة- يُستدعى إليها بشكل شبه سحري “البياض” وما يرافق هذا اللون بمشاهد الخفر المدعوك بالرجاء والأمل، هذا إذا لم نستفض في الغوص والكتابة عن مغزى “الأمور الأكثر أهمية” التي جاءت في أحد التعليقات.
“أمور أكثر أهمية” هي محكومة -ولو كره الكارهون- بسحر الخطوة الأولى التي لها “بصرية” مؤثرة لا بد لها أن تتغلغل في الذات لتشعّ فرحا وابتهاجا بالأمل والرغبة في حياة سعيدة.
وكما يقول شاعر “الأرض” محمود درويش في قصيدته المؤثرة الواقعية/ الخرافية “يطير الحمام ويحط الحمام”، المطرّزة بالقلق والطمأنينة والفرح والحزن على السواء “وأختار أيامنا بيدي كما أختار لي وردة المائدة/ فنم يا حبيبي ليصعد صوت البحار إلى ركبتيّ/ إلى أين تأخذني يا حبيبي من والديّ/ ومن شجري، من سريري الصغير، ومن ضجري/ من مراياي من قمري، من خزانة عمري/ ومن سهري، من ثيابي، و من خفري/ إلى أين تأخذني يا حبيبي”.
أما التعليق الثاني الشائك والأكثر أهمية ودلالة من التعليق الأول الذي ورد على ما نشرته، وهو “لم أعط يوما أهمية ما لثوب العرس، فالمهمّ هو السعادة التي يحملها قلب العروس”، فهو تعليق ملغوم بالخيبة.
خيبة استطاعت ولو إلى حين أن تخنق عنصر الخرافة الذي حين يفنى تفنى معه كل أشكال الأمل المتعلقة بأثواب الزفاف وكل ما هو غيره بكثير، ونستشعر من تلك الكلمات المقتضبة والواضحة خلافا للتعليق الأول خوفا من أن ترتدي الخرافة، لاسيما إن لم يكن حصرا في عين الآخرين، رداء السذاجة المكروهة، وهي حتما كذلك، فالمهم حسب التعليق هو “السعادة في قلب العروس”، وكم هي فضفاضة كلمة “سعادة” ويُفضّل تعبير كلمة “فرح” بدلا عنها.
وكم يخالف هذا المنطق الملتوي ما قاله يوما، أيضا الشاعر محمود درويش في أن نجد “فرحا في شيء ما”، وهو عنوان لقصيدته الرائعة التي يقول فيها “ما لم يغنّ الآن/ في هذا الصباح/ فلن يغني/ فرحا بشيء ما خفيّ، كنت أمشي/ حالما بقصيدة زرقاء من سطرين/ من سطرين.. عن فرح خفيف الوزن/ مرئي وسرّي معا/ من لا يحبّ الآن/ في هذا الصباح/ فلن يحبّ!”.