عقوبات جديدة تنتظر أنقرة وترمب يترقب تغيير موقفها..
تحليل: لماذا منع الكونغرس الأميركي تركيا من اقتناء طائرة إف-35؟
ظلت الولايات المتحدة وتركيا حليفين على مدى ستة عقود، لكن السنوات الأخيرة شهدت خلافات وتوترات متصاعدة جعلت الكثيرين في واشنطن يعتقدون بأن العلاقات لن تعود كما كانت بسبب متغيرات كثيرة، أهمها نزعة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في انتهاج سياسات تصادمية مع المصالح الغربية والأميركية، وإصراره على استمرار تعقيد المشكلات في محيط تركيا الجغرافي، اعتقاداً منه بأنه يمتلك من أوراق اللعبة ما يكفي كي يغض الغرب الطرف عن أفعاله. لكن الأيام القليلة الماضية اتخذت منحى مختلفاً، بعد أن كشّر الكونغرس الأميركي عن أنيابه واتخذ سلسلة من القوانين والقرارات العقابية، كان آخرها تصديق مجلسي الشيوخ والنواب على قانون الميزانية الدفاعية للعام المقبل، والذي اشتمل على بند يمنع تركيا من اقتناء طائرة إف-35 الشبحية الأميركية، فضلاً عن بند آخر يرفع وللمرة الأولى منذ عام 1987 حظر تصدير السلاح الأميركي إلى قبرص، وهو ما يعد صفعة قوية على وجه أردوغان.
إصرار غالبية أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على منع تركيا من استلام طائرات إف – 35، يعود إلى أسباب عدة، أهمها عرقلة أي تحرك محتمل من إدارة الرئيس ترمب لتجاهل قرار وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون بطرد تركيا من برنامج طائرات إف – 35، الذي تشترك فيه دول كثيرة، وبالتالي عدم السماح بتصدير الطائرة إليها إلا إذا رضخت للمطالب الأميركية وأوقفت تشغيل منظومة الصواريخ الدفاعية الروسية إس 400.
أسباب عسكرية
ويواصل المسؤولون الأميركيون التأكيد على عدم السماح لتركيا بتشغيل الصواريخ الروسية إس 400 مع وجود طائرات إف – 35، خشية أن تستخدم أنقرة وموسكو نظام الصواريخ الروسي لمعرفة أسرار عن التكنولوجيا الحساسة للطائرة الأميركية، بما قد يعيق أو يحيّد عمل الطائرة الأميركية المتفوقة، خصوصاً أن العسكريين الأتراك بدأوا في الفترة الأخيرة في اختبار صواريخ إس 400 ضد طائرات إف - 16 الأميركية الصنع، وفقاً لما نشرته صحف دفاعية أميركية.
وكان الجنرال "تود وولترز" قائد القيادة العسكرية الأميركية في أوروبا، قد صرح إلى الصحافيين في واشنطن هذا الأسبوع قائلاً، إن "الولايات المتحدة لن تسمح بتعايش صواريخ إس 400 مع طائرات إف - 35 في تركيا"، كما فوّض المشرعون في الكونغرس لمسؤولي البنتاغون باستخدام 30 مليون دولار في تخزين ست طائرات إف 35 اشترتها تركيا واستخدمت في تدريب طيارين أتراك في قواعد جوية أميركية، قبل طرد تركيا من البرنامج بسبب عنادها في عدم التعاطي بإيجابية مع المطالب الأميركية، بما في ذلك طرح قدمته واشنطن يقضي بتخزين منظومة صواريخ إس 400 وعدم تشغيلها من جانب تركيا، إلا أن أردوغان استمر في سياسة التحدي وبدأ في تشغيل النظام الدفاعي الروسي.
قانون "كاتسا"
أحد أهم الأسباب الأخرى التي دفعت المشرعين في الكونغرس إلى معاقبة تركيا، هو ضرورة احترام القوانين الأميركية وتنفيذها، ومنها قانون مواجهة خصوم أميركا عبر فرض العقوبات المعروف اختصاراً باللغة الإنجليزية باسم قانون "كاتسا"، والذي يمنح الإدارة الأميركية مجموعة من الخيارات التي تتراوح بين العقوبات القاسية والخفيفة إذا اشترت دول أجنبية شريكة للولايات المتحدة معدات عسكرية روسية كبيرة أو مهمة.
ووجه عدد من أعضاء مجلس الشيوخ خطاباً قبل أيام إلى وزير الخارجية مايك بومبيو، يحذرون فيه من أن الفشل في تطبيق القانون سيعطي إشارة سلبية إلى الدول الأخرى بأنها تستطيع الإفلات من القانون الأميركي من دون توقيع عقوبات عليها، كما أشار أحد كبار موظفي الكونغرس إلى أنه إذا لم تتخذ إدارة ترمب قراراً بتطبيق قانون "كاتسا" فإن الكونغرس سيفعل ذلك بنفسه.
أسباب سياسية
ولا يُعد قانون الميزانية الدفاعية الأميركية لعام 2020 والذي سيطبق فور تصديق ترمب عليه، آخر جولات النزاع الأميركي التركي. فقد ضاق المشرعون المسؤولون الأميركيون ذرعاً بالممارسات السياسية السيئة الصادرة عن أنقرة، إذ صادق مجلس الشيوخ قبل أيام على قرار يعترف "بالمذابح التي ارتكبتها الدولة العثمانية ضد مليون أرمني عام 1915"، وهو ما كان مجلس النواب قد صادق عليه بأغلبية كاسحة وصلت إلى 405 أصوات ضد 11 صوتاً، ما يشير إلى مدى الغضب الأميركي من سياسات أردوغان بشأن التسليح الروسي، وكذلك بسبب غزو قواته شمال شرقي سوريا والهجوم على القوات الكردية المتحالفة مع القوات الأميركية في حربها ضد تنظيم "داعش" الإرهابي.
وعلى الرغم من أن قرار الكونغرس ليس ملزماً ولا يحتاج تصديق ترمب عليه، إلا أنه عكس مدى الاتفاق بين الجمهوريين والديمقراطيين في وجه ضغوط مارسها الرئيس الأميركي على الجمهوريين لعرقلة القرار، قبل أن يفشل في النهاية على الرغم من تصاعد حالة الاستقطاب الداخلي بين الحزبين الكبيرين بسبب إجراءات اتهام ترمب وعزله.
عقوبات أخرى
وما يؤكد مدى الإصرار داخل الكونغرس على المضي قدماً في سلسلة العقوبات ضد تركيا، والتي تشمل عقوبات اقتصادية وعسكرية من شأنها أن تدخل الاقتصاد التركي في دوامة عنيفة، قانون جديد للعقوبات صادقت عليه لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، يقول "جيم ريتش" رئيس اللجنة إنها سوف تردع تركيا عن شراء المزيد من الأسلحة الروسية وتساعد أيضاً على الاستقرار عند الحدود التركية السورية، معرباً عن أمله في أن يصادق مجلس الشيوخ بكامل هيئته عليه في أقرب وقت، لينتقل إلى مجلس النواب الذي كان قد دعا الرئيس الأميركي في نهاية أكتوبر (تشرين أول) الماضي، إلى فرض عقوبات على أنقرة بسبب غزوها شمال شرقي سوريا.
ومع ذلك فإن موقف الرئيس الأميركي تجاه العقوبات لا يزال غامضاً، فقد بدا أن ترمب الذي يشيد بأردوغان بين حين وآخر ويثير دهشة الإدارة والكونغرس، يريد أن يستنفد كل السبل ويعطي الأتراك فرصة أخيرة للتراجع عن العناد والتهديد، خصوصاً أن ترمب يعلم أنه من الصعب عرقلة العقوبات بفيتو رئاسي إذا صادق عليها المجلسان في الكونغرس، بالنظر إلى اتفاق الجمهوريين والديمقراطيين على معاقبة تركيا.
تهديدات فارغة
وبينما يحاول أردوغان تسويق فكرة أن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أخفق في منح بلاده نظماً دفاعية ضرورية لمواجهة تهديدات صاروخية في إيران وسوريا والعراق، وأن منظومة صواريخ إس 400 أصبحت الآن جزءاً من الترسانة العسكرية التركية، فإنه يسير في الوقت نفسه في اتجاهين متناقضين، أحدهما هو السعي إلى التوصل إلى أرضية مشتركة مع ترمب بما يُمكن تركيا من شراء منظومة صواريخ باتريوت الأميركية وإضافتها إلى منظومتها الدفاعية، والثاني هو تهديد الولايات المتحدة وحلف الناتو بإغلاق قاعدة إنجرليك الجوية القريبة من الحدود السورية وتستخدمها الطائرات الأميركية، وكذلك إغلاق منشأة كوريجيك العسكرية التي تعد محطة إنذار مبكر يستخدمها حلف الناتو للتجسس على روسيا وللدفاع ضد الصواريخ الباليستية.
ويشير مراقبون في واشنطن إلى أن الطريقين اللذين يسير فيهما أردوغان بلا أفق واضح، ذلك أنه لا توجد أية إشارة إلى أن الكونغرس يمكن أن يوافق على بيع صواريخ باتريوت إلى تركيا حالياً، كما أن التهديد بإغلاق منشأتين عسكريتين إستراتيجيتين يعكس نوعاً من التحدي الفارغ في مواجهة العقوبات المحتملة والتلويح بتعاون عسكري أوسع مع روسيا، خصم الولايات المتحدة وحلف الناتو، ذلك أن الأمور ستنقلب على رأس أردوغان إذا نفذ هذه التهديدات، وسيجد نفسه معرضاً للطرد من حلف الناتو ولعقوبات أميركية وأوروبية وسط محيط معاد له في الشرق الأوسط، بسبب تدخلاته المتزايدة في شرق المتوسط وفي سوريا وليبيا والخليج.
تقارب أكثر مع موسكو
وما يعزز اقتناع الغرب بمساعي التمرد التركي، هو توجهها للتقارب أكثر مع روسيا، إذ أشارت مصادر دفاعية أميركية إلى أن أنقرة تستعد حالياً لتوقيع اتفاق ينص على إنتاج مشترك للصواريخ مع روسيا وتلقي معرفة تكنولوجية لتطوير نظام دفاعها الصاروخي.
ويراقب الأميركيون عن كثب الإنفاق الدفاعي التركي الذي قفز بنسبة 65 في المئة بين عامي 2006 و2018 وفقاً لبيانات معهد ستوكهولم لبحوث السلام الدولي، المختص بدراسة نفقات الدفاع والتسلح حول العالم.
ولاحظ مراقبون أن الإنفاق الدفاعي التركي تزايد بوتيرة متسارعة عام 2018 مقارنة بأكثر 15 دولة شراءً للسلاح في العالم، إذ وصلت مشترياتها إلى 19 مليار دولار، وهو ما يثير تساؤلات حول طموحات أنقرة العسكرية مستقبلاً.
تاريخ من الخلاف
وبينما تبدو تصورات الغرب تجاه تركيا في حالة من الترقب والقلق، تشير السنوات الماضية إلى أن أنقرة الحليفة للغرب أصبحت شيئاً آخر، إذ اتسمت علاقاتها مع فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي بالتوتر، وأصبحت مصدراً للابتزاز، ولا تزال تهدد برفع القيود على تحرك أربعة ملايين لاجئ لديها باتجاه أوروبا، على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي دفع لتركيا 6.6 مليار دولار للإنفاق على ملايين اللاجئين المقيمين لديها.
أما العلاقات التركية الأميركية، فقد قطعت شوطاً أطول وأعمق من النزاع جسّده إصدار الولايات المتحدة عقوبات ضد بنك "خلق" التركي، الذي اتهمته واشنطن بالاشتراك في مؤامرة واسعة من أجل خرق الحظر المالي المفروض على إيران. ووفقاً لواشنطن فإن المؤامرة شملت عدداً من كبار المسؤولين في كل من تركيا وإيران من بينهم شخصان دانتهما الولايات المتحدة عام 2017 في محاكمة أثارت حنق أردوغان، الذي اتهم المسؤولين الأميركيين بمحاولة الإضرار بالمصالح الوطنية والاقتصادية التركية.
شرارة الخلاف
وسبق هذا الخلاف، نزاع آخر تمثل في رفض واشنطن تسليم رجل الدين التركي فتح الله غولن الذي يقيم في ولاية بنسلفانيا، ويتهمه أردوغان بتدبير انقلاب عام 2016، غير أن الرئيس التركي وحكومته فشلا في تقديم أية دلائل على صحة اتهاماتهم. كما اشتعلت الخلافات بعد اعتقال أنقرة القس الأميركي أندرو برانسون وموظفين آخرين في البعثة الدبلوماسية الأميركية في أنقرة، لفقت لهم تركيا تهماً بمحاولة الانقلاب وتهماً أخرى بالإرهاب، قبل أن يرضخ أردوغان في النهاية ويطلق سراح القس والموظفين الأميركيين بعد توقيع عقوبات اقتصادية أميركية موجعة على تركيا.
آخر النزاعات التركية - الأميركية، ظهرت في الفترة الأخيرة باتهام واشنطن بدعم خصوم أنقرة في شرق المتوسط، في نزاع حول مخزون من الغاز الطبيعي في المنطقة وسط توتر إقليمي لايزال يشهد قدراً من السخونة بسبب الأفعال التركية المدفوعة بأحلام أردوغان باستعادة أمجاد الدولة العثمانية التوسعية والتي عفا عليها الزمن.