للمخرج المغربي جمال بلمجدوب..
"امرأة في الظل" ممثل يقود مُخرجاً وأبطال مهووسون بالقتل

إمرأة في الظل
رفع المخرج المغربي جمال بلمجدوب من إيقاع السباق نحو الفوز بالجوائز الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم بمدينة طنجة، وهو يقدم عمله الجديد “امرأة في الظل”، مثلما رفع من سقف اشتغاله السينمائي، قياسا إلى أعماله السابقة، مثل “ياقوت” و”الحلم المغربي” وأعماله التلفزيونية الأخرى.
فيلم “امرأة في الظل” للمخرج المغربي جمال بلمجدوب توليفة بين نسخة مغربية جديدة من أفلام الإثارة والتشويق، وقصص الجريمة والتحقيق، وبين نسخة معدلة من سينما المؤلف، تراهن على السيناريو، بينما تعيد كتابة الأحداث بواسطة المشاهد والصور.
يبدأ الفيلم في ملجأ خيري، حيث تلتقي سارة، وهي ابنة رجل ثري، بسعيد، الذي عاش في هذا الملجأ الخاص بالأطفال المتخلى عنهم، إلى أن حصل على شهادات عليا، وإلى أن صار كاتبا، مثلما مر بتجربة زواج فاشل، على غرار سارة تماما.
في ساحة الملجأ تعانق سارة طفلا صغيرا لم يتجاوز السنتين، قبل أن تلتقي بسعيد، ليدخلا في عناق طويل قادهما إلى الزواج. وقد عاشا معا في فيلا فاخرة على ملك والدها.
مشكلة سارة أنها تعاني من مرض “الجاثوم”، وهو مرض نفسي يدفع المريض إلى النهوض من فراشه ليلا والتجول في البيت، وربما مغادرته، والقيام بأشياء كثيرة، دون أن يعي ذلك. كما تعيش سارة لحظات من الخوف، حتى في قلب النهار، لمجرد سماع حركة في البيت، أو لأي سبب كان. وهذا ما تمهد له موسيقى تصويرية معبرة ألفها يحيى بادوي ببلاغة لحنية قوية، مع تشكيل فني للإضاءة في هذا الفيلم. فمرة، تستيقظ سارة وتتصل بأمها وتخبرها أن زوجها يريد قتلها، ثم تعود إلى النوم، من غير أن تتذكر بأنها قامت بالاتصال.
وحين يأتي الأب والأم يكتشفان أن ابنتهما لا تزال تعاني ذلك المرض النفسي. وفي ليلة أخرى، تستيقظ سارة من نومها دون أن تستيقظ تماما، ويخيل إليها أنها تقتل زوجها، ثم تتصل بالشرطة، وتخبرهم بأنها قتلته. ثم حين يحل رجال الشرطة بالبيت يكتشفون أنها واقعة تحت تأثير المرض النفسي. في مقابل ذلك، يبدو زوجها سعيد هادئا، وهو يشتغل روائيا وكاتب سيناريو، تُترجَم روايته إلى لغات أجنبية، بينما يواصل نجاحاته الأدبية. وقد أغرته حالة زوجته سارة بكتابة سيناريو عنها، فشرع يدون على جهاز “الماك” فصولا من مشروع سينمائي يعيش تفاصيله في بيته، ومع زوجته بشكل يومي.
سيناريو قاتل
مرة أخرى، اقتنت سارة وشاحا لها وآخر مثله تماما لقريبتها التي تجمعها بها صداقة متينة. وقد حرصت صديقتها على ارتداء الوشاح حين كانت تزورها، تقديرا لهديتها الرمزية. ذات مرة، دخلت سارة إلى غرفة نومها، وأطلت تحت السرير فوجدت الوشاح، وصارت تتوهم وجود علاقة خيانة بين قريبتها وزوجها، ناسية أنها اقتنت لنفسها أولا وشاحا هو الذي عثرت عليه تحت
السرير.
كل هذه الأحداث كان الزوج سعيد يدونها ويحرر بها نص السيناريو الجديد، لكنه صار يختلق ويتخيل مسارات للشخصيات ومجريات للأحداث، فتوهم بأن سارة سوف تقتل قريبتها، وأن هذه السيدة لا بد أن تموت، فقام بقتلها فعلا، ودفنها في حديقة البيت. وقد أراد سعيد أن يوهم الشرطة بأن زوجته هي التي قتلت، وفقا للسيناريو الذي يكتبه. كما قرر أن يقتل
الزوج سارة في السيناريو، وفقا لمخطط السيناريو، دائما، فما كان له إلا أن أقدم على محاولة قتلها حقيقة، لكن رجال الشرطة كانوا قد حضروا إلى البيت، واكتشفوا جريمته، وجنونه الذي جعله يحاول تحقيق السيناريو وتطبيقه على أرض الواقع.
وكان سعيد منذ تعرف على سارة في مسبح الفيلا، قد حاول خنقها، قبل أن يخبرها بأنه كان يمزح معها ليس إلا. بينما عبر المشهد بمجاز سينمائي منسرح عن رغبة القتل تلك.
إذا كانت السينما خيالا متوقعا، حسب ستانلي كوبرك، فإن ما أراده بطل الفيلم، بوصفه مؤلفا روائيا وكاتب سيناريو، هو محاولة جعل ما يتخيله واقعا، لكن الأمر يصير غريبا فعلا، على نحو ما تقوله العبارة الشهيرة “أغرب من الخيال”. هذه العبارة المتداولة هي عنوان لفيلم أميركي أخرجه مارك فوستر سنة 2006، وهو يحكي قصة شخص يكتشف أن كل ما يحدث له يوجد في الأحداث الواردة في روايات كاتبة اسمها آنا باسكال.
وحين قرأ صاحبنا أعمال هذه الكاتبة اكتشف أن كل أبطالها يموتون في نهاية الرواية. لجأ المسكين إلى الكاتبة وطلب منها أن تغير من النهاية رأفة به، ففعلت، لكنها حين عرضت روايتها على صديق ناقد يقرأ أعمالها قبل أن تنشر، أخبرها أنه لا بد للشخصية الرئيسية أن تموت في النهاية، وإلا فإننا سنكون أمام رواية لا معنى لها، على حد تقييمه. كذلك، فقد تحمس سعيد لنص السيناريو، في هذا الفيلم المغربي، إلى درجة الجنون، فقتل الضحية الأولى، ثم أراد البحث عن نهاية قوية لروايته، تتمثل في قتل زوجته.
امرأة في الظل
يُسأل المخرجون عن كل تفاصيل الفيلم، ومن ذلك مسألة إدارة الممثل. ومع جمال بلمجدوب، في هذه التجربة الفريدة، أمكن الحديث عن إدارة المخرج. لقد اختار بلمجدوب ممثلة قوية لدور البطولة هي نادية كوندا، التي توجت قبل سنتين بجائزة المهرجان الوطني للفيلم المغربي وبجائزة أحسن ممثلة في مهرجان الجونة السينمائي في مصر.
كما اختار ممثلا محترفا هو يونس بواب، الذي حصل على جوائز مماثلة. هنا، وأمام براعته، وبراعة نادية كوندا، صار الممثل هو الذي يقود المخرج، ويمنحه فرصة لتقديم عمل ممهور بعناية، حيث ينحت الممثل دوره، بل يساهم في رسم باقي عناصر الفيلم ومكوناته.
هذا فضلا عن استعانة المخرج بكاتب سيناريو متمرس هو الكاتب جلال بلوادي، مع أن المخرج نفسه هو أستاذ لمادة السيناريو. وهنا نكون أمام “فيلم السيناريو” إن صح التعبير، حيث يتدخل في كتابة السيناريو ثلاثة متخصصين، أولهم كاتب سيناريو الفيلم جلال بلوادي، والثاني هو المخرج وأستاذ السيناريو جمال بلمجدوب، والثالث هو بطل الفيلم، الذي يؤدي دور كاتب سيناريو أراد لنصه أن يتحقق على أرض الواقع، فصار يسعى إلى قتل من يريد، متخيلا أن الواقع من حوله ما هو إلا فيلم سينمائي، وأن الناس المحيطين به ما هم إلا ممثلون يؤدون أدوار شخصيات روائية وسينمائية متخيلة.
اختار بلمجدوب ممثلة قوية لدور البطولة هي نادية كوندا، التي توجت قبل سنتين بجائزة المهرجان الوطني للفيلم المغربي وبجائزة أحسن ممثلة في مهرجان الجونة السينمائي في مصر
ألم يقل جون بودغيار إننا تحولنا في هذا العالم الاستهلاكي والافتراضي إلى مجرد ممثلين ضمن ما يسميه “مجتمع الفرجة”، وأننا لا نعيش هذه الحياة حقيقة، بل نكاد نؤدي فيها أدوارا فقط، كتبها لنا من يصنعون هذا الواقع ويرسمون مساراته حسب أهوائهم ومصالحهم الكبرى.
يمكن القول إن جمال بلمجدوب قد اشتغل على كل العناصر الفيلمية، لكنه ربما أهمل عنوان الفيلم، حين اقترح عنوانا دارجا ومستهلكا هو “امرأة في الظل”، وهو عنوان لروايات ودواوين شعرية عربية ومغربية، آخرها رواية للكاتب المغربي عبدالجليل الوزاني.
كما نستحضر ههنا فيلما بالعنوان نفسه للمخرج رالف فينس، يحكي أسرارا من حياة الكاتب الإنجليزي تشارز ديكنز، وعلاقته الملتبسة بالممثلة الشهيرة إيلين تيرنان، المعروفة بنيلي تيرنان. حيث يلمح الفيلم إلى حقائق أدبية تؤكد تمثل ديكنز لمعشوقته في العديد من الشخصيات التي رسمها في رواياته المعروفة، أمثال “قصة مدينتين” وأوليفر تويست” و”دايفد كويرفيلد”…
في نهاية الفيلم المغربي، تستقبل بطلة الفيلم سارة ذلك الطفل الصغير في بيتها، والذي عانقته في ملجأ الأطفال المتخلى عنهم، قبل أن تلتقي بسعيد. وهو الطفل الذي تمنت سارة أن تتبناه وترتضيه ابنا لها. لكن، هل كان من الضروري أن يكون الزوج سعيد “القاتل” قادما من الملجأ بالضرورة؟ لعل هذا من بين ما يحدث للمخرج حين ينشغل بالصورة.