انتشارهم أمس واليوم
ما لا تعرفه عن الزيود في شمال اليمن؟
ثورة الإمام زيد وأدعيته وتعاليمه ألهمت جماعات عديدة في تاريخ الإسلام. لقرون طويلة كانت خارطة انتشار الزيدية هي خارطة انتشار التشيّع نفسه، مثلما كانت الزيديّة حائلاً دون تحويل القسمة بين الشيعة والسنّة إلى قسمة مطلقة. وإلى اليوم، وبخلاف المتداول والشائع، لا ينحصر المذهب في اليمن وحدها.
يشكّل الزيديّون أكثر من ثلث سكّان اليمن. تنوّعت وتبدّلت على امتداد القرن الماضي النظرة إليهم، من الزاوية الدينية، مع تنوّع الحروب وتعاقبها في اليمن، وهي تقريباً نادراً ما انقطعت منذ نهايات الدولة العثمانية إلى المواجهة المستعرة في يومنا هذا.
الزيدية بين السنة والشيعة
تأرجحت النظرة التصنيفية بين احتساب "الزيود" شيعة معتدلة، ما داموا جماعة لا تقول بعصمة الأئمة، وشيعة على اشتباك أكثر من سواها مع السنّة، مع دامت لا تقول بالتقيّة، وتربط الإمامة بما يشبه "الثورة الدائمة"، من ثورة الإمام زيد على الخليفة الأموي هشام إلى ثورات أئمة اليمن الزيديين على العثمانيين، إلى الفترة الراهنة.
وثمّة من اعتبرهم أقرب إلى التسنّن في نهاية المطاف، خصوصاً في موقفهم من الصحابة والخلفاء الراشدين (ما عدا الفرقة الجارودية من الزيدية)، أو باعتبار التشابه الفقهي مع الأحناف. وثمّة من بالغ في التعامل مع الزيديّة على أنّها الشكل الذي اتخذته المعتزلة عبر التاريخ، والذي انتهى بها للتركز في الهضبة اليمنية.
تأرجحت النظرة إلى الزيديين بالتفاعل مع حروب اليمن أيضاً. حتى انقلاب قائد الحرس الملكي على الإمام محمد البدر بن حميد الدين في 26 أيلول 1962 كانت السلطة في اليمن لسلالة من الأئمة الزيديين. بعد الإطاحة بـ"المملكة المتوكلية" وإعلان الجمهورية قادت الإمامة المخلوعة ثورة مضادة مدعومة من السعوديين، في مقابل تدخل مصريّ لمساعدة الجمهوريين. الانقسام الزيدي - الشافعي تلوّن وقتها بالانقسام الملكي - الجمهوريّ، لكنه لم يتخذ طابعاً سنياً - شيعياً، والإمام الأخير لهذه السلالة التي حكمت اليمن توفي ودفن في المدينة المنورة.
اليوم، يظهر الصراع بشكل مختلف تماماً، وكحلقة من حلقات صراع اقليمي مذهبي سنيّ شيعي، رغم الاختلاف الواضح بين عقائد الزيدية وعقائد الشيعة الآخرين. فالشيعة الآخرون، "إماميّون"، كونهم يقولون بعصمة الأئمة، ما دامت الإمامة تنتقل بنصّ الهيّ، في حين أنّ الإمامة تنتقل بتدبير دنيوي يقتضي البيعة، بالنسبة إلى الزيدية، التي تقول في الوقت نفسه باستمرارية الإمامة، استمرارية ظاهرة، لا غائبة ولا مستورة.
الاحتدام السياسي والحربي يجنح مع ذلك للتقليل من راهنية هذا الاختلاف العقائدي، وللإيحاء بأنّ الاصطفافات اليوم تميل إلى تشكيل "نسق شيعي" في مقابل "نسق سني" على امتداد بلدان المنطقة العربية والشرق الأوسط، ما يجعل "الزيدية" جزءاً من نسق اقليمي مذهبي عام، أو الفرع "اليمني" من التشيّع.
وإلى حدّ كبير هذا ما تتضافر الأحداث والمحن لتحويله واقعاً شيئاً فشيئاً، بعد أن كان الواقع أعقد وأثرى من ذلك على امتداد القرون.
التنافس الزيدي الصفوي
بقي أنّ النظرة إلى الزيدية كما لو كانت خصوصية يمنية، تتجاهل أنّ الزيدية استمرت حتى القرن السادس عشر، منتشرة بشكل كبير في العراق وبلاد فارس وأقاليم شمال الهند، ومناطق من شبه الجزيرة العربية من خارج التراث الزيدي اليمنيّ، الذي أسّس له الإمام الزيديّ يحيى بن الحسين القاسم الرسيّ في مطلع القرن العاشر الميلادي.
لم يكن سهلاً ولا ميسّراً هذا التحدّي الذي واجهته الإمبراطورية الصفوية في القرن السادس عشر حين عملت، بعد تشيّعها الاثني عشري، على ثني الجماعات الزيدية العديدة، المنتشرة من خراسان وطبرستان إلى جنوب بحر قزوين، إلى العراق، عن "تشيّعهم الخمسي". السجالية الكلامية والسلبية الفقهية تجاه الزيديين في تلك الفترة تظهر ضراوة المعركة ضدّهم والتي لم تحسم في قرن واحد.
هل كان الزيديّون هم أكبر طوائف الشيعة قبل تشيّع الدولة الصفوية مطلع القرن السادس عشر؟ ثمّة أخذ وردّ حول الفرضية، متعذّر حسمهما. الواضح أنّ الدول التي قامت باسم التشيّع في مناطق بعينها من الهند وايران والعراق والجزيرة العربية قبل هذا التاريخ، (وكانت دولة البويهيين التي سيطرت لما يقارب القرن على عاصمة الخلافة العباسية بغداد من جملتها) كانت دولاً تعتنق سلالاتها الحاكمة المذهب الزيديّ، في مقابل الدولة الفاطمية، على المذهب الشيعي السبعي الإسماعيلي، وغيرها من تجارب الملك الإسماعيلي، من اليمن حتى أنحاء من إيران وأقاليم في الهند. إنّما لم تقم قبل الدولة الصفوية دولة شيعية على المذهب الإثني عشري.
حتى قيام الدولة الصفوية، كان معظم الزيديّين إذاً خارج اليمن، رغم كون اليمن نفسها قد تحوّلت في ذلك الوقت إلى معقل أساسي للزيديّة، على حساب الإسماعيليين الذين ضعفوا في الهضبة نفسها، واستمرّ نفوذهم في نجران، وما زالوا يشكلون قسماً مهماً من سكانها.
الإمام زيد كنموذج ثوري
وفي القرن العشرين، ومع التوظيفات الحديثة للتراث الإسلامي، استعيد وهج الإمام زيد كنموذج ثوريّ ملهم، خارج إطار المذهب الزيديّ. تقدّم لنا أعمال المفكر الشيوعي العراقي هادي العلوي نموذجاً على "إعادة الاعتبار" للإمام زيد بن علي "خارج الانقسامات المذهبية". جرى التعامل مع الافتراق بين الإمام الباقر وأخيه الإمام زيد، كافتراق بين يمين ويسار، أو بين خط إصلاحي تدريجي وبين خط انتفاضي ثوري.
ورغم أنّ تجربة الإمام الحسين هي التي استُحضرت كنموذج يؤسَّس عليه مفهوم الثورة عند أيديولوجيي الثورة الإسلامية الإيرانية، إلا أنّ نموذج الإمام زيد بقي حاضراً كنموذج "مكمّل"، منتزعاً هنا، بطبيعة الحال، من عقائد الزيديّة بخصوص الإمامة المستمرّة في الظاهر، وبخصوص الخلفاء الأولين والصحابة، ناهيك بالتراث السجالي القديم بين الفرقتين.
والتراث السجالي بين الفريقين لا يزال من الممكن الاطلاع عليه في بطون الكتب الكلامية والفقهية القديمة وحواشيها، من لقب "الرافضة" الذي يُعتقد أنّ زيد نفسه هو من أطلقه على مَن رفض الخروج معه في الثورة ضد الخليفة هشام بن عبد الملك، إلى لقب "الخشبية" الذي استخدم في الاتجاه نفسه، للتندّر على أنّ المتخلفين عن الانضمام لتمرّد زيد على الخليفة كانوا طالبوه بأنّ يقاتلوا معهم بسيوف من خشب، إلى نصوص سلبية في الاتجاه المقابل، تحرّم التزاوج أو المأكل والمشرب بين أتباع الفرقتين.
لأكثر من ألف عام ظلّ الصراع قائماً بين الشيعة الإمامية، التي ترى الإمامة معصومة، وبين الشيعة الزيدية، التي لا تقول بالعصمة، إنّما تقول باستمرارية سياسية لمؤسسة الإمامة المتحدرة من آل البيت. كان العراقان (عراق العجم - إيران، وعراق العرب - العراق) بكليّتهما مسرحاً لهذا الصراع الذي لم يُحسم قبل قيام الدولة الصفوية، ولم يحسم نهائياً قبل القرن الثامن عشر.
وحسمه يعني انتهاء وجود جماعات زيدية قائمة بذاتها في العراق وإيران، وإن بقي اتهام عالم دين بالزيدية قد استمرّ في البلدين إلى زماننا هذا.
الزيديون خارج اليمن
في المقابل، وخارج اليمن، ما زالت هناك جماعة زيدية على نمط خاص، تقيم في الهند وباكستان. عرفت بأسماء مختلفة عبر التاريخ الحديث، ويشار لها خصوصاً اليوم باسم "الساداتي بارا".
"الساداتي بارا" هي طائفة من السياد المنتمين إلى أهل البيت. من هنا اسمها (سادات). و"بارا" تعني "اثني عشر"، ويقدّم كذا تفسير لذلك. منها أنّ مؤسّس "الساداتي بارا"، السيد أبو الفرح الحسيني، قدم من واسط في العراق إلى الهند مطلع القرن الحادي عشر، مع اثني عشر من أبنائه. ومنها أن مواطن الطائفة هي اثنا عشر قرية في ناحية "مظفر ناغار" شمال الهند. ومنها أنّ الطائفة تجمع بين التزامها المذهب الزيديّ في الفقه، وفي تراث الأدعية المنسوب إلى الإمام زيد، وبين إقرارها بالأئمة الاثني عشر، وهو ما يفترض أن يكون قد حصل تحت تأثير دولة الشيعة الإمامية في "اوده" شمال الهند.
بعد الانفصال بين الهند وباكستان انتقل أغلب "الساداتي بارا" الى باكستان، إلى مدينة كراتشي بالدرجة الأولى، ومدينة لاهور بالدرجة الثانية.
ما أبقى على "الهوية الزيدية" لهذه الطائفة لم يكن عملها على إقامة دولة خاصة بها، بل امتيازها كطبقة شرفية علمائية من السيّاد المنتسبين الى آل البيت، والذين لعبوا دوراً مهماً وقريباً من بلاط امبراطورية مغول الهند (السلالة التيمورية - البابورية التي أسسها ظهير الدين بابر في منتصف القرن السادس عشر) التي اعتنقت الإسلام السني وقامت بفتوحات وغزوات باسمه. وفي أيّام أعظم أباطرة مغول الهند، أكبر شاه (ت.1606م)، كان قائد جنده سيد محمود خان بارا من الجماعة "الواسطية" (نسبة إلى واسط العراقية)، أي "الساداتي بارا".
"الساداتي بارا" هم أبرز طائفة بين زيديي الهند وباكستان اليوم. لكن هناك أيضاً "الساداتي بلغرام" (من هجرة حدثت في القرن الثالث عشر من واسط أيضاً)، وحيثيات أخرى أصغر حجماً وأكثر محلية.
الجامع المشترك هو أنّ كل طائفة من هذه هي طائفة تضم سيّاداً متحدّرين من آل البيت، وتنتسب الى هجرات حدثت في أوقات مختلفة من العراق. هذا بخلاف الشيعة الاثني عشرية والاسماعيلية وبخلاف الزيدية اليمنية، حيث تتسع الجماعة لسيّاد وغير سيّاد.
اختصار الزيدية المعاصرة بـ"الزيدية الهادوية اليمنية" (نسبة الى الامام يحي بن الحسين الهادي مقيم أول دولة زيدية في اليمن) فيه تسرّع. الزيديّون ما زالوا موجودين خارج اليمن من خلال جماعات السيّاد هذه في باكستان والهند، ورغم كل مغريات المقارنة البحثية بين هاتين الاستمراريتين لمدرسة زيد بن علي، فإنّ هذه المقارنة لم تحدث منهجياً بعد.