الإنسان والفكر والأخلاق..
قراءة: «الإنسانیةُ» واحتضان الفِكر الإبداعي في مجتمع سليم
الجِسْمُ السلیم لا یُمكن أن تتقاتل أعضاؤه- ارشيف
1- الأفكار الاجتماعیة لا تستمد شرعیة وجودھا من خارجھا ، ولا تتحقَّق خارج ذاتھا ، وإنما تستمد شرعیة وجودھا من تركیبھا الداخلي وشخصیتھا الاعتباریة ، وتتحقَّق واقعًا ملموسًا
على الأرض ، اعتمادًا على أحلام الناس وإفرازات البیئة المحلیة .
وھذا یعني عدم جدوى استیراد الحُلول الخارجیة ، ونسخِ تجارب الآخرین وتقلیدھم ، فكل مجتمع یُمثِّل منظومةً مُتفرِّدة لھا خصائص مُمیزة ، وصفات ذاتیة . لذلك ، لا فائدة من ارتداء الأقنعة، وتقمُّص الشخصیات الغریبة عن السیاق الداخلي للمجتمع، والمُتعارضة مع حركتھ الخارجیة.
وھذه الحقیقة تفرض على الأفراد والجماعات أن یتعاونوا من أجل إیجاد منظومة فكریة تُناسبھم ، وتتوافق مع طبیعتھم، وتتلاءم مع خصائص بیئتھم . وكُل مجتمع نھضتھ كامنة في أعماقھ ،
وصلاحھ متجذر في عناصره الداخلیة.
ومِن العبث أن یبحث الفرد عن حقیقتھ في مرایا الآخرین ، لأن الفرد شخصیة اعتباریة قائمة بذاتھا ، وھو أَصْلٌ ، فلماذا یُرید أن یكون نُسخةً
مُقلَّدة ومُزوَّرة ؟. ومِن العبث أن یبحث المجتمع عن شرعیتھ في الأمم والشعوب الأُخرى، لأن المجتمع كیان شرعي متماسك، وھو جَذر،فلماذا یُرید أن یكون ورقةً في مھب الریح؟.
2- لا یُمكن للمجتمع أن یجد ھُویتھ وماھیتھ إلا إذا بنى تفاصیلھ الوجودیة على قاعدة الالتزام القِیَمي ، أي : الالتزام بالقِیَم الإنسانیة، والمبادئ الفكریة، والسُّلوكیات الأخلاقیة . وھذا
الترتیب ضروري للغایة ، وھو یُشكِّل سیاقًا منطقیًّا تراتبیًّا . فالإنسانیة قبل الفِكْر والأخلاق ، لأن الإنسانیة ( النَّوَاة الأوَّلیة ) ھي وجود الشرعیة ، وشرعیة الوجود .
وإذا تجذَّرت
الإنسانیةُ كمنظومة اجتماعیة صُلبة ، استطاعت احتضان الفِكر الإبداعي ، والمُساھمة في انطلاقتھ ، ونشره في التراكیب الاجتماعیة الفردیة والجماعیة ، فالإنسانیةُ ھي الحاضنة
الأساسیة للفِكْر ، ووجودھا سابق علیھ .
لذلك ، یُوجد إنسان بدون فِكْر ، ولكنْ لا یُوجد فِكْر بدون إنسان . وإذا اندمجت الإنسانیةُ معَ الفِكْر ضِمن سیاق الوَعْي السلیم ، انتشرت الأخلاقُ
في المجتمع ، لأن الأخلاق نتیجة حتمیة للفِكْر الصحیح ، والفِكْرُ ھو أساس الأخلاق رُوحیًّا ومادیًّا ، ووُجوده سابق علیھا . لذلك ، یُوجد فِكْر بدون أخلاق ، ولكنْ لا یُوجد أخلاق بدون
فِكْر . وجمیع البُنى الأخلاقیة ھي بالضرورة أفكار اجتماعیة ، تَرْمي إلى صناعة إنسان حقیقي، قادر على بناء ذاتھ ومجتمعھ معًا، لأن الجُزء لا ینفصل عَن الكُل، والعلاقة بینھما
تكاملیة وتجاذبیة، أي إنَّھما یُوجدان معًا ، ویختفیان معًا .
وإذا انھارَ الفردُ انھارَ المجتمعُ ، وإذا تَمَزَّقَ المجتمعُ تَمَزَّقَ الفردُ ، والصراعُ بین الفرد والمجتمع في غایة الخطورة ، لأنَّھما
جِسْم واحد في سفینة واحدة . والجِسْمُ السلیم لا یُمكن أن تتقاتل أعضاؤه ، ولا یُعقَل أن تتصادم حَوَاسُّھ.
والصِّرَاعُ بین الرُّبَّان والبَحَّارة سَیُؤَدِّي إلى غرق السفینة حتمًا .
3 - إذا تَكَرَّسَ الالتزامُ القِیَمي _ جُملةً وتفصیلاً _ في تفاصیل المجتمع ، صارَ التواصل بین الفرد والمجتمع سھلاً ، وازدادت النقاطُ المشتركة بینھما ، وتقلَّصت الاختلافات ، وھذا یَدفع
باتجاه تكوین منظومة فكریة قائمة على الرأي والرأي الآخَر ، ضِمن سیاق المصلحة المشتركة ، والمنفعة العامَّة . ووَحدةُ الھدف لا تستلزم توحید المسارات ، وإنما تستلزم توحید الجھود للوصول إلى الھدف . ولا تُوجد مُشكلة في تعدُّد روافد النھر، ولكن المشكلة ھي تلوُّث
منبع النھر .
------------------------
كاتب أردني


