الحرص على لغة الضاد..

مجمع سلمان العالمي.. بناء هوية ثقافية تجمع بين الأصالة والحداثة

مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية

د. علي بن تميم
ارتبطت نشأة مجامع اللغة العربية في العالم العربي بلحظات تتسم بالحرص على لغة الضاد بوصفها مكونا رئيسا من مكونات الهوية الحضارية. فمنذ دخول الأتراك إلى العالم العربي سنة 1516 ، صارت اللغة التركية اللغة الرسمية، وتم إقصاء العربية فلم تعد لغة الحياة القادرة على التعبير عن تطورات الفكر والعلم في مناحيهما المختلفة.

لهذا لم يكن من الغريب أن ينشا المجمع العلمي العربي في سوريا عام 1919 بعد أن استقلت بلاد الشام عن حكم الأتراك ، وأن يتولى رئاسته محمد كرد علي الذي كان يريد للمجمع العلمي أن يكون على غرار الأكاديمية الفرنسية.
أما مجمع اللغة العربية في القاهرة فارتبطت نشأته عام 1932 بالاستنارة التي وضع محمد علي باشا أسسها وبدأت على يد رفاعة الطهطاوي . فمنذ عودة الطهطاوي من فرنسا عام 1834 بدأت حركة تعريب واسعة عن الفرنسية في " مدرسة الألسن "رافقتها بعد ذلك حركة إحياء للعربية تمثلت في التأليف في نحو العربية وصرفها ومعجمها مقابل سياسة التتريك التي أدت إلى إهمال العربية وضعفها.

توالت بعد ذلك مجامع اللغة العربية في العالم العربي فتم إنشاء المجمع العلمي العراقي عام 1947، تلاه عدد من المجامع في السعودية والإمارات ولبنان والأردن والسودان والمغرب والجزائر وتونس وليبيا.

ومن الجلي أن هذه المجامع تتفق جميعا على الاهتمام بالعربية والعناية بها وجعلها لغة العلوم والفنون ولغة الحياة المعاصرة .ويمكن لنا أن نقول إن هذه المجامع تهدف إلى ما يأتي:

أ) الحفاظ على سلامة العربية لتكون قادرة على النهوض بمطالب العلوم والآداب والفنون، وملائمة لحاجات الحياة المتطورة..

ب) النظر في أصول اللغة العربية وأساليبها، لاختيار ما يوسع أقيستها وضوابطها، ويبسط تعليم نحوها وصرفها، وييسر طريقة إملائها وكتابتها.

ج) دراسة المصطلحات العلمية والأدبية والفنية والحضارية وتوحيدها وكذلك دراسة الأعلام الأجنبية، والعمل على توحيدها.

 د) وضع معجم تاريخي للغة العربية، ونشر أبحاث متخصصة في تاريخ بعض الكلمات والتغير الدلالي لها.

هـ) تنظيم دراسات علمية للهجات العربية الحديثة.

و) بحث كل ماله صلة بتطوير اللغة العربية والعمل على نشرها ولا سيما بين الناطقين بغيرها.

ولا يبالغ المرء عندما يقرر أن قرار إنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يشكل منعطفا بارزا في جهود خدمة اللغة العربية في العالم العربي ، ويعود ذلك إلى أمرين:

أولاً تاريخ العربية الحافل في جزيرة العرب ، ففي المملكة نشأت العربية وتطورت وكانت لغة الشعر قبل الإسلام بكل ما ينطوي عليه من حمولات ثقافية ومعرفية ، ثم صارت لغة القرآن الكريم الذي صان اللسان العربي وحفظه.

وثانياً ارتباط هذا المجمع بالتحول الحضاري الجديد في المملكة الذي يسعى إلى بناء هوية ثقافية تجمع بين الأصالة والحداثة .إضافة إلى ما تمتلكه المملكة من طاقات وخبرة على المستويين البشري والمادي.

إن المسألة اللغوية في جوانب جوهرية منها هي مسألة هوية وثقافة ،لذلك قرر المجمع القيام بحملات إعلامية لتعزيز قيمة العربية ودعم إثراء محتواها.

وسيكون "مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية" نقطة انطلاق لتجسير الفجوة بين الثقافات والتواصل الحضاري، وإيصال المنظور الثقافي والاجتماعي للمملكة بما يتضمنه من حث على التعايش والسلام بين كل الشعوب وهو ما سيجعل المجمع منارة ثقافية على مستوى العالم، وسيكون لمخرجاته اللغوية والثقافية دور بارز في دعم وتعزيز اللغة العربية كما أنه يستهدف المتخصصين في اللغة العربية، والعاملين في مجالات التقنية وإنتاج المحتوى التعليمي، لمتعلمي اللغة العربية من أبنائها ومن غير أبنائها الناطقين بغيرها.
 
وقد عرف التاريخ العربي فترات لافتة للغة العربية لها دلالة مجتمعية قوية، لأنها تدل على مدى قدرة اللغة العربية على تلبية حاجات التعبير والتفاعل مع العصر وثقافته ووسائطه. فالحقبة التي تأسس فيها بيت الحكمة، تميزت بإغناء مفردات اللغة العربية وأساليبها لتعبر عن ثقافة مزجت بين علوم الدين والفلسفة والعلوم الطبيعية.

والمتأمل في أهداف المجمع ، يلحظ حرصه على أن يصبح مرجعية عالمية في العربية وتطبيقاتها من خلال تحقيق مجموعة من الأهداف هي:

نشر الأبحاث والكتب المتخصصة باللغة العربية، وإعداد الاختبارات والمعايير في اللغة العربية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة اللغة العربية، وصناعة المدوّنات والمعاجم، وإنشاء مراكز لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها.

إن تاريخ المملكة حافل بالمبادرات اللغوية الجادة التي قدمت الكثير للغة الضاد ، لكن إنشاء هذا الصرح الحضاري الكبير يؤكد أن المملكة تنظر إلى اللغة بأنها هوية وسيادة. والهوية اللغوية هنا تراكمية تقوم على الوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة، بمعنى أنها ليست هوية منعزلة ولا إقصائية. بل هي قابلة للتعايش.

وهذا يعني أن تكون هناك سياسة لغوية تصدر عن تدابير وتخضع للتخطيط من أطراف الشأن العام، ومن الناطقين بها، كي لا تتحول اللغة إلى عنصر موحد وجامع يرفض ثقافة الصراع والتفرقة والتنابذ والكراهية.

لقد قدمت المملكة الكثير لخدمة العربية ، ففي المملكة ستة معاهد حكومية منتشرة في مناطق المملكة وجامعاتها لتعليم العربية للناطقين بغيرها ، إضافةً إلى ما يزيد على الستين قسماً للغة العربية في الجامعات السعودية، والكثير من الملتقيات والجمعيات والكراسي والمبادرات والبرامج العلميّة والمراكز والجمعيات والصالونات الثقافية والأندية الأدبية.. وجوائز تقدر بعشرات الملايين من الريالات سنوياً.

لقد أجمع الدارسون أن إنشاء هذا المجمع قرار تاريخي بامتياز لأنه سيعزز دور المملكة الثقافي العالمي، وهو خدمة للعربية وتعزيز لمكانتها لأنه يتأسس في الموطن الأصلي للغة، وقد حرصت المملكة منذ تأسيسها أن تقدم جهودا كبيرة لخدمة للغة العربية ؛ وهذا المجمع سيوحد تلك الجهود وتلك الخدمات ويبرزها بصورة أكبر، وسيعمل على إبراز العربية وتمكينها بوصفها لغة مهمة في العالم، مع الاهتمام بإصدار المعاجم اللغوية الحديثة التي تصدرها بعض المؤسسات التعليمية أو المؤسسات الأخرى بين حين وآخر، ولذلك سيكون المجمع موحداً لتلك الجهود.

إننا في مركز أبو ظبي للغة العربية نسعد بهذا الصرح العلمي ، واثقين أننا جميعا سنصدر عن سياسة لغوية مدروسة تعي الخيارات في مجالات العلاقات بين اللغة والحياة في مجالاتها المتنوعة. فالسياسة اللغوية ، كما هو معروف، تنطلق من مبادئ ترتكز على التاريخ المشترك والهوية المنبثقة من كيانه واللغة المعبرة عن ثقافته ، كما أنها تصدر عن الثوابت الكبرى للغة وخصوصيتها. وفي ضوء ذلك يتشكل التخطيط اللغوي الذي يتضمن التدابير المعتمدة وآليات العمل لقراءة الواقع واستشراف المستقبل وتحقيق الأهداف.

وها يعني أن الهدف هو زيادة الوعي بقيمة العربية وأهميتها مع الحفاظ على التنوع الثقافي والتعددية اللغوية. فالتخطيط اللغوي وسيلتنا لتطوير العربية والنهوض بمستوى التعليم فيها وزيادة الوعي بها وبتراثها العظيم ومستقبلها المشرق. 
----------------------------------
المصدر| 24