قراءة في تاريخ الحركة الأدبية..
الحركة الأدبية النسوية.. ملامح التأنيث ودورة حياة التابو!

الحركة الأدبية النسوية - أرشيفية

لا تخفى على الباحث في المجال النسوي صعوبة هذا المسلك ووعورة تفاصيله، ابتداء من نشأة الحركة النسوية ومرورا بتحديد المفهوم ورصد الملامح ووصولا إلى المسارات التي اتخذتها هذه الحركة، والأدب النسوي الناتج عنها، وهذا ما أشار إليه علي كامل الشريف1 في مقاله الرواية النسوية الإماراتية في ضوء النقد النسوي (مريم الغفلي أنموذجا) المنشور في مجلة جامعة الشارقة 12/2017
ولا بد عند الحديث عن النسوية أدبًا أن نبدأ من النسوية حراكًا، كما توجز الكاتبة الأمريكية كاري إل. لوكاس مفاصل الحراك النسوي الغربي في ثلاث موجات:
الأولى: سنة 1848م حيث طالبت مجموعة من نساء المجتمع الأمريكي الحكومةَ الأمريكية بمساواة الأنثى بالذكر أمام القانون واجباتٍ وحقوقا، كما أنهن طالبن بشكل رئيس بحق التصويت والانتخاب وهذا ما تحقق لهن سنة 1919م، وسَرعان ما انتشرت أفكارهن في المجتمعات المظلومة التي تُعامل فيها المرأة بدونية وبأن عليها أن تتعلم بسكوت وخضوع وأن لا تتسلط على الرجل ولا تعلّمه لأنها منه وهو ليس منها كما في العهد الجديد في رسالة بولس إلى تيموثاوس2، وأن الرب عاقبها بآلام الولادة والمخاض جراء ذنبها في إخراج البشرية من الجنة سفر التكوين3، وأنه يمكن بيعها كـ ابنة4 كما في سفر الخروج أو كـ زوجة في سوق الماشية كما تشير مقالة بيع الزوجة في بريطانيا إحالة إلى ويكيبيديا 5 وهذا ما أضفى على مطالبهن صبغةَ شرعيّةِ المظلوم.
والثانية: كانت عقب نشر كتاب بيتي فريدان (أسرار النسوية) 1963م الذي سلط الضوء على أحقية المرأة في العمل واكتساب رزقها بعيدا عن مِنّة الذكور، ومشاركة الرجل في السلم الوظيفي الذي لا ينبغي أن تبقى بعض درجاته حكرا على الرجال، ووصولا إلى إعادة النظر في مفهوم الأسرة وقيمتها وإعادة النظر إلى العملية الجنسية في إطار أسهل وصولا وأكثر انفتاحا وأٌقل تقليديةً من السابق.
والثالثة: هي بتطور الحراك النسوي وتحوله إلى التمثيل السياسي الرسمي والرافد الرأسمالي الضخم وتأثيره على مفردات الثقافة السائدة داخل الحرم الجامعي وخارجه، وفي سوق العمل والحياة الاجتماعية عموما.6 خطايا تحرير المرأة
في هذا السياق يحدد النقد النسوي ما يمكن أن يسمّى أدبا نسويا، فعلينا أن نفرق بين ما هو "نسائي" وما هو "نسوي" كما تشير د. صبحة علقم في مقالها التشابه والاختلاف بين السرد النسائي والسرد النسوي7 وذلك أن السرد النسائي هو كل ما ينسب إلى النساء أو كل ما تكتبه المرأة وليس بالضرورة أن يكون نسويا، بل يكون نسويا حين يضطلع بأعباء الفكر النسوي ويسهم بفاعلية في رسم التمثيلات التحررية ويتبنى محورية المرأة.
كما يشير علي كامل الشريف8 أن (الأنثويّ) أيضا من الصعب أن يندرج تحت مسمى النسوية مقتبسا من سارة جامبل صاحبة كتاب النسوية وما بعد النسوية تعريف الأنثى "أنها من تمتلك الخصائص المميزة للهوية الجنسية مثل القدرة على الحمل" وأن (الأنوثة) "هي مجموعة القواعد التي تحكم سلوك المرأة ومظهرها"
هل سيكون من السهل الآن الحديث حول خصائص السرد النسوي؟ الذي سيدفعنا بالضرورة إلى تبني منهج مقابل للسرد الذكوري! يقول جورج طرابيشي: الرجل يكتب بعقله ويعيد بناء العالم، أما المرأة فتكتب بقلبها وتركز على المشاعر، وعليه فإن العالم هو المركز كما يمكن أن نسميه رواية الرجل، بينما الذات هي مركز الرواية النسوية"، وهذا التبسيط يعدَ مخلّا بتعقيد العلاقة بين العقل والقلب من جهة وبين العالم والذات من الجهة الأخرى، كما ترى
د. رزان إبراهيم في مقالها (في النقد النسوي إشكاليات وملامح)9 أن هذا يشبه التمييز في وصف الأشياء المادية بين الحجم والشكل، وكأننا نفترض احتمال أن يكون للشيء حجم دون شكل أو العكس! وتشير أن من يحاول إسناد الاختلاف بين لغة الجنسين إلى أسباب بيولوجية يعيد القضية إلى مربعها الأول المتطرف الذي يستخدمه الرجل لإبقاء المرأة متأخرة عنه، أو الذي تستخدمه المرأة لتجريم الرجل "فلا يمكن لأي امرأة أن تكون مجرمة، لأن الإجرام يحتاج إلى ذكورة" كما تقول نوال السعداوي في امرأة عند نقطة الصفر10
كما تشير د. رزان إبراهيم في مقالها ذاته إلى أن بعض الناقدات يعتقدن أن ثمة طريقةً خاصة لانتقاء الصور والمجازات عند المرأة تختلف عن تلك التي عند الرجل، فنجد مثلا صورة العصفور حاضرة بشكل لافت في السرد النسوي، وتنقل ماري إيجلتون في كتابها النظرية الأدبية النسوية أن ذلك قد يحال إلى سبب بيولوجي11، بينما ترفض هيلين سيكسوس هذه الفرضية وتقول إنها تعطي فرصة ملائمة لظلم المرأة واضطهادها كتاب إيجلتون ذاته12
ومن زاوية أخرى، يرى بعض الدارسين أن الأدب ينبغي أن يكون إنسانيا، وإنسانيا فقط، فهم يعترضون على التيار النسوي بأنهم يضيّقون الخناق على أنفسهم قبل الآخرين بهذه التسمية التجزيئية –أعني الأدب النسوي- ، كما يعترضون على تسميات أخرى كأدب الحرب والسجون وغيرها، وهذا في نظرهم إن تم تناوله في نطاق أوسع من الدرس الأدبي يحد من عالمية وإنسانية الأدب، ويمارس نوعا من الوصاية في قولبة الكتّاب والقراء على حد سواء.
وإذا أخذنا هذه الزوايا بعين الاعتبار تتشكل لدينا صورة عن مدى صعوبة قولبة السرد النسوي -أو الذكوري-، ومحاولة تتبع السمات اللغوية العامة وإبراز الخصائص المحدِّدة ودراسة الأسلوب العام، والحقيقة أن أغلب ما يتم تداوله لدى النقاد على أنه سمة لغوية عامة للسرد النسوي لا يعدو كونه سمةً لأسلوب الساردة عينها، أو السارد –على اعتبار أن النسوية الفكرية ليست حكرا على الإناث-. فإذا اقررنا بأن أغلب السمات اللغوية للسرد النسوي متوهّمة، فإن نقرّ بأن "السرد النسائي" تستحيل قولبته لغويا، ويصعب عزو الفوارق اللغوية بين الجنسين إلى البيولوجيا.
هل يعني ذلك عبثيةَ البحث عن محددات وخصائص للسرد النسوي؟ لا أظن،
لكنها على أية حال تسبح في فلك الموضوع لا اللغة، ولا يخفى على قارئ -فضلا عن الناقد المطلع- أن الكاتبات النسويات غالبا ما يدرنَ حول مواضيع محددة، على اختلاف لغاتهن وأساليبهن وتقنياتهن في العرض والحوار وتوظيف الأدوات الحداثية وما بعد الحداثية في بناء الرواية النسوية.
وقد يلجأ السرد النسوي إلى ما يشار إليه نقديا بـ "تضخّم الموضوع" للدلالة أو التأكيد على نسويته وتجنب وصفه بـ "الذكورة" أو "الأبوية"، وهذا ما قد يعود على النسوية الأدبية بالسلب، وذلك من خلال الاتكاء المفرط على المضمون على حساب التقنية والأسلوب من أسطرة وبوليفينية واستخدام الزمن السايكولوجي في بناء المشاهد وغيرها من التقنيات الحديثة التي ينبغي أن تأخذ مساحة أكبر في بناء السرد.
في حوار أجراه إياد الدليمي مع د. عبدالله إبراهيم ونشر في صحيفة قاب قوسين13 في 20/11/2010 أشار د. إبراهيم بإن للسرد النسوي ثلاثة أسس: نقد الأبوية الذكورية، واقتراح رؤية أنثوية للعالم, ثم الاحتفاء بالجسد الأنثوي. ويعلل حضور الإشباع الجنسي في السرد النسوي بأنه المعادل الموضوعي للرغبات التي لم تأخذ نصيبها من الاهتمام والرعاية الاجتماعية ويقول إن السرد النسوي فضح هشاشة المؤسسة الزوجية. ومن ملامح التأنيث في السرد النسوي فكرة الشباب الخالد، وتمثّل المظلومية. ويشير أنه من المبكر أن نقول إن لدينا سردا نسويا عربيا له قواعده ومحدداته.. كما أشار في الحوار ذاته ويدعم هذا في مواضع كثيرة من الجزء السادس -من موسوعته السرد العربي- الذي خصصه للسرد النسوي14
وأرى أن ثمة سمتين موضوعيتين تبرز في أغلب أشكال السرد النسوي وهما: التحرر، والأنا في أحد شكلين: التكبر، السعي لتحقيق الذات. ففي السيرة الروائية ( رحلة جبلية رحلة صعبة) للشاعرة فدوى طوقان تبرز هاتان السمتان بقوة، فهي ترفض دور إخوتها في الوصاية عليها وتحاول الانفكاك من قيد المحافظة والتزمت الأسري وتطمح للعيش في بيئة أكثر انفتاحا وأقل صرامة ومحافظة، وبالفعل ذهبت للعيش في بريطانيا حين سنحت لها الفرصة وأقامت علاقة صداقة مع شخص لم تصرح باسمه في سيرتها لكنها رمزت إليه بـ A... وهذا ما مثّل التحرر في سيرتها، أما الأنا فقد انعكست في صورة المثقفة الطامحة لتحقيق الذات، المستعلية على قريناتها غير المثقفات وغير القارئات، والقابعات تحت سطوة الذكور، حتى المعلمات في المدرسة كانت تنظر لهن على أنهن غير متحررات كما يجب، وقد ظهرت في بعض مشاهد الرواية بصورة المتكبرة!
وفي (رواية القرن الأول بعد بياتريس) للكاتب الفرنسي اللبناني أمين معلوف تظهر هاتان السمتان بوضوح أيضا، بداية من ملامح التأنيث في الانتصار الموضوعي لحق الأنثى في الحياة، ومرورا بتسمية القرن العشرين كاملا باسم ابنة البطل "بياتريس" ووصولا إلى نقد الثقافة الذكورية المتجذرة في غالبية الشعوب حسب وصفه. وتتجلى سمة التحرر في الانعتاق من الفكر الذكوري الذي يرى أفضلية الذكر، والفكر العنصري الذي يرى أفضلية الشمال على الجنوب، ويرى أن لا مشكلة في كوارث الشرق ما لم تؤثر على الغرب! ويتجلى تحقيق الذات من خلال شخصية كلارنس ومسيرتها المهنية، وتمسكها بمبادئها رغم فساد الصحافة والإعلام وسعيها الدؤوب لتحقيق هدفها في تحذير العالم من خطر ظاهرة تزايد عدد الذكور وقلة عدد الإناث.
ويرى البعض أن استخدام الحركة النسوية -بكل ما ينضوي تحتها من تسميات مشتقة- لمصطلح "النسوي" خرج عن المعادل الموضوعي للمساواة، واتخذ شكلا من الجندرة والتمييز على أساس فصليّ لا جمعيّ، فأصبحت النسوية غاية بذاتها بعد أن كانت وسيلةً للمساواة، وتشير إلى ذلك قوة الحراك النسوي في بلاد أقرت المساواة في دساتيرها وجعلتها أمرا واقعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا! ومع ذلك ما زالت المرأة الغربية مصرة على "النسوية" في عصر "المساواة"
وهذا ما يفتح أبوابا لأسئلة أكثر حساسية يوجهها البعض إلى كواليس النسوية، ما الذي تريده النسوية إذن؟! ما المحرّك الآن بعد وصولها لأعلى المناصب السيادية وتحقيق العدالة الاجتماعية؟ وما الدافع خلف الأدب النسوي الذي يراه البعض معول هدم في المجتمع؟
نشرت صحيفة الجاردين في 14/10/2010 مقالا للكاتبة النسوية نانسي فريزر بعنوان: "كيف تحولت النسوية إلى خادمة في يد الرأسمالية" فعمل المرأة يرفد السوق الرأسمالية بأعداد هائلة من الأيدي العاملة، كما يشكل موردا ماليا حكوميا من خلال الضرائب المفروضة على العاملات، كما أنهن يقبلن بأجور أقل من الذكور، فضلا عن استغلال أجسادهن في التسويق وجذب الزبائن وهذا ما كشف اللثام عما سموه فيما بعد "تسليع المرأة"، وتثير هذه القراءات سؤالا ملحّا: من المستفيد من المشهد النسوي الراهن؟وخاصة أن أعداد حالات التحرش والاغتصاب في ازدياد، وهذا ما أصدرت بشأنه وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية تقريرا عام 2014 عنوانه: " العنف ضد المرأة كل يوم، وفي كل مكان" والسؤال الذي يهمنا هنا ما موقع الأدب النسوي من هذا كله؟
ويزداد المشهد تعقيدا عند الحديث عما روته كاري إل. لوكاس عن رئيس جامعة هارفرد د. لورانس سومرز أنه قدم ورقة علمية عام 2005 يعزو فيها قلة التمثيل النسوي في مجال الرياضيات والعلوم في جامعات القمة إلى سبب بيولوجي، فقوبل بهجمة إعلامية شرسة وتم التصويت على حجب الثقة عنه، مما اضطره إلى الاعتذار مرارا ليغفر له الرأي العام تلك الزلة!
فيبدو أن ثورة النسوية على التابوهات أتت للبشرية بتابو رابع!
د. جوردان بيترسون في لقاء له في برنامج Skavlan Show نُشر على منصة YOUTUBE في 29/10/2018 يقول: " كلما كانت الدولة تميل للمساواة بين الجنسين أكثر زادت الفوارق الشخصية بين الرجال والنساء" ويشير إلى أن المشكلات ستزداد عند محاولة المقاربة بين الجنسين لأنهما مختلفان أصلا!.
--------------------
كاتب اردني