على أبواب صنعاء..
كيف حولت إيران اليمن إلى ساحة حرب مع السعودية؟
هبة المنسى (القاهرة)
فجر السادس والعشرين من مارس ٢٠١٥ كانت طائرات عربية تدك مواقع عسكرية فى اليمن، إيذانًا بانطلاق ما أطلق عليه «عاصفة الحزم»، لإعادة الشرعية فى اليمن بعد استيلاء «الحوثيين» على السلطة.
غير أن حركة السير لم تمض على طرق معبدة فى «التحالف العربى» الذى قادته السعودية إلى جانب «دول حليفة» ضمن «التحالف العربى» لم تنجح حتى هذه اللحظة فى إعادة الأمور إلى نصابها.
لم يعد الرئيس اليمنى عبدربه منصور هادى إلى قصره فى صنعاء، ولا تراجع «الحوثى»، ولا يزال على عبدالله صالح، الرئيس المخلوع، يرقص على «رءوس الثعابين». ثم إن وباء «الكوليرا» ينهش فى اليمن الآن مخلفًا مئات الضحايا.
هذه مأساة إنسانية وسياسية وعسكرية بكل المستويات، لا التحالف العربى نجح فى مهمته حتى هذه اللحظة ولا اليمنى عاد إلى حياته الطبيعية، فى بلد هدمت الحرب ما تبقى منه.
لماذا وصلنا إلى هذه النقطة؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه فى هذه الحلقات التى تتناول الوضع فى اليمن عبر سرد تاريخى يستند إلى تحقيق ميدانى عن نشأة الحوثيين وما الذى يمكن أن يفعلوه ثم نجيب عن السؤال الأصعب: إلى أين يتجه اليمن الآن؟!
الحوثى يتحدث عن أسلحة طهران وأنفاق صعدة
ما بين شقى الرحى يقبع اليمن بشعبه، فالصراع البارد الممتد ما بين إيران والسعودية، يتجلى اليوم فى أنصع صوره على أبواب صنعاء، والاتهامات المتبادلة بين الرياض وطهران حول دعم الأطراف اليمنية، ليست سوى دليل دامغ على أن فصلا جديدا من الصراع بينهما قد بدأ، بينما لا يريد الطرفان أن تصل الأمور إلى حد المواجهة المباشرة.
وعند احتدام المعارك، تتكاثر سحب الضباب، وتصبح كل الأسئلة مباحة، وحائرة، وبالتأكيد تبحث عن إجابات، ولعل أهم التساؤلات هو: هل حصل الحوثيون على مساعدات إيرانية بالفعل؟. مع الإرهاصات الأولى للحركة والحرب، من المرجح أنه لم يكن هناك أى دعم مادى أو معنوى، وهو ما يمكن استقراؤه من خلال عدة أمور، أولها ما صرح به كل من الحوثى الأب والابن عندما سألتهما حول تلك النقطة، فقد أكد بدر الدين الحوثى حينها أن علاقتهم بإيران تنحصر فى فراره إليها وقت الحملات العسكرية على صعدة.
فى حين كانت إجابة الحوثى الابن حول الأسلحة وكيف حصلوا عليها؟ ولماذا أقاموا الأنفاق إذا لم يكن فى نيتهم الانفصال بالمنطقة؟ وكيف استطاعوا الصمود فى مواجهة الجيش لمدة ٣ أشهر؟ هى أن الله يسر له «قليل القليل»، فالأسلحة موجودة بشكل طبيعى لأن الشعب كله مسلح، ولم يتم الضرب سوى ببنادق عادية بدائية، وليس بواسطة متاريس، أما الأنفاق فهى موجودة منذ حكم الإمام، والكل يعرف أن صعدة كانت مركز الإمام، وقال لى: «لك أن تتخيلى كم من الوقت يستغرق حفر نفق واحد داخل الجبل، إنه يحتاج إلى سنوات، أما فيما يتعلق بكيفية صمودنا، فالله هو الذى أعاننا على هذا الصمود».
قد يبدو الاستشهاد بحديث الحوثيين الاثنين ساذجا، لذلك فلننحّ شهادتهما جانبا، ولنذهب إلى ما قاله العميد جواس، حول كيفية قتل حسين الحوثى، فى المعركة الأولى عام ٢٠٠٤، وهو أن الحوثى كان فى معقله بـ«مران»، وفى ذلك الوقت كانت المعركة مباشرة، وجها لوجه، وعند الوصول إلى مخبئه الشخصى، يقول جواس «كنت قريبا منه وقام بإطلاق النار من مسدسه تجاهى، وأصبح الأمر مواجهة بيننا، من يستطيع القضاء على الآخر، وكان السبق لمرافقى بقتله، وتعرضت لإصابة فى قدمى اليمنى، وسمعت من يقول إننى قتلته بعد الاستسلام وهذا غير صحيح».
من الشهادة السابقة نعلم أن أداة حسين الحوثى كانت مسدسا، ومن زار اليمن يعلم جيداً أن الشعب كله مسلح، فهم ليسوا بحاجة إلى أسلحة إيرانية خفيفة، لأنها متوافرة بالفعل فى سوق الطلح، وأسواق السلاح فى مأرب، والعديد من تجار السلاح كانوا يمدونهم بها، إما تعاطفا معهم لأنهم زيدية، وإما لأنهم مرتبطون قبلياً بكثير من المسلحين.
أظن أنه مع بداية الجولة الثالثة من الحرب مع نظام على عبدالله صالح بدأ الحوثيون فعليا فى تلقى شىء من دعم إيران، لكن هذا الدعم لم يأخذ طابعاً عسكريا فى ذلك الحين، وإنما تبلور فى ثوب الإعلام.
فالطريقة التى تم بها تصوير المعارك بالحرب الثالثة تتجلى بها روح حزب الله، كما أن المنابر الإعلامية التى تشكلت بقيادة يحيى الحوثى، مهندس الحرب والشقيق الأكبر لعبدالملك، وهو بالمناسبة من كان يتولى الإنفاق على الحوثيين الفارين من نظام صالح، بدأت بموقع «يمن حر»، ثم قناة «المسيرة»، وقناة «الساحات» التى يديرها عضو من حزب الله فى لبنان، ويرأس مجلس إدارتها الشيخ سلطان السامعى.
يشير ذلك إلى أن بعضا من المال الإيرانى قد تسرب إليهم، رغم تأكيدهم لى أن تمويل تلك القنوات يتم من خلال تجار صعدة الأثرياء، وهو الأمر الذى يصعب تصديقه، نظراً للظروف الاقتصادية لأهل صعدة.
لقد ظلت علاقة الحركة بإيران محدودة حتى الجولات الأخيرة من الحرب، وحتى هذه اللحظات لم تبرهن الحكومات اليمنية المتعاقبة بقيادة على عبدالله صالح، أو عبدربه منصور هادى، على أى وجود لإيران على الصعيد العسكرى، والإعلانات المتكررة من جانب الحكومة اليمنية عن ضبطها قوارب إيرانية محملة بأسلحة ومتفجرات وصواريخ مضادة للطائرات متجهه إليهم، وعن اعتقالها لجواسيس إيرانيين لم تقدم أيا منهم لمحاكمة علنية أو حتى تعلن أسماءهم، ثم الإفراج عنهم بعد ذلك، كل ذلك هو نوع من الدعاية النفسية والشحن الطائفى ليس إلا، وأداة لتصفية حسابات سياسية.
فى المقابل استفادت طهران من هذه الدعاية المجانية للترويج لقدراتها الاستخباراتية، ولتظهر أمام العالم بأنها حامى الشيعة ومخلصهم، لتغطى على أزماتها الداخلية المتعددة، وهو ما عبر عنه يحيى الحوثى بقوله «كان صالح يردد هذه التهمة كثيرا، لجلب دعم أعداء إيران، وقد كان نظام إيران هو الآخر يحاول أن يستثمر تلك الادعاءات بأسلوب سياسى قذر، ولكن الحقيقة الثابتة هى أن نظام إيران لم يدعم حركتنا، بل على العكس، فهو يتآمر علينا، وعناصره لاتزال تمارس بث الشائعات المغرضة، فى محاولات فاشلة للتفريق بيننا، وأنا أتهم النظام بالاشتراك فى محاولة تسفيرى من سوريا، وتسليمى إلى على عبدالله صالح فى العام ٢٠٠٨».
«الملالى» من الدعم المعنوى إلى الانخراط المباشر فى الأزمة
النفى المستمر لا يؤكد الغياب التام لطهران عن ساحة الصراع، فهناك عدة قرائن تؤكد وجود دعم إيرانى، بدأ مع سريان اللهب على الأرض، فبعد اشتعال الأوضاع، دخلت طهران على خط الأزمة، وأخذت القضية منحى إقليميا عقب التدخل السعودى المباشر فى ٢٠٠٩.
وبالتزامن أعلنت إيران وبشكل صريح تأييدها للحوثى، كما طالب حسن نصر الله، زعيم «حزب الله» اللبنانى، بوقف «الحرب الظالمة»، وتبنت وسائل الإعلام الإيرانية عبر قنواتها الفضائية مثل «العالم» و«الكوثر»، المظلومية الحوثية، ولعل أبرز الشواهد على التدخل الإيرانى السافر فى اليمن كان من مستشار الرئيس هادى، الدكتور عبدالكريم الإريانى، الذى أكد أن الاتفاقات أثناء حصار الحوثى لصنعاء لم يكن يتم إقرارها قبل الحصول على مباركة إيران.
بعد انتهاء المواجهات فى ٢٠١٠، بين القوات السعودية والحوثيين، تدخلت بعض الأسر الهاشمية لتهدئة الأوضاع، واستمرت قيادات الحوثى فى نفى أى علاقة لها بإيران، وسادت علاقات ودية بين الطرفين يشوبها بعض الحذر، حتى تم إغلاق السفارة السعودية إثر استقالة الرئيس هادى وحكومته فى فبراير ٢٠١٥، حينها دخلت الحركة فى صراع مفتوح مع السعودية ودول الخليج.
وتم توقيع اتفاق بين الحوثيين وطهران لتوسيع وتطوير ثانى أكبر موانئ اليمن «الحديدة»، وفتح جسر جوى مع إيران لتسيير ١٤ رحلة أسبوعية، هنا استشعرت المملكة الخطر، وبدأ فصل جديد ذو طابع عسكرى، يهدف إلى تقويض التمدد الإيرانى فى اليمن، فى ظل مخاوف سعودية مشروعة ومبررة على أمنها القومى.
«عاصفة الحزم».. الرد العربى على مخططات «الشرق الأوسط الجديد»
صراع وجود.. هكذا تنظر المملكة إلى عاصفة الحزم، فهى ليست عملية عسكرية سعودية عابرة ضد الحوثيين، إنها جزء من المخاوف من الهلال الشيعى، كما وصفه هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، فى كتابه نظام العالم: «الصراع مع إيران بالنسبة إلى السعودية وجودى، إنه يشمل استمرار المملكة، وشرعية الدولة».
لا يمكننا أن نتجاهل تلك المخاوف، خاصة أن لها مبررات قوية، فقد اندلعت حرب صعدة بالتزامن مع خارطة الشرق الأوسط الجديد، التى تتبنى فكرة تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة على أسس طائفية، وبالنظر إلى محيط السعودية، ووفقا للمخطط، ستخرج المنطقة الشرقية الغنية بالنفط من تحت سيطرة الرياض، لكونها نقطة تمركز للشيعة السعوديين.
وبوصول الحوثيين إلى سدة الحكم فى اليمن، يصبح جنوب المملكة أيضا تحت لواء الشيعة، أى أن المملكة لن تجد لها سوى متنفس واحد، وهو البحر فى الغرب، مع وجود سبب آخر تخشاه الرياض، هو تصدير الثورة، الذى قد يثير الفوضى ويهدد استقرار المملكة.
والآن بعد مرور عامين على الحرب فى اليمن، هل نجحت السعودية وقوات التحالف فى تحقيق تقدم على الأرض؟ وهل كانت العمليات العسكرية هى الخيار الوحيد؟ أم أن بدائل أخرى تم إغفالها؟ هنا تقتضى الضرورة أن نعود إلى عام ٢٠٠٩، فعندما أرادت المملكة أن تحارب الحوثيين، وتدخلت بشكل مباشر خلال الحرب السادسة، استطاعت القوات الحوثية التوغل داخل جيزان، واحتاجت السعودية إلى ٣ أشهر من القصف المتواصل لدحرها، وطردها من المنطقة الحدودية.
الرهان على الضربات الجوية التى تقوم بها قوات التحالف، وأنها ستفقد الحوثيين توازنهم وتعيد السيطرة على الأوضاع، لم يتحقق منه سوى مزيد من الالتفاف الشعبى والجماهيرى حول مجموعة «أنصار الله»، فى ظل الهالة المقدسة المحيطة بالصراع، وتحول التوصيف من دعم الشرعية إلى «العدوان السعودى»، بعد تقديم الحوثى لنفسه باعتباره فصيلا سياسيا يدافع عن الوجود الزيدى أمام «الوهابية الدخيلة».
ما بعد القصف.. هل احتمالات التسوية لا تزال ممكنة؟
الطبيعة الجبلية لليمن تجعل من الصعب دخول أى جيش نظامى، ومع انتشار الخبايا والكهوف تصبح مهمة قوات التحالف شبه مستحيلة، وهو ما يدفع السعودية إلى الفرضية المهملة، وهى القبول بسلطة الأمر الواقع، فالحوثيون لن يعودوا مجدداً إلى كهوف مران، وكل المبادرات التى طرحت تؤكد أنه لا حل من دون الجلوس معهم.
والجماعة لن تتخلى مجددا عن حضورها السياسى فى الساحة اليمنية، وليس أمام المملكة سوى خيار التسوية، وإشراك الحوثيين بعد أن تأمن جانبهم، وتحصل على ضمانات دولية بذلك، فالجميع يقف عند نقطة الصفر، واحتمالات التقارب ممكنة كما حدث من قبل عبر وساطة الأسر الهاشمية فى حرب ٢٠١٠.
ويمكن للسعودية كذلك أن تستفيد من ورقة التباين الطائفى بين إيران والحوثى، فالمذهب الاثنى عشرى لم يتمدد بعد فى اليمن، وحالة التقارب الراهنة مع طهران تشوبها الشكوك، وناجمة عن تباعد الحركة عن السعودية.
آفاق الحل ليست بعيدة المنال إذا ما تم التوافق السياسى، مضافاً إليه فاتورة إعادة الإعمار، وقليل من التسامح المذهبى، فتغير المزاج اليمنى تجاه طهران وارد وبقوة، والشاهد هنا من التاريخ، فقد قاتلت قبائل زيدية مع المصريين ضد حكم الإمام، والآن توجد قبائل شافعية تحارب مع الحوثى، وأخرى زيدية تقف ضد جماعة «أنصار الله».
القضية على وشك الركود، والدخول فى دائرة الحرب المنسية فى ظل التوترات الإقليمية مع الدوحة، وهو ما ينذر بطول أمدها، ويزيد من تكلفة الإعمار، ومن تفاقم الأوضاع الإنسانية والاقتصادية باليمن.